إحدى مباريات الأهلي والزمالك في الدوري المصري في أربعينيات القرن العشرين

جذور السبهللة.. من ينفق على الدوري العام؟

منشور الجمعة 6 أكتوبر 2023

بعيدًا عن تعقيدات الاقتصاد، فإن ألف باء الاستثمار هو الإنفاق لإنتاج سلعة ما أو تقديم خدمة ما، ثم حصد العوائد في نهاية رحلة الإنتاج أو التقديم هذه، ولا نظن بوجود استثناءات عن هذه القاعدة مهما ازداد تعقيد دورة رأس المال.

السؤال هنا: هل إقامة بطولة ما لكرة القدم سلعة؟

الإجابة: بالطبع. بطولة كرة القدم سلعة، فيلم السينما سلعة، الأغنية سلعة، الكتاب سلعة، تقريبًا كل أنشطة البشر يتداولونها كسلع، وإن اختلفت طبيعتها وطريقة تقديمها، والنظر إلى هذه الأنشطة وغيرها بمعزل عن هذا يؤدي بالضرورة إلى توقف إنتاجها مهما طال الزمن أو قصر، فهي سلع على الأقل في جانب منها، فلنتحدث إذن عن كرة القدم، تحديدًا عن بطولة الدوري العام.

لفهم جذور الموضوع ربما من المفيد العودة لانطلاق المسابقة عام 1948، محاولين الإجابة عن السؤال: من ينفق على البطولة؟ لأن من ينفق هو المسؤول، وعادة ما يكون هو المستفيد الأول. بقراءة لائحة أول نسخة للمسابقة، نجد عدة بنود تحدثت عن التنظيم الاقتصادي للمسابقة، أولها البند الخامس.

ينص هذا البند على "شرط" من شروط الاشتراك في البطولة؛ دفع مبلغ مالي قدرته اللائحة بعشرة جنيهات مصرية، وبحساب التضخم فهذا الرقم يساوي تقريبًا مائة وسبعين ألف جنيه بالقوة الشرائية للجنيه، بحساب سعر الذهب وقتها وحاليًا.

وهنا لنا ملاحظتان: الأولى؛ بغض النظر عن ضخامة المبلغ أو ضآلته، فمن يدفع لمن؟ الإجابة: النادي الذي وقع عليه الاختيار من قبل اتحاد الكرة للمشاركة في المسابقة يدفع للاتحاد هذا الرقم. أي أن الأندية هنا هي مصدر التمويل، وفي حال عدم الدفع "مقدمًا"، لا يمكن للنادي المشاركة في البطولة.

الملاحظة الثانية تتعلق بحجم مبلغ التمويل، وهو رقم ضئيل حتى مع مراعاة التضخم، فحصيلة المسابقة بالكاد تتجاوز المائة جنيه بقليل، أي أقل من مليوني جنيه حاليًا، بالتالي علينا أن نفكر في التزامات اتحاد الكرة المقررة حصيلة هذا التمويل.

تخبرنا اللائحة أنه لا شيء تقريبًا، الاتحاد ليس مسؤولًا عن مليم أحمر يخص تنظيم المباريات، فحسب البند السادس من اللائحة، النادي الذي يستضيف المباراة مسؤول عن كل نفقاتها بما في ذلك مصاريف انتقال الفريق الضيف.

تنظيميًا، على الفريق المُضيف دفع عشرين جنيه للفريق الضيف قبل المباراة ليتمكن من الحضور، وفي حال عدم الدفع تقع المسؤولية على عاتق الفريق المُضيف، الذي سيتولى بعد دفع الجنيهات العشرين، نفقات الحكام وتأمين المباراة وكل ما يتطلب لإقامها.

إمعانًا في تأكيد الأمر، ينص البند السابع من اللائحة على أن هذا النظام/القانون يسري حتى في حالة إقامة المباراة بين ناديين من نفس المنطقة، وربما كان مناسبًا هنا أن نتذكر الأسس التي جرى اختيار الأندية المشاركة بناء عليها، وأولها أن يكون من المناطق الثلاث التي تنشط فيها كرة القدم؛ العاصمتان (القاهرة والإسكندرية)، ومدن القناة.

