تصوير سالم الريس- المنصة.
مواطنون على أنقاض منازل دمرها جيش الاحتلال الإسرائيلي في مخيم المغازي وسط غزة- 5 نوفمبر 2023.

حقوق الإنسان تحت القصف

هل بإمكاننا تعمير "مدينة أشرف" مع ازدواجية المعايير؟

منشور الأربعاء 22 نوفمبر 2023

في ذروة القصف الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، قررت سويسرا تعليق التمويل الذي تقدمه لـ11 منظمة حقوق إنسان فلسطينية وإسرائيلية تعمل على توثيق انتهاكات الحكومة في تل أبيب، وانتهاكات السلطة الفلسطينية وحماس في المناطق الفلسطينية المحتلة، في قرار عجيب يُحتمل أنَّ وراءه وزير الخارجية إجناسيو كاسيس، المعروف بتأييد إسرائيل لدرجة الدعوة لإعادة توطين ملايين اللاجئين الفلسطينيين، وضمنهم قطاع كبير من سكان الأرض المحتلة.  

وفَّرت هذه الخطوة المتوقعة مبررات إضافية قوية لمن يتهمون الغرب عمومًا بالنفاق وازدواجية المعايير حيال مسألة حقوق الإنسان. وواصل الجميع، عن حق، المقارنة بين مواقف دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها تجاه القصف الروسي الذي طال المدنيين في أوكرانيا، وبين مواقفها الراهنة من القصف الإسرائيلي لغزة، رغم أن عدد القتلى الأوكرانيين المدنيين في نحو سنتين يبلغ نحو ثلثي عدد الضحايا الفلسطينيين في شهر ونصف الشهر.

ولم تكن الحكومة السويسرية منفردة في هذا القرار، إذ يتداول ناشطون في منظمات المجتمع المدني في مجالات متنوعة، من حماية البيئة وحتى الإبداع الثقافي، الحديث عن قطع للتمويل أو التهديد بإيقافه، من حكومات أو مؤسسات مانحة غربية بسبب موقف تلك المنظمات الناقدة لإسرائيل.

ويعيب معلقون كثيرون من داخل وخارج المنطقة العربية على العواصم الغربية دعمها المطلق لما تسميه إسرائيل "حقها في الدفاع عن نفسها"، بعد أن قتلت حركة حماس نحو 1200 إسرائيلي، بينهم مدنيون، فيما تتجاهل ما يجري أثناء ممارسة ذلك الحق المزعوم من قتل واسع النطاق وتشريد مهول وتدمير للبنى التحتية من مستشفيات ومدارس ومنازل.

هل يحق لنا اتهام حكومات ونخب غربية بازدواجية المعايير؟ نعم، دون شك. هل يعني هذا الكفر بالقانون الدولي بما فيه عهود حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف التي بات ازدراؤها متفشيًا؟ وهل يجب أن نهمل مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة مع تفاقم عجزها؟ لا، وألف لا.

ونعمِّر واحدة أشرف؟

منذ عشر سنوات أطلق فريق مشروع ليلى اللبناني أغنية "إنّي منيح" الغاضبة الحالمة، وفيها الجملة الشهيرة "قوم نحرق هـ المدينة ونعمِّر واحدة أشرف". ربما يتفق كثيرون مع النصف الغاضب من ذلك النداء، خاصة مع المآسي البشرية والاقتصادية والبيئية المحيطة بنا. تبدأ المشكلة مع النصف الثاني الحالم من النداء وهو تعمير مدينة يسودها الشرف والأخلاق.


الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف الحاكمة للحروب، والمؤسسات القائمة عليها، ليست مثالية وتحتاج لتغييرات واسعة وعميقة خاصة في مجال إنفاذ هذه المعايير بالتساوي بين كل البشر والدول. ولكنَّ حرقها ودكَّ قلاعها المتهاوية لن يكونا حلًّا.

المساواة بين البشر كما تعبر عنها منظومة حقوق الإنسان ليست نهاية محتومة، بل هدف لجهود مستمرة بدأت تظهر بوضوح في نهايات القرن التاسع عشر. تبلورت تلك الجهود في صورة قوانين وعهود دولية بعد الحرب العالمية الثانية، تقوم عليها مؤسسات مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأمم المتحدة والمحاكم الدولية، ولكن دون طريقة واضحة ومحددة لعقاب المنتهكين، ولا لتنفيذ قرارات هذه الجهات، بما فيها مجلس الأمن الدولي، إذا اختلفت معها الدول النافذة أو قررت العمل دون مباركتها، مثلما حدث في الغزو الأمريكي للعراق.

