زمن الثمانينيات الجميل: أيام أبو غزالة (3-3)

منشور الخميس 25 فبراير 2016

سواء كان يعي الأمر أم لم يعه، تشابهت حياة المشير أبو غزالة كثيرًا  مع حياة مشير آخر، وهو عبد الحكيم عامر. كمثل عامر، كان أبو غزالة شديد التَدَيُن ويحرص على إظهار ذلك، جعل الجيش يتدخل بشكل مهيمن في الاقتصاد، وكان مشجعًا لكرة القدم، وحفلت الصحف الصفراء بقصصه مع النساء. وفوق ذلك، تمتع كلاهما بنفوذ سياسي ضخم موازيًا لسلطة الرئيس نفسه ومهددًا لها، وتعاظمت قوة أبو غزالة بعد أن قام بقمع تمرد قوات الأمن المركزي في عام 1986. نشبت حرب باردة بينه وبين الرئيس، هُزم فيها أبو غزالة على يد سياسات نشر الفضائح التي اتبعها ضده نظام مبارك.


زمن الثمانينيات الجميل.. أيام أبو غزالة (1-3)

وُلِد أبو غزالة بقرية بالدلتا لأب كان يعمل موظفًا في هيئة التليفونات، وكان التحاقه بالكلية الحربية – كمثل الكثير من ضباط الجيش في ذاك الوقت - هو سبيله للصعود الطبقي.  كثيرًا ما أصر المشير المُتدين على أهمية غرس القيم الإسلامية بين جنود القوات المسلحة، وكانت زوجته، السيدة أشجان، هي الوحيدة التي ارتدت الحجاب بين زوجات المسؤولين في الثمانينيات.[i] في حين ظهرت العديد من هؤلاء الزوجات جالسات إلى جوار سوزان مبارك في حفلات أعياد الطفولة ليستمعن معها لأغنيات صفاء أبو السعود ومحمد ثروت، لم تحظَ السيدة أشجان بمقعد قريب منها، أو ربما لم يكن لها مقعدٌ بالأساس.

كان تَدين المشير نتاجًا مباشرًا للبيئة الثقافية التي عاش بها، والموصومة بانتشار نفوذ الإسلام السياسي، مرتبطًا بأموال دول الخليج المحافظة. كانت الثمانينيات عقدًا ذهبيًا للإخوان المسلمين على وجه التحديد، إذ ترك لهم مبارك الباب مفتوحًا لحصد أعداد كبيرة من المقاعد في البرلمان، واختراق النقابات المهنية للسيطرة على انتخاباتها ومجالسها، وبناء المدارس الإسلامية ومدارس اللغات الخاصة للطبقات الثرية المحافظة حديثة الصعود بفضل عملها بالخليج، وإنشاء البنوك وشركات توظيف الأموال الإسلامية التي استهدفت تحويلات العاملين من الطبقات الوسطى والدنيا والمتجهين بدورهم أيضًا نحو التدين المحافظ بدول الخليج، وبناء العيادات الإسلامية لعلاج الفقراء ومن ثم حصد أصواتهم في الانتخابات، وجَعْل أكبر عدد ممكن من نساء جميع الطبقات يرتدين الحجاب. تزوجت ابنة أخت المشير من قيادي في جماعة الإخوان، وهو مختار نوح، والذي مدح تدين المشير وحرصه على الصلاة.[ii]

في حين كان المثقفون من التيار الإسلامي يحبون أبو غزالة، كان المثقفون اليساريون شديدي النقد له. على سبيل المثال، قام الصحفي الإسلامي محمد عبد القدوس بمساندة المشير عندما تعرض لحملة هجوم بشأن موازنة الجيش ومشروعاته الاقتصادية في صحف المعارضة، وقام بنشر مقالة يقدم له فيها التحية على إحجامه عن نقد التيار الإسلامي كغيره من المسؤولين، وألقى الضوء فيها على حجاب زوجة المشير.

