يوتيوب
الجدار العازل كما يظهر في فيلم "الطريق 181" (2003)، إخراج ميشيل خليفي وإيال سيفان

 "الطريق 181".. السير داخل الجرح الكبير

منشور السبت 3 فبراير 2024 - آخر تحديث السبت 3 فبراير 2024

تُظهِر تترات فيلم الطريق 181 مخرجي الفيلم: الفلسطيني ميشيل خليفي، والإسرائيلي إيال سيفان؛ جالسين على مقعد حجري، ظهراهما للكاميرا، وعلى يسارهما عواميد حديدية عليها أسلاك شائكة، مغروسة في الأرض ترمز لنقطة ما إلى الحدود على هذا الطريق الذي أنجزا فيلمها حوله، الذي قسَّم الأرض قديمًا بين الدولتين العربية واليهودية.

تمتد أمامهما الأرض بسهولها وأشجارها وجبالها ووديانها، وبينهما الخريطة؛ يقرآن منها طالع وماضي هذه الأرض. ستلعب هذه الخريطة دور البطل الظاهر خلال رحلتهما التي سيقومان بها داخل أرض ميلادهما: فلسطين/إسرائيل؛ على طول حدود التقسيم الناتجة عن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر عام 1947، الذي يقضي بتقسيم فلسطين بمنح الأقلية اليهودية 56% من الأرض، مقابل 43% للأكثرية العربية، والباقي تحت الإشراف الدولي.

بالطبع جلوس المخرجَيْن معًا يعني وحدةً ما في النظرة ورغبةً في التعايش، بين دولتين فلسطينية ويهودية، فهما المثال الرمزي لما كان يجب أن يكون عليه الوضع الآن. تذكِّر التترات، أيضًا، أن قرار التقسيم "كان السبب في اندلاع الحرب الإسرائيلية - العربية الأولى"، تلك الحرب الممتدة حتى اليوم، كما نرى الآن في غزة بعد 12 عامًا من إنجاز الفيلم، و لأن تلك "الحدود" كانت افتراضية "لم توجد يومًا على أرض الواقع".

الخريطة الرسمية للأراضي الفلسطينية بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيمها إلى دولتين عربية ويهودية

بدأت الرحلة في صيف عام 2002 واستغرقت شهرين، من الجنوب إلى الشمال. لا يظهر من أعضاء الرحلة، طوال الفيلم، إلا إحدى علاماتها وهي الخريطة، بينما يأتي صوت المخرجَيْن من خارج الصورة. أحيانًا نسمع صوت أحدهما وهو يسأل عن أماكن السكان العرب أو عن قرية فلسطينية اسمها على الخريطة، لكنها لم تعد موجودة في الواقع. خلال رحلة تتبع هذا الخط الافتراضي، كانت الخريطة مفتوحة دائمًا في مكانها في مقدمة العربة، تقود البحث على هذ المسار القديم.

صادف المخرجان رجالًا ونساءً، مدنيين وجنودًا، على هذا الخط الحدودي الذي يمتد عبر الجبال والسهول والتلال والوديان، سألاهم عن حياتهم اليومية قبل النكبة وبعدها لو كانوا فلسطينيين، وعن بدايات الهجرة لهذا المكان إذا كانوا يهودًا.

بالطبع كانت يتخلل الأسئلة حوارات جانبية تكشف مساحة اللا تعايش القائمة بين الجانبين، ورأيُ كلٍّ منهما في الآخر. هذه الفجوة العميقة التي كانت تنذر، آنذاك، بنشوب حرب أهلية، كانا يتنبآن بها، وربما كانت السبب في إخراج هذا الفيلم، كما ذكر ميشيل خليفي في حواره مع موقع "جدلية".

يكتشفان خلال الرحلة حدودًا أكثر قسوة على جانبي الطريق، في وعي الناس اليومي ولا وعيهم. أحد السكان اليهود اللذين قابلاه في إحدى قرى الشمال، شعر بالريبة من طبيعة الأسئلة التي يوجهها له أحد بني جلدته، المخرج الإسرائيلي إيال سيفان، لأنه، على حد قوله، يحمل فكرًا غريبًا عن اليهود، يدعو للسلام ويسأل عن الحق، والأرض المفقودة للفلسطينين.

