من أرشيف ستوديوهات أوفا
فريق عمل الفيلم الألماني "موسم في القاهرة" أمام الأهرامات

مئوية شاشة الفضة| المومياء على الشاشة

منشور السبت 1 يوليو 2023

لم نزل في مصر 1923، العام الفاصل في تاريخ مصر الحديثة، المدنية، الديموقراطية، بعد نجاح ثورة 1919، وإعلان الاستقلال الجزئي في 28 فبراير/شباط 1922، وازدهار الصحافة الحرة، نسبيًا، وصعود الحس الوطني والحماس لإنجاز أشياء كثيرة، منها دخول عصر السينما.

هو العام الذي شهد مولد أول مجلة سينمائية مصرية متخصصة، وإنتاج أول فيلمين مصريين.

اسأل من تقابله في الشارع

 ذكرت في المقال السابق أن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في 1922، زاد من اهتمام العالم بمصر، التي التفت إليها مع الحرب العالمية الأولى، فاجتاحت السينما العالمية موجة من الأفلام التي تدور عنها وعن حضارتها القديمة.

وشهد عام 1915، مثلًا، إنتاج سبعة أفلام حول المومياوات، لكن اكتشاف المقبرة عزز من ذلك الاهتمام ووصل به إلى الذروة. ففي 1923، صدر كثير من الأعمال السينمائية التي تستلهم قصصها من ذلك الحدث، منها مثلًا فيلم في حب توت/For The Love Of Tut، إخراج إيدي ليونز، وهو فيلم كوميدي يتنكر فيه أحد العشاق في هيئة مومياء لكي يصير قريبًا من حبيبته، ابنة جامع المومياوات. وفيلم المومياء/The Mummy، إخراج نورمان تاورج، وهو كوميدي أيضًا يحلم بطله بالتنكر في هيئة مومياء، وكلاهما أمريكيين.

كذلك شهدت تلك السنة إنتاج الفيلم البريطاني توت ومقبرته المرعبة/Tut And his Terrible Tomb، إخراج برترام فيلبس. وحسب كتاب "المومياء على الشاشة- الاستشراق والمسخ في سينما الرعب" لمؤلفه بازيل جلين، فقد صدر أيضًا في 1923 فيلم اسمه زوجة توت عنخ آمون الثامنة/Tut-Ankh-Amen’s Eighth Wife، من تأليف وإخراج ماكس كوين، يفترض أنه يدور حول لعنة الفراعنة.

ورغم وجود بعض الإعلانات عن ذلك الفيلم في الصحف المصرية، من بينهم إعلان غريب ومضحك، يقول في إحدى فقراته "كل سكان الولايات المتحدة، من نيويورك إلى كاليفورنيا، ينتظرون الآن أن يشاهدوا الملك توت عنخ آمون على الشاشة. وإذا لم تكن تصدق اسأل أول رجل أو امرأة أو طفل تقابله في الشارع".

الحقيقة أن ذلك الفيلم مفقود، وليس هناك دليل على عرضه في أي مكان، ولا أخبار عنه سوى تلك الإعلانات. لكن الأغرب هو فيلم آخر يحمل عنوان زوجة بلوبيرد الثامنة/Bluebeard’s 8th Wife، الذي صنع وعرض بالفعل في 1923، بل وصورت بعض مشاهده في مصر.

بوستر فيلم الزوجة الثامنة لبلوبيرد

الفيلم الذي أخرجه سام وود، من بطولة جلوريا سوانسون، مأخوذ عن مسرحية فرنسية بالاسم نفسه، تحولت إلى نسخة أمريكية حققت نجاحًا كبيرًا على مسارح برودواي، وتحولت إلى عدة أفلام كان هو أولها.

ومن أشهر النسخ الأخرى فيلم بالاسم نفسه من إخراج إرنست لوبيتش، وبطولة كلوديت كولبرت وجاري كوبر، من إنتاج 1938، وهي النسخة التي تم اقتباسها في السينما المصرية عدة مرات، منها الزوجة السابعة والزوجة 13.

ولكن ما الذي يربط توت عنخ آمون بامرأة عصرية تتزوج رجلًا ثريًا لتكتشف أنه تزوج قبلها عدة مرات فتقرر أن تعلمه درسًا؟ الحقيقة أنه لا يوجد علاقة سوى أن البطلة جلوريا سوانسون تتنكر في أحد المشاهد على هيئة مومياء.

بين توت وداود

بجانب فيلم الملك توت الذي أشرنا إليه في المقال السابق، توافدت إلى مصر شركات إنتاج لتصوير أعمالها في مصر، من أمريكا وفرنسا وألمانيا وبلاد أخرى. وشهدت القاهرة في 1923 تصوير أفلام منها الملك الراعي/The Shepherd King، إخراج جي جوردون إدواردز، وبطولة فيوليت مرسيرو، ونيريو بيرناردي.