وعلى الجانب الآخر، انخرط الكثير من الكُتّاب على صفحات جريدة الأهالي اليسارية وقتذاك في استجواب المشير حول الزيادات الكبيرة وغير الشفافة في موازنة الجيش، وحول انخراط القوات المسلحة في مشروعات تجارية بهدف التربح، واستيلائها على مساحات شاسعة من الأراضي وبيعها لحسابها أو بناء مشروعات مربحة عليها بغير وجه حق، فضلًا عن اعتماد المشير الكامل على التسليح الأمريكي وما ترتب على ذلك من خلق وضعية تابعة للجيش المصري للولايات المتحدة، وتراكم الديون العسكرية الضخمة عليه. وقاموا أيضًا بنقد حضور المشير لاجتماعات الحزب الوطني، في حين أنه لم يحضر اجتماعات أية أحزاب معارضة أخرى.[iii]

بعيدًا عن نفوذه السياسي وهيمنته الاقتصادية، كان المشير عاشقًا لكرة القدم، ومعروف عنه أنه كان يشجع النادي الأهلي، بعكس عامر الذي كان متعصبًا للزمالك. كان المشير يحضر المباريات بنفسه واحتفظ بعلاقات شخصية طيبة مع النقاد الرياضيين، وكان يستقبل أعضاء مجلس إدارة النادي الأهلي في مكتبه بوزارة الدفاع ويلبي طلباتهم. كان مبارك توقف عن حضور مباريات كرة القدم، بعد أن دفعه حظه العاثر لأن يكون حاضرًا في العديد من هزائم الأهلي  وتم وصمه بأنه فأل سوء على الفريق، ولكن استمر أبو غزالة في حضور المباريات. بعد أن تمت إقالة أبو غزالة من منصبه، حاول التقدم بطلب عضوية نادي الزمالك مع النية لأن يخوض انتخابات رئاسة النادي، ولكن رفض مجلس إدارة النادي طلبه تشككًا في ولائه له.[iv]

 

عبد الحكيم عامر

عندما أسند مبارك للمشير مهمة قمع انتفاضة جنود الأمن المركزي في عام 1986، طرح الكثيرون السؤال الملغز: لماذا لم ينتهز المشير الفرصة ويقوم بانقلاب عسكري يستولي به على الحكم؟ في يوم 25 فبراير/شباط من هذا العام، اندلعت مظاهرات عنيفة بين جنود الأمن المركزي في أحد معسكراتهم بالجيزة، وهم المجندون ذوو المستويات الدنيا من التعليم بالجيش والذين ترسلهم القوات المسلحة لوزارة الداخلية لاستخدامهم في قمع المظاهرات. قاموا هم أنفسهم بالتظاهر بعد أن انتشرت الشائعات أنه سيتم مد خدمتهم الإجبارية وهي ثلاث سنوات لعام إضافي، وأيضًا احتجاجًا على الظروف غير الآدمية التي يعيشون فيها في المعسكرات وقمع الضباط لهم.

انتشرت حالة التمرد لمعسكرات أخرى، ولمدة ثلاثة أيام كاملة، قام ما يزيد عن 10,000 متمرد بتدمير وإشعال النيران في فنادق فخمة بمنطقة الهرم واقتحموا سجن طرة وأطلقوا سراح من فيه، وقاموا بتخريب في منطقة المعادي المجاورة. سرعان ما تم إعلان حظر التجول وانتشرت دبابات الجيش في شوارع القاهرة الكبرى، وقامت طائرات الهليكوبتر الحربية والمدرعات بالقضاء على حركة التمرد وقتل الكثير من المجندين والقبض على آخرين. في حين لم ينجح وزير الداخلية آنذاك في القضاء على التمرد وتمت إقالته، وحده قام المشير بإنقاذ النظام. لكنه لم يطمح لاستغلال سطوته التي انتشرت سمعتها دوليًا، وحتى الآن لم يصل أحد لإجابة السؤال العصي حول عدم إطاحته بمبارك عندما تيسر له الأمر وكانت دباباته تحتل شوارع القاهرة.[v]

علاقات نسائية

انتشرت الشائعات حول علاقات المشير القوي المتدين النسائية، ومنها قصة زواجه السري من صفية العمري، البطلة الحسناء لمسلسل ليالي الحلمية المعروض آنذاك—تم إنتاج الجزء الأول من المسلسل في عام 1987. عندما تزوج عامر المشير المتدين من برلنتي عبد الحميد، لم تكن برلنتي نجمة شباك أولى وكان يتم تصنيفها كممثلة إغراء، ولم تكن صفية أيضًا نجمة شباك واقتربت بعض أدوارها للإغراء، في جميع الأحوال تميزت كلتاهما بصبغة الشعر الصفراء والمكياج الصارخ.