عبر الرحلة، يتضح أنَّ هذه الحدود القديمة للتقسيم لم تعد موجودة، ومُحيت حوالي 140 قرية فلسطينية من جغرافيا الحياة اليومية. لذا يحاول الفيلم في حواراته، استعادة صورة الحياة اليومية في هذه القرى المفقودة، وما كان يجري فيها. كأنَّ الفيلم يرسم خريطة جديدة لفلسطين قبل عام 1948.

رحلة تبحث عن الإيمان بالآخر

يدخل فيلم الطريق 181 ضمن تصنيف "أفلام الطريق"، التي تُصوَّر كلها في طريق عام، وتنفتح على رصد حياة الناس، باختلاف أنواعهم، وآرائهم، وخبراتهم اليومية، وتفضي في النهاية إلى تحولٍ ما في نظرة صانعها، كأنَّ الرحلة ترغب ضمنيًا في هذا التحول.

هناك شبه ما برواية على الطريق للروائي الأمريكي جاك كرواك، التي صدرت عام 1957. كرواك من الجيل المتمرد المُسمَّى في الأدب الأمريكي بـ"Beat Generation"، الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية مضادًا للثقافة الأمريكية. فروايته مبنية على رحلته الشخصية هو وأصدقائه، بالعربة، عبر الولايات المتحدة.

هذه الرواية عمل تعريفي بجيل التمرد هذا، الذي يحيا أبطاله وممثلوه حياةً حرةً، مفتوحة على حياة من يصادفهم المخرجان على الطريق باختلاف طبقاتهم، بحسٍّ بوهيمي مملوء بالفن والشعر والأغاني، وأيضًا المخدرات. رحلتهما دينية بشكلٍ ما، لها وجه يبحث عن الحقيقة والإيمان بالآخر، ليس في الكتب، ولكن في الرحلة نفسها، وعبر الاحتكاك المباشر مع حياة الآخرين.

ربما هذا الجانب الإيماني من طرف ميشيل خليفي وإيال سيفان يتمثل في بحثهما عن السلام بين الجانبين؛ الفلسطيني واليهودي، ومحاولة استعادة صورة فلسطين المفقودة، التي تاهت حدودها وتقلصت. فهي رحلة توثيق للذاكرة الفلسطينية، أو للحقيقة كما يريانها ويؤمنان بها، وإمكانية إقامة سلام مستقبلي.

قد تكون النتيجة عكس ما توقعا، ولكنَّ تغييرًا ما في نظرتهما للحياة وفي إمكانية السلام، ومفهوم الهوية، حدث عبر هذه الرحلة.

السير داخل جرح كبير

يذكر ميشيل خليفي في حواره مع موقع جدلية، أنه قام بهذا العمل مع إيال سيفان المخرج الإسرائيلي التقدمي، ليقفا ضد الخطاب العنصري المنتشر على الجانبين الفلسطيني واليهودي. كانت هوية الفرد وإنسانيته بعيدًا عن فكرة الهوية الجمعية، هي المدخل للفيلم. فالهوية الجمعية تحمل بداخلها تعصبًا ما، ويستعير تعريف الروائي والمفكر اللبناني الفرنسي أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة.

يقول ميشيل خليفي في حواره "لقد دخلنا مطبات وأزمات "الهويات القاتلة"، التي لم تعد تتحمل إيقاع التغييرات الجمة الناتجة عن تغييرات ديموغرافية جذرية، ووعي جديد مبني على هوية الفرد، لا هوية الجماعة المعتادين عليها منذ آلاف السنين. إنها نهاية المجتمعات الجماعية المبنية على الدين أو الطائفة أو القبيلة والعشيرة وحتى التجمعات الأيديولوجية الحزبية، وولادة مجتمعات جديدة مبنية على المواطنة والتي يكون فيها للفرد الدور الأساسي الذي سوف يقودها نحو الديمقراطية".

