برونو باربي
جان جينيه بصحبة الفدائيين الفلسطينيين في مخيمات الأردن مطلع السبعينيات

"أسيرٌ عاشق".. نص أدبي نادر عن حياة الفدائيين

منشور السبت 11 نوفمبر 2023

لا أنسى كتاب "أسيرٌ عاشق"، للكاتب الفرنسي المتمرد حتى وفاته جان جينيه (1910 – 1986)، عن سنتي 1970 و1971 اللتين قضاهما بصحبة الفدائيين الفلسطينيين في مخيمات الأردن.

دعته منظمة التحرير بناء على مواقفه السابقة، ومناصرته لثورة الجزائر، وجماعة الفهود السود الأمريكية، التي تأسست عام 1966 لمناصرة حق السود في الحياة والمساواة، ومن أهم شعاراتها "شعر إفريقي ومشط حديدي، وقبضة يد".

لم يذهب جان جينيه إلى مخيمات الفدائيين في الأردن بفضول الكتابة والاكتشاف، بل لمعايشة ومناصرة قضية، فقد جاءت فكرة تأليف الكتاب لاحقًا بعد 14 سنة، تحديدًا عام 1984 في مدينة العرائش بالمغرب، حيث اختار أن يعيش ويُدفن بعيدًا عن موطنه.

ذهب جينيه كإنسان فرد، يقف ضد الحضارة الأوروبية، محاولًا أن يستقصي حياة الفدائيين، ويجلو أعماقهم، ويرى صورتهم الحقيقية، بدلًا من تلك التي أخذ الإعلام الغربي يُروِّج لها.

اختار جان جينيه أن يعيش ويُدفن في المغرب بعيدًا عن موطنه

ذهب بفضول وجذرية الاختلاف، الذي يحمله داخله، ويسعى نصُّ الكتاب إلى بلورته. ليس فقط في تسجيل حياة الفدائيين، وتوثيق تلك اللحظة الشجاعة التي يضعون فيها أنفسهم تحت إمرة الموت والتضحية، بل أيضًا في طريقة صياغته للنص وتحويله إلى نسيج من عدة طبقات شديدة التراكب والتداخل؛ يوميات تأملاته الخاصة داخل المخيم، حواراته المجتزأة مع بعض الفدائيين، بجانب التأريخ السياسي لفصائل المقاومة، وحضور الأسئلة الوجودية حول الإيمان والله، وهي أسئلة كانت تؤرقه في حياته.

أيضًا لم يخلُ الكتاب من أسئلة كاتبه الخاصة، التي صاغها في حياته كمتمرد أصيل، على الفدائيين وطريقة حياتهم.

كلُّ هذا الزخم اللغوي والفكري كان طافيًا ومعجونًا في آنٍ، فوق ميثيولوجيات ورموز دينية وصور أدبية وتأملات حياتية. كان ينسج كلَّ هذه التدفقات الزمنية واللا زمنية، داخل سياق وقوام متجانس شديد الكثافة واللزوجة معًا، مما حوَّل أسلوب الكتاب إلى شفرة يجب فكها باستمرار أثناء القراءة، وإن لم يفعل القارئ سيظل عائمًا على السطح. فداخل عمق الأسلوب والتاريخ هذا، تسكن الخبيئة النفسية والفكرية لجان جينيه، التي يعدها المؤرخون ونقاد الأدب شهادته الأخيرة قبل وفاته القريبة.

جينيه ممثلًا لجماعة مضطهدة

تمت دعوته لقضاء ثمانية أيام مع الفدائيين، ولكنَّ تلك الأيام الثمانية تمددت وتكاثرت حتى بلغت سنتين، وحوَّلت صاحبها بالفعل إلى "أسير عاشق". الحبُّ لأشباهه من المتمردين ولهذه الحركات التحررية، هو وحده ما يستبقيه.

كان جينيه علامة مسجلة لمناصرة تلك الحركات بباعث شخصي تمامًا، كونه أيضًا وبسيرة حياته الاستثنائية، أصبح يمثل جماعة مضطهدة؛ تحتاج أن تمدَّ أواصر الصداقة مع مثيلاتها من الجماعات المضطهدة الأخرى.

تعلَّم جينيه الكتابة في السجن، الذي دخله في سن السابعة والثلاثين بتهمة السرقة، وهناك كتب رواية سيرة ذاتية سماها "يوميات لص"،  فامتهن حرفة الأدب وهو لا يعرف الآداب، بدون أمجاد أو بوابات نصر. صار أديبًا كقدرٍ سقط عليه، بدون اختيار منه، تمامًا كما صار مثليًا لا يعرف النوازع العميقة التي دفعته لذلك، أو يناقشها، فقد نشأ مجهول الأب، وتوفيت أمه وهو طفل، لذا حمل رفضًا جذريًا لهذا المجتمع الخارجي، سواء خارج السجن أو خارج ذاته.