لم تكن نازك هانم السلحدار - شخصية صفية في ليالي الحلمية- من مؤيدي نظام يوليو العسكري على أي حال، فهي بنت الباشوات التي رحلت من البلد بعد أن استولى عليها ضباط الجيش واختارت أن تعيش في منفى اختياري بباريس، ولكن في المقابل تزوجت صفية ضابطًا- بحسب شائعات علاقتها بالمشير.[vi] عندما تمت إقالة المشير من المنصبه، أشارت صحيفة الإندبندنت البريطانية لقصته المزعومة مع صفية العمري.[vii]


زمن الثمانينيات الجميل.. أيام أبو غزالة (2-3)

وجدير بالذكر هنا أن قصة حياة المشير مرتبطة بمسلسل آخر راجت شعبيته في ذاك الوقت، وهو مسلسل رأفت الهجان الذي أُنتج أول جزء منه أيضًا في عام 1987. ففي حين كان المشير يخطط لتهريب تكنولوجيا صواريخ أمريكية عبر مطار قرب واشنطن (راجع الجزء الأول من المقالة)، وقام بتجنيد مهندس صواريخ مصري يعيش في الولايات المتحدة في تلك المهمة، وفي النهاية تم القبض على هذا المهندس واعترف بتفاصيل العملية السرية أمام المحاكم الأمريكية وتم حبسه، كان مسلسل رأفت الهجان جاري عرضه في التليفزيون المصري في الفترة ذاتها، ليحكي قصة قيام جهاز المخابرات العامة المصرية بتجنيد وإرسال جاسوس مصري لإسرائيل. في حين نجحت مهمة ضابط المخابرات محسن ممتاز بامتياز في عالم الخيال بالمسلسل، فشلت عملية المشير أبو غزالة في عالم الواقع.

وأخيرًا في يوم 16 أبريل/نيسان لعام 1989، قام مبارك بإخبار العالم أنه أقال وزير دفاعه القوي الذي ورثه من سلفه السادات، وقام بتعيينه في منصب "مساعد الرئيس"، وهو مجرد منصب شرفي بعيد كل البعد عن منصب "نائب الرئيس" الذي كان يتوقعه الجميع لأبو غزالة وكان من المفترض أن يؤهله لخلافة مبارك. ملأت أخبار إقالة المشير الصحف الأجنبية، والتي ربطت بين القرار المفاجيء وبين جريمة تهريب تكنولوجيا الصورايخ التي تورط فيها أبو غزالة قبل أقل من عام.[viii]

 

مبارك وأبو غزالة

بالنسبة لمبارك، لم تكن إقالة أبو غزالة كافية للقضاء على أي طموح محتمل له ليكون خليفته، كان لا بد من حرق شخصيته بالفضائح لأجل تدمير مستقبله السياسي. ومن ثم كانت فضيحة، سيدة المجتمع والأعمال لوسي أرتين، التي ترددت أصداء تسريبات مكالماتها التليفونية مع المشير في قاعات مجلس الشعب على الملأ من الجميع، وملأت أخبار علاقتها به الصحف الصفراء وشغلت الرأي العام لشهور طوال.

قام أحد أعضاء البرلمان بتشغيل تسجيل لمكالمات لهما داخل مجلس الشعب، تشتكي فيها لوسي للمشير حول تعثّر مشكلتها مع طليقها وأبيه في القضاء، فسألها المشير عن مكان نظر قضيتها، فقالت له الإسماعيلية، فما كان منه إلا أن طمأنها بأنه سيعمل على التوصل للقاضي المسؤول ويرتب لها التواصل معه. بعد فترة قصيرة، نُشرت الأخبار عن القبض على لوسي والقاضي المعني سويًا في شقة خاصة.