ويضيف "عندما ذهبنا إيال وأنا لنصور "طريق 181"، وجدنا أنفسنا كالإنسان الذي يسير في داخل جرح كبير، وعلى ضفتي الجرح أناس مختلفون يتألمون، كل على طريقته! الإسرائيليون من جهة، هم الآتون من جروح ورضّات ماضيهم اللعين، وها هم مجبرون على أن يواصلوا الكذب على أنفسهم لأنهم يعرفون ما قاموا به ضد الشعب الفلسطيني، وكيف محوا عالمه، لكنهم مجبرون أن يواصلوا الكذبة المبنية على أساطير ليس لها مكان في العالم الحديث وهذه صدمة بحد ذاتها. والفلسطيني غير القادر على مواجهة واقعه التعس ومحاولة فهم ما حدث له، وأين هي مسؤولياته وهو قابع في صدمته التي تحجب عنه نور الحقيقة".

ويتساءل "فكيف لنا أن نبني عالمًا إنسانيًا يأخذ بعين الاعتبار اللاعدل الذي نعيش به؟".

ثم يضيف في نهاية حديثه؛ "نحن محتاجون لوقفة كبيرة أمام عالمنا الرمزي المسيطر على وجداننا: نحن يحكمنا الأموات، ونعيش في عالم غير موجود إلا في رؤوسنا، غير قادرين على القيام بالحداد الضروري لنفصل الماضي عن الحاضر، والحاضر عن المستقبل".

أعود لفكرة الهوية القاتلة وأربطها بنشأة الدولة القومية بعد الحرب العالمية الثانية، التي يؤسس لها كتاب الجماعات المتخلية لبندكت أندرسون. فكما يقول ميشيل خليفي في حواره السابق "نعيش في عالم غير موجود إلا في رؤوسنا"، فقد بنيت هذه المجتمعات الوهمية داخل المخيلة، مجتمعات لا تعترف إلا بنفسها وبقوتها وبتفوقها على الآخر.

الفيلم نفسه يستخدم أداةً من أدوات هذا المجتمع المتخيل، أو أداة من الأدوات التي تستخدمها الدولة القومية لترسي نفوذها على أفرادها، والمتمثلة في الخريطة.

ففي النسخة العربية من كتاب "الجماعات المتخيلة" التي ترجمها ثائر ديب؛ "يرى أندرسون أن مؤسسات السلطة القائمة، تساهم في تشكيل القومية وأدوات تخيلها، وإعادة صياغتها. ويركز على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في ذلك كل من التعداد والإحصاء السكاني، والمتاحف، والخرائط. ومن الجدير ذكره، أن الدول الاستعمارية حاولت استخدام تلك المؤسسات؛ لصياغة شكل ما من القومية في مستعمراتها، ينسجم أكثر مع مداها الاستراتيجي في استدامة هيمنتها هناك، وقامت بترسيم الخرائط، وتحديد المكان، وتوزيع السكان لتحقيق ذلك. فالإحصاءات السكانية التي قامت بها القوى الكولونيالية، تراعي زاوية نظر المستعمر، ولا تكترث للكيفية التي يرى فيها السكان المحليون في المستعمرات أنفسهم. فقامت بإبراز عناصر تخيلية طائفية ومكانية، تساهم في إضعاف الوحدة القومية، وتبعث على الانقسام. ينطبق الأمر أيضًا على تصوير الخرائط الذي فرضه المستعمر على الأرض والطبيعة، إذ قام برسم خرائط وحدود إقليمية غير ذات صلة بالسكان والجماعات، وتاريخها، والمألوف عندها".

ويشير أندرسون بأثر رجعي لما يحدث الآن في فلسطين من محو لآي أثار تعزز الفكرة القومية للسكان الأصليين أصحاب الأرض "لعب علم الآثار الاستعماري أيضًا، دورًا كبيرًا في سلخ السكان المحليين عن آثارهم، فقد قام بمحاولات فصلهم عن تاريخهم العريق، والذي يعتبر واحدًا من عناصر تعزيز القومية، وتصوير الأماكن العمرانية التاريخية كأماكن سياحية، أكثر من كونها آثارًا لعظمة تاريخ الأمة. هذا يعني أن القوى الكولونيالية حاولت اللعب على وعي السكان المحليين، وتجريدهم من أسباب اجتماعهم على أساس قومي، أو سيادي".