هذه المنظومة تشير إلى فلسفة المسابقة، باعتبارها لا تحتاج إلى "استثمار" وإن احتاجت فهو مسؤولية الأندية

بناءً على اللائحة، فمثلًا عند إقامة مباراة بين الأهلي القاهري والأوليمبي السكندري في القاهرة، يدفع الأهلي للأوليمبي عشرين جنيهًا ليتسنى له الانتقال وخلافه، وهو ما يحدث إذا استضاف مثلا نادي السكة الحديد القاهري مثله. وعليه فإن كل نادٍ أصبح فعليًا مطالبًا بدفع مائة جنيه إضافية للجنيهات العشرة التي دفعها مسبقًا، نظير استضافة الأندية العشرة على ملعبه.

صحيح أن النادي سيسترد الجنيهات المائة عند حلوله ضيفًا على الأندية المنافسة، لكنه سينفقها في جميع الأحوال نظير انتقالاته. لاحظ أننا نتحدث هنا عن النفقات أولًا، أي التمويل، وحتى الآن فإنها جميعًا تقع على عاتق الأندية، دون إنفاق من قبل الاتحاد المنظم للعبة، أو من الدولة بالطبع.

ولا ننسى هنا أنه إلى جانب الجنيهات العشرة قبل انطلاق المسابقة، والجنيهات العشرين قبل كل مباراة يستضيفها، يتكفل النادي بـ"جميع مصاريف المباراة التي تقام على ملعبه"، حسب نص اللائحة، فهل هناك بنود ينفق اتحاد الكرة من أجل إنفاذها؟

بالطبع لا، حيث لا بثًا تليفزيونيًا، ولا سيارات لتقنية الفيديو، ولا أيًا من هاتيك الأمور التفصيلية التي أصبحت اليوم جزءًا من الكلفة الأساسية لإقامة أي مباراة. إذن لا يلتزم الاتحاد بالإنفاق على أي شيء، رغم حصوله على مبلغ (وإن كان ضئيلًا) في بداية الموسم.

ما يحصل عليه اتحاد الكرة ليس فقط الاشتراك الموسمي، بل له أيضًا نسبة من عائدات المباريات، التي تتلخص في كلمة واحدة؛ التذاكر. فلا إيراد سوى تذاكر مشاهدة المباريات في الملعب، وهذا العائد يوزع بطريقة نصت عليها اللائحة حينذاك.

الفريق المُضيف يسترد أولًا جنيهاته العشرين التي دفعها للضيف، ثم يحصل على 75% من باقي العائدات. فلو فرضنا أن حصيلة بيع تذاكر المباراة 120 جنيهًا، يحصل الفريق المُضيف أولًا على الجنيهات العشرين، ثم على 75 جنيهًا، نظير تحمله مصاريف المباراة، ويحصل النادي الضيف على 20 جنيهًا صافية، فيما يحصل الاتحاد على خمسة جنيهات.

الطريف أن اتحاد الكرة حدد ضمن بنود اللائحة سعر التذكرة حسب كل درجة من درجات المدرج، ولا يجوز للنادي المُضيف أن يرفعه أو يخفضه حسب العرض والطلب في السوق أو أهمية المباراة مثلًا. فإذا أراد نادي بورفؤاد مثلًا أن يفتح المدرجات لجماهيره في بورسعيد عند مواجهة الأهلي مجانًا أو بتذاكر مخفضة، لا يجوز له، وعليه دفع سعر التذاكر كاملة حسب السعر الذي حدده الاتحاد.

هذه المنظومة بالنسبة لي تشير إلى فلسفة أو رؤية للهيئة المنظمة للمسابقة، باعتبارها لا تحتاج إلى "استثمار" لتنظيمها، وإن احتاجت فهذا الاستثمار مسؤولية الأندية، ورغم ذلك فإنه لا مانع من الحصول على عائدات بعضها مقدمًا.

بالطبع، ليست هذه هي الصورة اليوم، لكنها لم تبتعد كثيرًا، ويبقى السؤال؛ إذا كان الأمر كذلك، فلمَ لا نعلن الأندية نفسها مالكة للمسابقة، وبالتالي تضع هي شروط إقامتها، على أن يبقى اتحاد الكرة لتسيير الأعمال؟ خاصة وأن هذا الأخير لا يمثل حصيلة تجمّع الأندية المشاركة في الدوري الممتاز فقط، بل كل أندية الجمعية العمومية، فيما تخص المسابقة المشاركين فيها فقط؟

المشكلة أن هذا السؤال سيجر سؤالًا آخر ينطوي على معضلة تاريخية، يخص الأندية الكبرى كالأهلي والزمالك والإسماعيلي والاتحاد والمصري؛ ملكيتها لمن؟ لمن؟