كانت لوسي تتباهى في حفلاتها لوجهاء المجتمع عن علاقتها الوثيقة بالمشير، حتى أنها كانت تحادثه تليفونيًا في وجودهم، مما جعل البعض يتقربون منها للتوسط لهم عند المشير لقضاء مصالحهم، وكان منهم ضباط شرطة. أنكر المشير وجود أية علاقة بينه وبين لوسي. وبعد اكتمال حملة التشهير، أصدر النائب العام قرارًا بحظر النشر.[ix]

كان ذلك جانبًا آخر من زمن الثمانينيات بمصر، الزمن الذي لا يزال الكثير منا يشعر بالنوستالجيا أو الحنين له ولمسلسلاته ونجوم الرياضة وأغاني الأطفال فيه.

 


[i]  راجع سيرة أبو غزالة في: محمد الباز، المشير: قصة الصراع بين مبارك وأبو غزالة (القاهرة: كنوز للنشر، 2006)، ص27، ص ص 47-48، و أميرة فكري، المشير أبو غزالة: ظلمته السياسة وأنصفه التاريخ (القاهرة: مكتبة جزيرة الورد، 2012)، ص ص 236-243.

[ii]  أميرة فكري، المشير أبو غزالة: ظلمته السياسة وأنصفه التاريخ، ص 236-237.

[iii] مدحت الزاهد، "ملاحظات حول حضور وبيان المشير أبو غزالة لمؤتمر الحزب الوطني"، الأهالي، 6/8/1986، منشور في أحمد عبد الله، الجيش والديمقراطية في مصر (القاهرة: دار سينا للنشر، 1990) ص  152-154 ، فيليب جلاب، "المشير أبو غزالة وعدم الانحياز"، الأهالي، 19/5/1982، إبراهيم العيسوي، في إصلاح ما أفسده الانقتاح (القاهرة: كتاب الأهالي، 1984)، ص ص 147-157.

[iv] محمد الباز، المشير: قصة الصراع بين مبارك وأبو غزالة، ص 48

 Robert Springborg, Mubarak’s Egypt: Fragmentation of the Political Order, p. 99 

مركز الأهرام للتنظيم والميكروفيلم، الملف الوثائقي للمشير محمد عبد الحليم أبو غزالة، الجزء الأول،  ص 380     

أميرة فكري، المشير أبو غزالة: ظلمته السياسة وأنصفه التاريخ، ص 222-224.

[v]  انظر: روز اليوسف، عدد رقم 3،  10 مارس  1986، سوسن  الجيار، "قائد قوات الأمن المركزي لروز اليوسف: الضباط والجنود يعيشون في مناخ واحد"، روزا اليوسف، 16/2/1987

Christopher Dickey, “Mubarak Ends Curfew in Cairo; Riots May Have Enhanced Defense Minister’s Standing,” Washington Post, 9 March 1986.

 [vi] غادة غالب، "26 معلومة عن أبو غزالة"، المصري اليوم، 16/1/2015، محمد عادل وأغاريد مصطفى، "المقطم: تاريخ من الفعال الفاضحة"، روزا اليوسف، 23/3/2013

[vii] Carol Berger, “Egyptian Minister Became a Liability,” The Independent, 18 April 1989.

[viii] انظر على سبيل المثال:

: Alan Cowell, “A Parade in Egypt Marks ’73 Fighting: Military Observance Is First since the Killing of Sadat by Islamic Militants,” New York Times, 6 October 1988; Judith Miller, “Cairo’s Army Has a New Job: Milk the Cow,” New York Times, 29 November 1985; Carol Berger, “Egyptian Minister Became a Liability,” The Independent, 18 April 1989; Alan Cowell, “Mubarak Ousts Defense Chief, Making Him Aid,” New York Times, 16 April 1989; Patrick E. Tyler, “Mubarak Reassigns Key Deputy; Move Said Face-Off With Defense Chief,” Washington Post, 16 April 1989; Deborah Pugh, “Egypt’s Minister of Defence Told to Step Down,”  The Guardian, 17 April 1989.

[ix] محمد الباز، المشير: قصة الصراع بين مبارك وأبو غزالة، ص ص 84-86 .