ولكن مع كل ذلك، يجب أن تستمر تلك القوانين والمعايير والمؤسسات من أجل حماية الأطراف والجماعات الأضعف، وإن كانت حماية قاصرة لا تتعدى التوثيق أحيانًا. لا يجب أن يصل الإقرار بالقصور والإشكاليات إلى دكِّ تلك "المدينة" تمامًا، أو تجاهلها والبكاء على عجزها النسبي، خاصة لو لم تكن هناك أيُّ قدرة أو اتفاق واضح على تعمير "مدينة أشرَف". 

ماذا عن ازدواجية المعايير؟

يصبح السؤال إذن: ماذا نفعل والقويُّ ينتهك هذه القوانين الدولية بأريحية، كما تفعل إسرائيل ضد الفلسطينيين الذين لا يرى فيهم معظم الغرب، أو حكوماته ونخبه المهيمنة على الأقل، أيَّ تشابه ثقافي أو مصالح ومنافع سياسية واقتصادية، تدفعه للوقوف في صفهم مثل ما حدث مع أوكرانيا ضد روسيا؟ 

ماذا نفعل عندما نرى المحكمة الجنائية الدولية تصدر أمرًا بالقبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد اتهامه بارتكاب جرائم حرب، فيما هي متقاعسة لسنوات عن اتخاذ إجراء مشابه مع أيِّ مسؤول إسرائيلي أو أمريكي أو بريطاني؟

ما أريد التحذير منه هنا هو الكفر المتزايد بين كثيرين في العالم بأهمية ودور تلك المعاهدات والمؤسسات والمعايير، يقول الناس في غضب "هي أساسًا لا ترانا كبشر، ولا يجري تطبيقها سوى عندما تكون لفائدة للغرب". وهم محقون. ثم يعلنون "سحقًا لها ولازدواجيتها، فلتذهب للجحيم". وهذا خطأ. لماذا؟

أكبر المظاهرات ضد إسرائيل نُظمت في مدن غربية ولم تنطلق من تشابه عرقي وديني بل من إيمان بالمساواة

أولًا لأن هذه نتيجة عدمية؛ لا تُقدِّم بديلًا للساعين سلميًا لتقليل الفظائع والشرور في هذا العالم. وثانيًا؛ فتلك التوصية تخدم كلَّ النظم القمعية والدموية التي تتمنى اختفاء هذه المعايير تمامًا، كما أنها لن تفتَّ في عضد النظام الرأسمالي العالمي المهيمن من الصين وحتى الولايات المتحدة. وأخيرًا؛ فإنها لن تترك لنا مجالًا للعمل سوى العنف والقوة المحضة، التي لا يبدو أنها، وفق موازين القوى الحالية، ستكون في صالح المظلومين والساعين للعدالة.

هذه الرؤية التي تنفي تمامًا أي دور وأهمية للعهد الدولي لحقوق الإنسان وللمحكمة الجنائية الدولية ستلقى دعمًا من النظم الحاكمة في معظم الدول العربية والصين وروسيا، ولن تخسر معها الولايات المتحدة والغرب شيئًا. هذه الرؤية التي لا ترى في اتفاقيات جنيف سوى حبر على ورق ستلقى دعمًا من الحكومات اليمينية المهيمنة في إسرائيل، ومن نظام الأسد الجاثم على أنفاس الناس في سوريا، ولن تتقدم بنا خطوة واحدة إلى آفاق أكثر عدالة ومساواة.

وإذا نجحت هذه الرؤية في تقويض مؤسسات مثل مجلس حقوق الإنسان واللجنة الدولية للصليب الأحمر، فسنخسر عملًا مهمًا تؤديه هاتان المؤسستان وغيرهما في توثيق ما يجري والتنديد به.

معظم من يدافعون عن حقوق الإنسان غير راضين عن تلك المؤسسات أو عن تطويع مسائل الحقوق في السياسة الخارجية للدول الغربية. ولكنَّ مؤسسات ضعيفة تسعى ومواقف ليست قوية ومبدئية بما يكفي، أفضل من تدمير الساحة أو تركها خالية، خاصة لو كانت المنتهكةُ حقوقهم هم الطرف الأضعف سياسيًا واقتصاديًا، وهو الحال غالبًا.