يتناول الفيلم، المقتبس عن مسرحية عرضت في برودواي، القصة التوراتية عن النبي داود وتأسيسه لمملكته. ورغم أن أحداثه ليس لها علاقة بمصر، لكن صناع الفيلم أرادوا استغلال شعبية الملك توت بتصوير أحد المشاهد في بلده، كما أن أفيشات الفيلم تصدرتها عبارة "الملك توت كان يمكنه أن يتعجب من الملك الراعي"!

بوستر فيلم الملك الراعي

أما المشهد الذي استضافته أرض الكنانة، فيبدأ به الفيلم حين يصور خروج موسى من أرض مصر، فيمر مع أنصاره بجوار الأهرامات وأبي الهول، قبل أن تبدأ الأحداث الرئيسية بعد ذلك بقرون في مملكة يقال إنها أرض فلسطين القديمة.

الطريف أن مجلة الصور المتحركة لم تكتف بنشر خبر عن الفيلم وتصويره في مصر، ولكنها نشرت في عددها الثاني عشر( 26 يوليو/تموز، 1923) ملخصًا له على أربع صفحات كاملة مع صورة فوتوغرافية من الفيلم الذي كان في طور الإعداد، حيث لم يعرض إلا في نهاية العام (25 نوفمبر/تشرين الثاني، أو 10 ديسمبر/كانون الثاني).

ونجاح المجلة في ذلك يؤكد قوة حضورها، ليس فقط محليًا، ولكن عالميًا، كما سنبين بمزيد من التفاصيل بعد قليل.

قصاصة صحيفة واحدة

تذكر الباحثة فريدة مرعي في مقدمة كتاب صحافة السينما في مصر -النصف الأول من القرن العشرين أسماء أفلام أجنبية أخرى صُورت في مصر خلال 1923، ومنها "رادانيكا" الألماني وموسم في القاهرة وليلة في القاهرة، كما تشير إلى فيلم بعنوان نيران القدر من بطولة واندا هولي، صدر في 1924. وهذه المعلومات تحتاج إلى بعض المراجعة.

لم أجد أفلامًا بأسماء رادانيكا أو ليلة في القاهرة. والصحيح أن الفيلم الألماني هو موسم في القاهرة/Saison In Kairo، من إنتاج ستوديوهات أوفا الشهيرة وإخراج راينهولد شونتزل، وهو كوميديا موسيقية تم بالفعل تصوير بعض أحداثها في مصر بجوار الأهرامات وأبي الهول.

"مودة توت" من مجلة الصور المتحركة

أما نيران القدر/Fires of Fate، فهو إنتاج بريطاني أمريكي من إخراج توم تيريس، صدر في 1923، ولكن عرض في أمريكا بعنوان شيخ الصحراء في 1924، وصورت بعض أحداثه في مصر والصحراء الليبية.

والفيلم مأخوذ عن رواية لأرثر كونان دويل ويدور حول فتاة أمريكية تأتي إلى مصر مع خطيبها لقضاء رحلة، ولكن يخطفها بعض من بدو الصحراء ويتدخل الجيش البريطاني لإنقاذها.

وقد كان لمجلة الصور المتحركة قصة طريفة مع ذلك الفيلم وبطلته واندا هاولي، فبعد عودتها من مصر إلى أمريكا أدلت هاولي بحوار إلى إحدى المجلات الفنية قالت فيه كلامًا في غاية العنصرية ضد الشيوخ (البدو) المصريين، فترجمت الصور المتحركة تصريحات هاولي المسيئة وعلقت عليها تحت عنوان "يا لسوء حظ مصر" (العدد السادس والعشرين، 21 نوفمبر 1923)، بتعليق لا يلوم الممثلة بقدر ما يلوم المصريين، الذين تركوا النجمة وفريق عمل الفيلم، دون مصاحبتهم والسعي إلى تقديم صورة مشرفة عن بلدهم.

والحقيقة أن تصريحات هذه الممثلة كانت غاية في العنصرية والتشويه بالفعل، كما يظهر في نصها الانجليزي وترجمته الدقيقة على صفحات "الصور المتحركة"

تصريحات واندا هاولي

وجدير بالذكر أن موقع Movies Silently، المتخصص في تاريخ السينما الصامتة، نشر حديثًا صورة من تصريحات هاولي كنموذج للعنصرية البغيضة في تلك الحقبة، مع تعليق يقول "كم من جنسيات وأعراق مختلفة يمكن أن نثير غضبها بقصاصة صحيفة واحدة؟".

