ملك المجال العام
المنتخب المصري الفائز بأول نسخة من كأس الأمم الإفريقية سنة 1957

حين كان الدوري المصري "كوزموبوليتان"

منشور الجمعة 4 أغسطس 2023 - آخر تحديث الجمعة 4 أغسطس 2023

في الدوري المصري هناك لاعبون مصريون وآخرون "محترفون"، وكأن المصريين هواة! هذه التفرقة الغريبة ربما لا تبدو كذلك بالنسبة للعواجيز أمثالي، فدعنا نبدأ القصة من أولها.

عندما تشكل وعينا في سبعينيات القرن الماضي، كان اللاعبون في الدوري المصري هواة. هكذا كان تصنيفهم، على الأقل من الناحية القانونية. وهم لم يكونوا هواة لأننا مثلًا نجهل نظام الاحتراف، أو لأننا نرفضه، كلا البتة!

كانت هناك محاولات منذ الخمسينيات على الأقل، بل ربما مرت على الكرة حالات نستطيع وصفها بالاحتراف، وكان هناك لاعبون عملوا بعقود منذ العشرينيات، وكان نادي الترسانة في ذلك رائدًا؛ لكن كل هذا لم يفلح. لاعب في الدوري المصري كانت تعني "هاوي"!

بالطبع، لم يكن هذا النظام يسمح باستقدام لاعبين أجانب، الموضوع أوضح من أي شرح. وإن لم يمنع هذا ظهور بعض الأشقاء العرب، يعدون على أصابع اليد الواحدة، وليس كل الجنسيات العربية، بل رأينا فلسطينيين في الستينيات، إلى أن لم يعد مرحبًا بهم، وشاهدنا اليمني علي محسن، وبعض الأخوة السودانيين مثل قرن شطة والرشيدي العبيدي، وقلة وغيرهم.

إذن كانت قماشة الدوري المصري تعني أن لاعبه هاوٍ، حتى حدثت ثغرة في النصف الأول من الثمانينيات، نتيجة عدم تماسك أي نظام نضعه. تمثلت في استقدام بعض اللاعبين الأجانب بعقود احترافية كاستثناء على النظام العام وهو نظام الهواية. من هنا، أصبح اللاعب المصري يعني الهاوي، والأجنبي يعني المحترف، وظهرت هذه الحالات في المقاولون العرب ثم الزمالك والأهلي، مع تفاوت درجة نجاح كل نادٍ وكل لاعب.

كان الطبيعي أن يكون هؤلاء الأجانب المحترفون من إفريقيا السمراء، هم الأقرب إلينا، هم من يمكننا مشاهدتهم في المنافسات، هم من انتبهوا لفكرة الاحتراف وبدؤوا طريق تصدير اللاعبين. فشاهدنا إسماعيل ديفان، وبل أنطوان، وعبد الرزاق كريم في المقاولون، وكوارشي في الزمالك، وجورج الحسن في الأهلي، ثم رأينا تجربة فريدة في المصري البورسعيدي باستقدام لاعبين من إيران.

في 1985 يقرر اتحاد الكرة المصري إيقاف ذلك الاستثناء، والمنع البات لاستقدام أجانب أو عمل عقود احترافية في الدوري المصري. وقيل كلام كثير شعبوي عن أسباب ذلك المنع، لا يتسع المجال الآن لمناقشته، ما يهمنا هنا أنه لم يؤثر في الصورة التي تكونت، أو على الأقل وضعت بذرتها: مصري يعني هاوٍ، وأجنبي يعني محترف، هو غالبًا إفريقي.

مع مطلع التسعينيات، ومع تطبيق نظام الاحتراف لكل لاعبي الدوري المصري، كان الطبيعي أن تعود الأندية لاستقطاب الأجانب، وكانوا في الغالب أفارقة. وظلت المعادلة كما هي رغم الاتساع من حيث العدد، وبعض التنوع في الجنسيات، والانفتاح على شمال أفريقيا مثلًا، ما جعلنا حتى يومنا هذا نستخدم التعبير نفسه لوصف الأجانب وهو "المحترفون" أو "الأفارقة" أو المحترفون الأفارقة.