خيار مثالي.. وواقعي

في محطتنا الحالية من النضال في سبيل المساواة وضمان حقوق الجميع، لا يزال بإمكان دولة مثل إسرائيل التحكم في حياة خمسة ملايين شخص حصارًا وقتلًا وتجويعًا، ثم تحتج بأنها تفعل ذلك "دفاعًا عن النفس"، ومن الممكن أن تفلت الصين من عواقب الاضطهاد المنظم للمسلمين الأويجور، ومثلها نظام ميانمار العسكري بقتل وترويع وتهجير الروهينجا، أو الروس بقصف أوكرانيا، أو الأسد بقتل وتهجير وتدمير حياة نصف شعبه. 

شهد العالم هذا وأسوأ في تاريخ البشر المكتوب، وقد تمتد هذه الفظاعات لسنوات طويلة، ليس لأننا أشرار بالسليقة أو نتعرض لعقاب إلهي ناجم عن خطايا البشر، وغيرها من التفسيرات المتساهلة، بل لأننا نحصد ما نزرع، أو تحصده أجيال تالية، وهناك الكثير من البذور السامة في هذا العالم.

شاركت أجيال متتابعة على مدى المائة عام المنصرمة، من كل ثقافات العالم ودوله، في تأطير حقوق الإنسان وتنظيم الصراعات بين البشر، وخاضت أجيال متتالية صراعات دائمة للدفاع عنها في مواجهة محاولات تقويضها، ونشرها مقابل تحجيمها، وإعلاء قيمتها الأخلاقية ضد استغلالها سياسيًا.

ومن هنا يجب أن نستمر في هذا النضال دون دكِّ الأرض التي نقف عليها. يجب أن نفضح العجز عن تطبيق هذه المعايير أو تطبيقها بانتقائية، أن نصرَّ على كونيتها، أن نفهم العقبات التي تواجهها، وكيف نتغلب عليها، ونعمل مع من يصبو لتحقيقها حول العالم. 

متظاهرون في لندن يرفعون لافتة متضامنة مع حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة

لم يكن مدهشًا أنَّ أكبر المظاهرات ضد العدوان الإسرائيلي، وربما اكثرها تأثيرًا، نُظمت في مدنٍ غربية. لم ينطلق مئات آلاف المدافعين عن حقِّ الفلسطينيين في الحياة والحرية من تشابه ثقافي أو عرقي أو ديني، بل من إيمان بقيم حقوق الإنسان والمساواة.

في المقابل، سُمح بمظاهرات على نطاق أصغر في دول عربية مثل مصر والأردن، كانت بالتأكيد أقلّ تأثيرًا على مجريات الأمور، كون حكومات هذه الدول ترتبط بعلاقات متشعبة مع إسرائيل وتعتمد عليها في مناحٍ اقتصادية وسياسية، بل وأمنية.

هذه المظاهرات الحاشدة، إلى جانب استطلاعات الرأي التي أظهرت زيادة التضامن مع الفلسطينيين، أسهمت في تغيير موقف الحكومات نسبيًا، إذ دفعت بعضها للمطالبة بوقف لإطلاق النار، بل وعطّلت قدرة الولايات المتحدة على إعاقة عمل مجلس الأمن عندما دعا لهدنٍ إنسانية لتمرير المساعدات، وهو ما أثار قلق محللين من أن يؤثر تزايد نسب تأييد الفلسطينيين على الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، بل وعلى مستقبل دعم إسرائيل غير المشروط، مع زيادة تأييد الفلسطينيين بين الفئات العمرية الأصغر.

علينا إذن أن نتذكّر أنَّ هذه ليست معركة شرق مستضعف ضد غرب يستبيحه، لأنَّ النظم والقيم القمعية والدموية والكارهة لحقوق الإنسان منتشرة في كل العالم، وتجمع صفوف المبتهجين بالضربات الموجعة الموجهة لمنظومة حقوق الإنسان خليطًا عجيبًا وقويًا من البشر: جنرالات في العالم الثالث ومثقفين عنصريين يدافعون عن التعذيب واستهداف المدنيين في  العالم الأول، حكومات شعبوية تنشر الخوف من الآخر وكراهيته من الهند حتى المجر، ووزراء عنصريين من إسرائيل وحتى سويسرا، وقطاعًا لا يُستهان به مما يسمى بمجموعات المعارضة والممانعة والمقاومة.

كلُّ هؤلاء يريدون الانتصار الساحق مع استبعاد بل واستعباد بقية البشر. ومواجهة كل هؤلاء قد تكون خيارًا مثاليًا واهمًا في عرف البعض، ولكنه خيار عاقل وواقعي وممكن، إضافة لأنه الخيار الأشرّف.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.