هذا الرفض ساهم في بلورة رؤيته الجذرية في كل الممارسات التي يقوم بها، بجانب ميوله الجنسية، التي كانت أحد أعمدة هذا البناء الفكري والأسلوبي الذي ينظر به للعالم وللتحرر معًا. فقد قارب جينيه بين الاستثناءات في الحياة، وبداخله، وصنع منها حياة واحدة، تمامًا كما صنع من عدة أساليب كتابة أسلوبًا مميزًا شديد التركيب.

ربما كان جزء من علاقته بحياة الفدائيين يعود لكونه يتمثل نفسه في هذا الفدائي، الذي دفعه القدر ليضحي بحياته، أما هو فدفعه القدر لأن يكون مختلفًا، ويقف بجوار تلك الحيوات الخطرة، دون أي طموح لمجد شخصي.

بالتأكيد كانت مناصرته لتلك الحركات التحررية تقوِّي من قبوله لنفسه ولاختياراته الاستثنائية، فحدث التحام أو تشابه عضوي بينه ومفهوم التحرر، والثورة بشكل عام. لا يرى نفسه متحققًا إلا عبر هذه الانحيازات التي تُغذِّي اختلافه، بالرغم من يأسه، أحيانًا، من نجاحها، وسط تواطؤ العالم وشراسة الرأسمالية/الرفاهية التي تتحكم به. ولكنه كان يحلم مع أصحابها، كما كان يُشير، فحياته كانت حلمًا ممتدًا يودُّ أن يطول، ولا يعني هذا أنه لا يصدق ما يجري أمام عينه.

فانحياز جينيه للقضية الفلسطينية، ومن قبلها لجماعة الفهود السود، كان انحيازًا صلبًا كالإيمان الدنيوي، دون آخرة، ليس فيه أيُّ جمالية أو خيال.

من جمله اللامعة التي يُعرِّف بها "الفدائي" الذي حاول دومًا رسم صورته "الفدائي عليه أن ينتصر أو يموت أو يخون".

حدث التحام أو تشابه عضوي بين جان جينيه ومفهوم التحرر

كان هناك تركيز في رصده على نقاء جسد الفدائي، وتسجيل لحظات تطهره بالماء، سواء أوقات الوضوء استعدادًا للصلاة أو أثناء التحمم، بجانب رصد هذا الجسد في إيحاءاته الجنسية وأيروتيكيته. ما بين هذين القطبين، التطهر والأيروتيكية، السمو والذنب، تشكَّل جسد الفدائي في مخيلته. كان جينيه يحاول أن يسبر صورة الفدائي ويثبتها، وسط عالم مزيف لا شكَّ سينال من تلك الصورة ويحولها إلى موضة.

يكتب "كان الفدائيون يمتثلون لصرامة باسمة، وكانت الأيروتيكية محسوسة، كنت أميز موجاتها من دون أن أثار بها".

يضيف في مقطع آخر "ما كان أيٌّ من الفدائيين ليتخلى عن بندقيته، فهي إما أن تبقى معلقة على كتفه مع حمَّالتها الجلدية، أو أن يطرحها الفدائي أفقيًا على ركبتيه، أو يوقفها عموديًا بينهما، دون أن يفكر بأن هذه الوضعية إنما تحمل في ذاتها تهديدًا أيروتيكيًا أو مُهلكًا، أو كليهما معًا"، و"خلال ساعات النوم، لم أرَ أيَّ فدائي في القواعد يتخلى عن بندقيته، سواء كان المحارب يطبخ أو ينفض الأغطية، أو يقرأ رسالة، فالسلاح كان دائمًا أكثر حياة منه هو نفسه تقريبًا" .

البحث عن الإيمان في هذا الجسد

كان يبحث داخل جسد الفدائي عن هذا الأمل الذي يدفعه للتضحية، وليس عن شبكة السلطات التي تتحكم به. يبحث عن نزعته الشخصية التي أملت عليه هذا الطريق، وهذا الاختيار الجذري. ربما كان يتوحد، كما ذكرت من قبل، مع هذا الفدائي، باختلاف حياة كلٍّ منهما، أو أنه كان يغار من شجاعته، التي امتلك جينيه، في نظره، نظيرًا ثانويًا لها، بوقوفه ضد المجتمع البرجوازي الأوروبي واعترافه بلصوصيته.

ربما هذا الأمل هو ما كان يربطه بهؤلاء الاستثنائيين من أمثاله، فرحلته لمخيم الفدائيين بمثابة مناصرة لقضية، وأيضًا زيارة شخصية مليئة بأسماء ونتفات من حيوات من قابلهم هناك، وتفاصيل علاقته بهم، وتوثيق أحاديثهم عن الله والإيمان، وهو جزء في غاية الأهمية، كان يسترعي انتباه جينيه، كيف يرى الأمل/التحرر، مسلمٌ، ومؤمنٌ، وليس رافضًا للدين كما كان جينيه يرى نفسه.

هناك إصرار في الكتاب على استعادة مفهوم الإيمان والمشاركة مع أناس بسطاء مؤمنين، ولكنَّ انحيازهم للأمل والفداء منحهم مساحة لتقبل الآخر المختلف.

أحد الفدائيين قال له عندما لمس تلك النبرة المتشككة في أحاديثه، إن من أتى به إلى المخيم هو الله.

