صفحة تاريخ الكرة في مصر- فيسبوك
المقاولون العرب موسم 1983

هكذا يَرون التاريخ وهكذا يرْوونه

منشور الجمعة 2 فبراير 2024

التاريخ ليس حقيقة ما حدث، إنما هو رواية لما حدث. والفارق بينهما لا يعني أنَّ الرواية كذب، أو خرافة، أو خيال، أو أنَّ بإمكاننا حتى السماح لها بأن تصبح كذلك، بل فيما يمكننا بلوغه. من ثَمَّ، كيف نبلغه؟

نحن لا نستطيع أن نعرف حقيقة ما حدث، ولا ما يحدث، مهما حرصنا على ذلك. هذا بديهي. لكننا في الوقت نفسه نسعى للوصول إلى هذه الحقيقة، واستحالة بلوغها لا تعني العدول عن الطريق إليها، والطريق إليها طويلة وصعبة، تنتهي بنا دائمًا لإدراك أجزاءٍ منها، وبعض صورها.

هذه الأجزاء والصور نصوغها في رواية، يسمونها الآن "سردية"، والسردية محكومة بأطرنا المعرفية، وبنيتنا الذهنية، وانحيازاتنا، وهنا تكمن المشكلة.

نقطة معلقة في التاريخ

قبل أن ندع ذلك كله جانبًا، لنتحدث عن سردية انتشرت في السنوات الأخيرة تقول: في الثمانينيات، كانت المنافسة محليًا وقاريًا بين الأهلي والزمالك والمقاولون، والأخير فاز في ذلك العقد مرةً بالدوري ومرتين بكأس الكؤوس الإفريقية. ضمَّ الزمالك والمقاولون حينها عددًا من المحترفين الأفارقة المميزين، في الزمالك لاعب الوسط الغاني إيمانويل كوارشي، وفي المقاولون الحارس الكاميروني بِل أنطوان ولاعب الوسط الغاني عبد الرزاق كريم. ولم يكن في الأهلي من يوازيهم.

اتحاد الكرة اتخذ وقتها قرارًا خطيرًا بمنع اللاعبين الأجانب من الاحتراف في الدوري المصري، أو القيد في أيِّ نادٍ مصري، ونُفِّذ القرار بالفعل، ما أدى لحرمان الزمالك والمقاولون من لاعبيهما، الأمر الذي استفاد منه الأهلي.

كما ترى، هي سردية "منطقية"، سهلة، تتوافق مع انحيازات الكثيرين، وتتعارض مع انحيازات آخرين، كثيرين أيضًا. لذا يصبح مناط قبولها أو رفضها هو موقعك من التشجيع. ويصبح القبول كليًا، والرفض كليًا، وتضيع الفرصة لاختبار الرواية، لمَ الاختبار إن كنت جازمًا بصحتها أو قاطعًا في نفيها؟ هي إما حقيقةً وإما كذبًا، فلا مجال للتعامل معها كـ"رواية"، وهكذا يتسع الجدال، ويتوارى الفهم.

تعال نعتبرها رواية، ونختبرها، ونتساءَل أولًا عن "الثمانينيات". واحدة من آفات التعامل مع التاريخ هو النظر إلى فترات طويلة ممتدة وكأنها نقطة في الزمان، يوم أو أيام. لذلك نجدهم يقولون بسهولة "الثمانينيات"، "التسعينيات"، بل إن البعض يتعامل مثلًا مع عهد الملكية في مصر كوحدة واحدة، ويقارنه بدولة يوليو كوحدة واحدة بدورها، أو حتى فترة حكم جمال عبد الناصر، التي امتدت 16 عامًا.

نعود لكرة القدم في الثمانينيات، وسردية إلغاء احتراف الأجانب، فنجد أنَّ القرار نُفَّذ صيف عام 1985، أي في نهاية موسم 1984-1985، فهل كان المقاولون "وقتها" منافسًا للحد الذي يُخشى منه؟

يقول الواقع إن المقاولون مرّ بفترة زاهية في سنوات الثمانينيات الأولى، وهي فترة سبقت قدوم بل أنطوان وعبد الرزاق. تأهل المقاولون لنهائي كأس مصر موسم 1980-1981، ليتعادل مع الأهلي ويخسر اللقب بركلات الترجيح. وفي العام التالي، 1982، فاز بكأس الكؤوس الإفريقية، وكلُّ ذلك قبل قدوم المحترفين.

بل إن الثلاثية التاريخية التي هزم بها المقاولون نادي أفريكا سبور الإيفواري، وهو في طريقه إلى لقبه القاري الأول، سُجِّلت في مرمى بل أنطوان نفسه، الذي كان يومها حارس مرمى الفريق الإيفواري!


امتدت تلك الفترة الزاهية للمقاولون حتى أواخر 1983، عندما حصد لقبه الإفريقي الثاني، هذه المرة بوجود بل أنطوان وعبد الرزاق كريم، قبل أن تبدأ فترة تراجع واضحة، في وجود النجمين المحترفين، فخسر إفريقيًّا أمام الأهلي في وجودهما، وخسر كأس مصر في وجودهما، وفي موسم 1984-1985 المذكور، احتل المقاولون المركز الثامن في الدوري من أصل 12 ناديًا، في وجودهما!