مشاهد عبر الرحلة

عبر الرحلة، يرصد الفيلم الفوارق بين المجتمعين اليهودي والفلسطيني: مظاهر الحياة هنا وهناك، الممارسات العنصرية التي تطبق على الجانب الفلسطيني. 

يبحث المخرجان عن كل ما هو قديم، أو يشكل أثرًا سواء كان شخصًا أو مَعلمًا أو اسمًا.

تظهر المستوطنات التي اخترقت دومًا حدود التقسيم. يتوقفان أكثر من مرة عند متاحف الذاكرة اليهودية التي توثق بالصور والأدوات لزمن البدايات والهجرة، وكيف حولوا الأرض إلى جنة. يحاولون أن يصنعوا ذاكرة عبر هذه المتاحف تمحو الذاكرة الفلسطينية، حتى أنهم ينكرون ما حدث وكيف حدث، ويتمسكون بأفكار هشة لتثبيت مشروعية بقائهم وسط هذه الممارسات العنصرية.

طوال الفيلم هناك طائرات مقاتلة تحوم في السماء كما تحوم الخريطة على الأرض

بطول الطريق هناك ثغور عربية يُستدل بها، غالبًا أماكن قديمة تنتمي لعصر مضى حولها أحراش، أو فضاءات لم تتحول بعد إلى مستوطنات. خلال الطريق يحكي أحد اليهود أنَّ الأسوار بدأت تتكاثر بداية من علامات صغيرة، ثم تحولت لأسوار عالية، ثم لأسوار إلكترونية. ويختتم حديثه بأن السياج هي رمز الصهيونية.

يتساءل آخر، وهو يتحدث لمجموعة من السياح الأمريكيين اليهود: كيف يكون من حق شخص يهودي يعيش في أمريكا أو باريس أن تكون له أرض في إسرائيل، بعكس الفلسطيني المهاجر؟ فيرد أحدهم: لأنه يهودي وله حقٍّ أبدي في إسرائيل.

تتحول الخريطة أحيانًا إلى أشخاص وبيوت ومزارات على الطريق. تفك الشفرة التي رسُمت بها لتتحول إلى حواضر وأناس وحكايات ومرح وضحكات ودموع. كما قال أندرسون في "الجماعات المتخيلة"، إن الخريطة إحدى أدوات تثبيت الدولة القومية أو تلك المجتمعات المتخيلة، والطريقة التي يبني بها المخرجان فيلمهما تعيد رسم صورة/خريطة جديدة للذات الفلسطينية، التي استبعدت من خرائط الماضي الورقية. يبدو أنَّ هذه الخرائط الجديدة على هشاشتها ستبقى أكثر وستعيش.

بعد كل لقاء مع نقطة ما تغيرت على الخريطة، تُستأنف الرحلة، وتظهر صورة العربة والخريطة الأصلية على مقدمتها تقود الرحلة، كأنَّ الخريطة ترفض أن تستبعد، أيًا كانت التغيرات، فهي المرشد، لأنها تحمل آثار الماضي وحقائقه، بل هي صوته.

في الشمال تظهر إحدى نقاط التفتيش وطوابير العرب أمامها بانتظار العبور للجانب الآخر من هذا الجرح الكبير. يظهر الجدار العازل، في بدايات إنشائه، والذي استوردت له إسرائيل عمالًا من كوريا، ليمتد إلى مسافة 770 كيلومترًا في الضفة الغربية.

تَظهر مزرعة زيتون، على الحدود مع الأردن لأحد الفلسطينيين. وتَظهر امرأة عجوز في أحد البيوت، جالسة بين أحفادها وأولادها تحكي حكاية النكبة، وقريباتها اللاتي تفرقن بين مصر وسوريا ولبنان والأردن، وتبكي.

طوال الفيلم هناك طائرات مقاتلة تحوم في السماء كما تحوم الخريطة على الأرض.