الثورة كأحلام يقظة

كان جينيه يحاول أن يرصد مصير سيولة الثورة، خاصة التي لا تقف على أرض بعينها كما في الحالة الفلسطينية آنذاك، وربما تجمُّدها في قالب بيروقراطي، وأيضًا جمود صورة الفدائي وتحوِّله هو الآخر، وسط صرعات الموضة والرفاهية التي تصيب الفرد والثورة معًا، إلى أيقونة جامدة.

هذا ما يملكه أهل غزة والضفة للأسف؛ الموت الكثيف مقابل استمرار قضية التحرر

ربما كانت هذه التصورات تدور في خلفية رأسه. لم يصدرها في البداية، وإنما ظهرت عندما بدأ في كتابة الكتاب بعد 14 عاما من معايشته للفدائيين.

"كلُّ انتفاضة تنحدر على هذه الشاكلة: بالانهزام أمام غزوات الرفاهية التي تجرُّ معها جميع ضروب الخور" .

فغياب الأرض التي يقف عليها الفدائي ويحارب، تسبب هذا النوع من التضخم للصور سواء للذات أو للثورة، من أجل استعادتها أيقونيًا في المخيلة، وليس عبر علاقة جدلية أساسها الأرض على ما أعتقد.

كان جينيه يرى أن "الثورة عبارة عن أحلام يقظة تبتكر لعبة الثورة (...) ما دام التمرد ينال هذا الاسم عندما يُدوَّن ويكتسب بنية، أو عندما يكف أن يكون نفيًا شعريًا ويطرح نفسه كتأكيد سياسي".

هناك فكرة جوهرية في طرح جينيه؛ أنَّ الفدائيين في زمن لقياه بهم يبدأون رحلة تحررهم من خارج أرضهم، أو بدون أرض يقفون عليها، فلا يجدون تحتهم إلا الغياب.

لو عاش جينيه وشاهد مايحدث الآن في غزة، وأهلها يحاربون من داخل أرض، وليس من مخيم كما حدث في السابق، فهنا الغياب السابق، أصبح حقيقة، وأحلام اليقظة تحولت إلى مكان، له كتلة مادية ومساحة. فاستمرار حلم التحرر الآن يُدفع من حساب الموت الكثيف، وهو ما يملكه أهل غزة والضفة من مقاومة، للأسف. الموت الكثيف مقابل استمرار قضية التحرر.

يُسجل جينيه عند عودته مرة أخرى لزيارة المخيم بعد 14 سنة على الزيارة الأولى، مستقبل نبوءته عن الثورة التي ذهبت أسطورتها، وحاصرتها الرفاهية الفقيرة من أجهزة يابانية، أصبحت تُزيِّن الغرفة البسيطة التي نام فيها في بيت الفدائي حمزة في إربد، وحفظت له ذكرى العودة، لزيارتها، وبجواره في الغرفة الأخرى كانت ترقد أم حمزة وأخته. هذا التقدم كان ضدَّ الثورة في رأي جينيه. ولا ينسى أيضًا أن يسجل بأن العشق نفسه يتقادم مع الوقت وليس لحظة أبدية.

الأمومة المجروحة

ذكرى لقاء جينيه بالفدائي حمزة وأمه الستينية، التي كانت تحمل الكلاشينكوف أيضًا، عندما استضافه في غرفته في مخيم إربد داخل الأردن مع والدته وأخته، إلى أن يعود من عملية فدائية ربما لن يرجع منها، هي الذكرى الروائية العاطفية التي بنى عليها جينيه شعرية هذا الكتاب.

لم تفارق صورة حمزة وأمه مخيلة جينيه، ودعته للعودة مرة أخرى بعد 14 سنة، بعد أن غادر الأردن للمرة الأولى.

كانت هذه الصورة/الأيقونة ممثلة لتلك الثورة، نوع من تواصل الزمان والمكان. تلخصت الثورة الفلسطينية في هذا الزوج (الابن والأم) بكل تردداته الدينية.

في مشهد روائي يصف جينيه الأم قبل الفجر، في أحد أيام شهر رمضان، وهي تطرق باب غرفته، فيما كان يتصنَّع النوم، لتدخل ويظهر من ورائها القمر، فتضع بجواره كوبًا من القهوة وآخرَ من الماء. ثم تعاود الكرَّة وتأخذ كوب القهوة بعد أن فرغ. هذه الأم كان يسميها جينيه الأم المجروحة، أو مريم المستقبلية التي سيُصلب ابنها.

هذا الزوج كان بالنسبة له "يرمز إلى الألم الذي لا عزاء له، لأمٍّ كان ابنها هو الله".

ربما يهتم جينيه في رؤيته لأيقونة الأم والابن، أنَّ الأحدث زمنيًا يمكن أن يكون الأسبق، عبر التضحية والموت، الذي يتلاعب بالزمن ويغير أولوياته.


المقتطفات من كتاب "أسير عاشق"، ترجمة عن الفرنسية لكاظم جهاد، عن دار شرقيات القاهرة 1997.