لا علاقة إذن بين وجود اللاعبين في النادي، وصعود الفريق أو انحداره، رغم الاعتراف بتميزهما من الناحية الفردية. ولكنَّ كرة القدم لعبة جماعية، ومهما بلغت مهارة الفرد، ما لم يكن هناك فريق فلا فائدة منها.

أما الزمالك، فهو الزمالك، منذ كان المختلط، وحتى اليوم. القطب الثاني للكرة المصرية، يضم لاعبين ويترك آخرين ويبقى الزمالك، وكم من أساطير انضمت، وكم من أساطير غادرت، ولم يكن أيٌّ منهم فارقًا في ثقل الفريق، فما معنى استهداف لاعب، أيًا كان اسمه ووزنه، لدرجة استصدار قانون خطير كهذا لاستبعاده!

فضلًا عن ذلك، فإن موسم 1984-1985 المذكور، انتهى بحصد الأهلي كلَّ الألقاب الممكنة محليًا وقاريًا، الدوري وكأس الكؤوس الإفريقية وكأس مصر. فأين الضرر الواقع عليه لدرجة أن يتحرك بمساعدة المسؤولين في الكرة والدولة، لاستبعاد لاعب؟ 

لماذا مُنِع المحترفون؟

على أنَّ التعامل مع السردية، باعتبارها "رواية" تخضع للاختبار، لا حقيقة مجردة نثبتها أو ننفيها، يقتضي المزيد من قراءة السياق. فعند الاختبار وجدنا بالفعل قرارًا بمنع المحترفين الأجانب من الانضمام للأندية المصرية. فلنتحرر إذن من إطار السردية، الذي يحددها بـ"مؤامرة" ما، ونحاول فهم ما جرى بمعزل عن الرواية.

أول ما نكتشفه هنا هو أنَّ القرار لم يكن وليد لحظة تنفيذه، وتلك آفة أخرى من آفات تعاطينا مع التاريخ، وهي أننا لا نحاول معرفة كيف سارت الأمور، بالتالي نتعامل مع الأحداث الكبرى كما نتعامل مع الفترات، باعتبارها وحدة واحدة معلقة بلا سياق في خط الزمان.

ثورة 1919، لم تبدأ في 1919، ولم تنتهِ 1919، ولا هي مظاهرة اندلعت يومًا ما وكان لها تبعاتها ودمتم. لا يمكن اختصار حركة الضباط في صبيحة 23 يوليو 1952، ولا حراك المصريين في يوم 25 يناير 2011. حتى 5 يونيو 1967 و6 أكتوبر 1973. كلها حلقات في صيرورة ما، والقرار الذي بين يدينا لم يكن أوله في صيف 1985، ولا آخره بالطبع.

قرار منع ضم المحترفين الأجانب طُرح خريف 1983، في إطار أوسع تحدثت عنه في مقال سابق، وهو علاقة المنافسات المحلية بمنتخب مصر، الذي كان يمر وقتها بمرحلة إحلال وتجديد. وكان المفهوم السائد وقتها هو أنَّ هدف الدوري أولًا أن يكون مفرخةً للمنتخب، ولما تلاحظ سعي الأندية لضم محترفين أجانب ظهر القرار كمقترح.

تصريحات رئيس النادي الأهلي الراحل صالح سليم الرافضة لقرار منع ضم المحترفين الأجانب. مجلة الأهلي، 29 ديسمبر 1983.

الطريف أن أول نادٍ اعترض هو النادي الأهلي نفسه، الذي كان سبَّاقًا في تصور الأمر باعتباره مؤامرة ضده، فقد كان الأهلي أحدث المتعاقدين مع مهاجم غاني اسمه مصطفى الحسن، الشهير بجورج الحسن، وجورج هذا كان هدافًا لأمم أفريقيا 1982، من ثَمَّ كان المتوقع له أن يكون أبرز المحترفين جميعًا!

اعتراض الأهلي ورد على لسان صالح سليم نفسه، الذي ألمح حسب تصريحات نشرتها مجلة "الأهلي" عام 1983، إلى أن المقصود بالقرار هو استهداف الأهلي وعرقلة مسيرته إلخ إلخ. وتساءل صالح وقتها: لمَ لم يتحدث أحد عن منع المحترفين إلا عندما استقدم الأهلي لاعبه المميز؟ تلك كانت بضاعة الأهلي في التفكير، البضاعة التي ردت إليه بعد أربعين عامًا.

على أيِّ حال، انتهى النزاع بتحديد موسم 1984-1985 كآخر موسم للأجانب في مصر، وهو ما حدث بالفعل لسنوات خمس، قبل أن ينفتح باب الاحتراف مجددًا بعد سنوات، وهو أمر له حديث آخر. ثم تدور الأيام، وتظهر السردية الجديدة، فيغرق الجميع في تصديقها أو تكذيبها، وينصرف الجميع عن محاولة الفهم، ولنا الله!