كافكا وتفاهة الشر

في إحدى نقاط التفتيش الكثيرة، التي كانت يستقبل أغلب جنودها المخرجين ببرود وخشونة، كان هناك جندي مختلف تمامًا؛ يحب قراءة كافكا، ويصف رواية المحاكمة بأنها ترمز للعالم اليوم ولإسرائيل؛ "عالمنا الآن أصبح كافكاويًا".

يسأل الجندي المخرج بالعبرية التي كان يتكلم بها: هل قرأت قصة كافكا "أمام القانون"؟ ويبدأ في شرح فهمه لرمزية القصة.

بعد هذا الحديث المتبسط يسأل المخرج الإسرائيلي الجندي، ما إذا قرأ كتاب تفاهة الشر، لحنا أرندت. لا يعرف الجندي هذا الكتاب ويستفسر عن مؤلفته وما يحتويه. فيشرح له المخرج بأنه يتحدث عن أشخاص عاديين يمكن أن يقوموا بمجموعة تصرفات صغيرة غير مسؤولة، تتراكم لتؤدي في النهاية إلى شر كبير.

ربما ما يحدث الآن في غزة صورة مصغرة لإبادة اليهود، من جنود ربما لا يتجذر الشر في ذواتهم

أحالني هذا الحوار إلى كتاب حنَّة أرندت "أيخمان في القدس- تقرير حول تفاهة الشر" ، الذي يحكي تفاصيل محاكمة النازي أدولف أيخمان في القدس عام 1961. حضرت أرندت جلسات المحاكمة كمراسلة لجريدة نيويوركر وكتبت تقريرًا. فقد حوكم أيخمان دون قانون محدد سوى بوصفه "عدوًا للبشرية"، وهو ما كانت ترفضه أرندت في توصيف جريمته، لأنه كان يعيش في دولة شمولية لا تعترف بحرية الإنسان، تقتل حرية أفرادها.

نقرأ في مقدمة الكتاب للدكتور علي عبود المحمداوي "أطلقت أرندت عبارة "تفاهة الشر" وصفًا على ما قام به أدولف أيخمان النازي في زجه وتحشيده لليهود، والتفاهة هنا تكونت عن استقالة العقل والضمير عن تحمل المسؤولية بوعي عن معكسرات الإبادة "الهولوكست" بصورة لا تتضمن شرًا متجذرًا في ذاته بل لتفاهته وعاديته، لأن السلطة التوتاليتارية تجعل مرتكبي الجريمة بإيعازها لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها، وإنما بأنها أمر عادي. وما القائم بهذه الجريمة إلا أداة لها؛ لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية، بل بتنفيذه لقرارات إدارية، وبطاعة عمياء فقط، لذا لم توافق على اتهامه بوصفه عدوًا للبشرية".

ثم يقوم بتعريف التفاهة؛ "إن التفاهة تكمن في استقالة العقل والضمير عن تحمل المسؤولية بوعي، لأن من قام بهذه المجازر من أيخمان وغيره من جلاوزة السلطات الشمولية، لم يكونوا سوى جزء صغير وتافه من ماكينة البيروقراطية التوتاليتارية التي لا تدع لهم أيَّ مجال في أن يحسوا بإنسانيتهم ومن ثم أن ينتظر منهم العمل باتجاه ماهو إنساني".

أتوقف عند هذا الجندي الذي يقرأ كافكا، ويرى العالم كافكاويًا، ويقرأ أيضًا الفيلسوف الإنساني ليفيناس وفيلسوف التسامح كارل بوبر، ولكنه في النهاية جزء من دولة شمولية عسكرية، لا تعترف بالآخر.

لقد تضخم مفهوم التفاهة ولم يعد فرديًا إنما يعني شعبًا بكامله، أو أغلبه، ودولة كاملة عاشت على الاستيطان، وتراكمت الأفعال الصغيرة من التسليم بالأمر الواقع، وعدم الرغبة في تذكيرهم بما حدث في الماضي.

ربما ما يحدث الآن في غزة صورة مصغرة للإبادة التي حدثت من قبل لليهود، ولكن دون اعتراف بها، ومن جنود ربما لا يملكون شرًا متجذرًا في ذواتهم، كما كان أيخمان في نظر حنا أرندت.