إذا نظرنا إلى الأمر من الناحية الثقافية والاجتماعية، فسنجد أن ذلك يعكس تركيبًا أحاديًا لخامة الدوري المصري؛ فهو لأبناء البلد. أما حاملو الجنسيات الأخرى، أو فلنقل أبناء الثقافات الأخرى، فظل تواجدهم محدودًا ومحددًا بأغراض وظيفية، وهو ما يتجلى في طبيعة حياة "المحترف" على أرض مصر، فمهما طالت إقامته، يبقى غريبًا، ولا مجال ليندمج في الثقافة المصرية أو يكتسب قدرًا من هوية البلد.

يأتي هذا عكس الدوريات الأوروبية الكبرى، وربما الصغرى أيضًا. ولننتأمل تجارب اللاعبين المصريين الذين انتقلوا للعب في الدوريات الأوروبية، ومدى تأثير الثقافة على اكتمال تجاربهم من عدمها. فالأمر في أغلب الأحيان لا يتعلق بالإمكانيات الفنية أو أي أمور تتعلق بكرة القدم، إنما يعتمد أولًا على مدى اندماجهم في ثقافة البلد المستضيف.

كان الدوري المصري ترجمة لمجتمع حيوي، تختلط فيه الأصول المختلفة وتندمج في ثقافة سائدة للجميع

قارن بين حالة محمد صلاح، أنجح تجربة مصرية، وحالات مثل عمرو زكي ومحمد إبراهيم وكهربا وإمام عاشور وغيرهم ممن لم يقلوا عنه كفاءة في بدايات حياتهم الكروية. لكن عوامل مثل الثقافة واللغة كانت حاسمة في استمرار صلاح وتطوره، مقابل عودة الباقين سريعًا لدوري القماشة الواحدة.

كم كانت دهشتي كبيرة عندما التقيت فلافيو وجيلبرتو وغيرهما من الأجانب الذين قضوا سنوات، لأجد أنهم بعد كل تلك الفترة التي قضوها في مصر يبدون وكأنهم كانوا يغادرون الملعب عقب كل مباراة إلى بلادهم. فمعرفتهم، ولا أقول اندماجهم، بالثقافة المصرية كانت دون الحد الأدنى، والتواصل مع المجتمع يكاد يكون معدومًا. فهم مجرد "محترفين"، قضوا وقتهم ومضوا.

هذه التفرقة الوظيفية بين المصريين والأجانب في الدوري تبدو طبيعية ومنطقية لمن يعيشون الآن، حتى من يبلغ منهم الستين أو السبعين من العمر، نتيجة السردية التي ذكرناها، التي بدأت في السبعينيات، لكن من يبحث في تاريخ الدوري يجد الأمر مدهشًا إلى أبعد حد.

بدأ الدوري المصري عام 1948 بتركيبة كوزموبوليتانية يتجاور فيها المصري واليوناني والإيطالي والسوداني وغيرهم من أبناء الجاليات المختلفة، وإن كانت الجاليات المذكورة هي الأغلب. والجدير بالذكر هنا هو أنه لم يكن هناك دور "وظيفي" لغير المصريين، فلا فرق بين مصري وأجنبي لا بكونه محترفًا ولا بأي طابع آخر، بل كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، يعاملون معاملة المصريين تمامًا.

كان الدوري أحد عشر ناديًا، منهم نادي "اليونان"، وهو بالكامل من أبناء الجالية اليونانية، أما القوام الأساسي لنادي بورفؤاد فكان كذلك من اليونانيين. وبينما ضمَّ النادي المصري البورسعيدي عددًا من الطلاينة، استقطب نادي الترسانة لاعبين من السودان، كان بينهم حمدتو أحمد أول هداف أجنبي للدوري المصري، وعبد الخير صالح وآدم الجراح، الذي أنجب محمد آدم فصار هو الآخر لاعبًا في الترسانة.

ثم حدث انتقال لبعض هؤلاء اللاعبين، فضم الزمالك عددًا من الطلاينة أشهرهم ألدو ومن بعده "بيبو" (وهو بالطبع غير محمود الخطيب). بل إن غزل المحلة في قلب الدلتا ضم ياني، الهداف اليوناني الذي أصبح فيما بعد أحد هدافي الدوري اليوناني نفسه.

كان الدوري المصري ترجمة لمجتمع حيوي، تختلط فيه الأصول المختلفة وتندمج في هوية واحدة وثقافة سائدة للجميع، حتى إن حارس مرمى منتخب مصر في أول نسخة لكأس الأمم الأفريقية عام 1957 كان براسكوس حارس مرمى بورفؤاد ذو الأصول اليونانية. ثم تغير كل هذا وأصبح اللاعبون لدينا إما مصري، وإما محترف.

إيييه! دنيا!