يتكرر المشهد السابق لواندا هاولي بعد عدة أسابيع في العدد الثلاثين من المجلة (29 نوفمبر، 1923) مع فيوليت ميرسور بطلة فيلم الملك الراعي، التي أدلت بتصريحات مسيئة أيضًا عن الشيوخ المصريين. وكلمة "شيخ" في الأمريكية ارتبطت بأفلام رودولف فالنتينو "الشيخ" و"ابن الشيخ"، وغيرها من الأفلام البدوية التي تدور في الصحراء العربية، ورسمت بالمجمل صورة جذابة وغرائبية عن الرجل البدوي، ويبدو أن تصريحات الممثلتين كانتا نوعًا من الرد على تلك الصورة الخيالية.

ورغم التعليقات المهادنة للمجلة على خبر هاولي، فإن محمد توفيق، رئيس تحرير الصور المتحركة، أرسل للممثلتين المذكورتين رسالتين غاضبتين يصحح فيهما معلوماتهما عن الرجل المصري، وبالفعل استجابت إحداهما، ميرسور، برسالة اعتذار عن تصريحاتها التي نشرتها المجلة في عددها الأربعين.

نشاط محموم

تحتوي أعداد الصور المتحركة على سجل بعشرات الأفلام والنشاطات السينمائية خلال تلك الفترة الحاسمة من تاريخ مصر، التي شهدت ذروة نهضتها الحديثة.

مقال يا لسوء حظ مصر

فحسب سجلات المجلة، شهد 1923 صنع عدد من الأفلام الوثائقية عن مصر منها سعد باشا زغلول، إخراج الفرنسي جاستون مندولفو، الذي صُور في مدينة إكس ليبان الفرنسية وعرض في سينما متروبول في يونيو/حزيران 1923. وفيلم مناظر وشوارع القاهرة، الذي عرض في لندن. وفيلم مولد السيد البدوي، إنتاج شركة "باتيه" الأمريكية، الذي أثار عرضه الأول في طنطا ضجة كبيرة بتهمة الإساءة لسمعة مصر.

وكانت المجلة تتابع ليس فقط ما يتم تصويره وعرضه في مصر، ولكن في العالم. ففي العدد العاشر منها (12 يوليو 1923) يطالعنا خبر عن قيام المخرج سيسيل دي ميل بصنع فيلم الوصايا العشر، مع التعليق عليه "سيخرج سيسيل دي ميل رواية عن الوصايا العشر التي كلم الله بها موسى عليه السلام، وهم يصنعون من أجلها في (...) مئات من العربات المصرية والحربية والدروع، ومن أهم مناظر الرواية مدينة تشبه عاصمة رمسيس الثاني: وأين المصريون؟ هل هم نيام؟".

وتتابع المجلة في عددها الرابع عشر (9 أغسطس/آب 1923) أخبار تصوير الفيلم فتنشر "يقولون إن الأناس والأثاثات والحيوانات التي يستخدمها سيسيل دي ميل في روايته الوصايا العشر، تبلغ ثمانية أميال أو أقل، فستكون هذه الرواية أكبر روايات دي ميل. وهو يبني منظرًا لمقر رمسيس الثاني يبلغ ارتفاعه مائة قدم وطوله نصف ميل ويستخدم دي ميل في هذه الرواية 2500 شخصًا و4000 حيوانًا!".

عُرض الوصايا العشر بالفعل في ديسمبر 1923، وكان واحدًا من أكبر إنتاجات هوليوود حتى ذلك الحين، وبعدها بثلاثين سنة قام بصنع نسخة أخرى ملونة منه، صوّر سيسيل العديد من مشاهدها في مصر. وحينها قامت الدولة بالترحيب بصناع الفيلم وقدمت لهم العديد من التسهيلات والمساعدات، واحتفت الصحف والمجلات وقتها بفرق العمل، وأجرت معهم الحوارات من مواقع التصوير.

ولكن عقب الانتهاء من الفيلم، الذي عرض 1956، رفضت الرقابة عرضه في مصر، نتيجة فتوى تحريم ظهور الأنبياء على الشاشة.

أما الملك توت، الذي صار "موضة" السينما العالمية في عشرينيات القرن الماضي، فأسباب ولادته كانت هي للمفارقة أسباب غيابه، وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بذلك تمام الجزم، غير أن بازيل جلين، مؤلف كتاب المومياء على الشاشة، يذكر أن أحد هذه الأسباب هو السمعة السيئة حول المعاملة غير اللائقة التي لحقت بآثار توت عنخ آمون، والمومياوات بشكل عام.