إسماعيل يس وسيد درويش وعدوية والشيخ إمام

المال في الأغاني المصرية: انتي فين يا فلوس؟

منشور الخميس 28 سبتمبر 2017

تغلب على عالم الأغاني والموسيقى موضوعات الحب والعلاقات العاطفية، لكونها الأكثر شعبية وانتشارًا. في المقابل لا تجد الكثير من الأغاني التي تتحدث عن المال والمعاملات المالية، على الرغم من أن الاقتصاد يتحكم في كل شيء من حولنا، حتى في صناعة الأغنية نفسها. هكذا هو الحال في العالم، وهو أكثر وضوحًا في مصر، فأغاني "البوب" المصرية تخلو تقريبًا من الحديث عن المال، فلن نجد لعمرو دياب أو غيره من نجوم الأغنية السائدة أغنية عن النقود. 

ولكن كالعادة، ما لا تجده في الأغاني السائدة ستجده في الأغاني الشعبية، التي تتميز بتحرر موضوعاتها من جاذبية العلاقات العاطفية والحب والغرام، ستجد المال حاضرًا في موضوعات الأغاني. فنجد مثلًا في أحد مواويل الفنان الشعبي أحمد عدوية "يا رايح السوق، هاتلي معاك قوت لاخواتي، ده انا اللي زي الحمام بحمحم على اخواتي" أو في موال آخر له: "وناس غلابة رزقهم من خرم إبرة يمر"، تعبر هذه الجمل وتعكس الحالة الاقتصادية، ولا تتحدث عن المال والعملة والتعاملات المالية بشكل مباشر.

ربما يكون الحديث عن  التعاملات المالية بشكل مباشر وذكر  العملة صراحة في الأغنية المصرية أمرًا نادرًا، فلم يتم ذكر المال أو الفلوس أو الجنيه أو حتى التعاملات المالية إلا في أغاني معينة، فقبل أن يشهد العالم نهاية الحرب العالمية الأولى، التي استمرت لأربع سنوات، كانت مصر تعيش أزمة اقتصادية عنيفة جراء مشاركتها مع قوات الحلفاء، ازدادت معدلات التضخم وارتفعت الأسعار، وبسبب ندرة الذهب، فقدت العملة المصرية قيمتها الشرائية وبدأ الناس في استخدام الفضة في التعاملات التجارية، الأمر الذي اضطر الدولة حينها إلى إدخال العملة الهندية "الروبية" ليتم استخدامها. 

وفي أغنية "البترول" للشيخ سيد درويش، تقول الأغنية في مطلعها "استعجبوا يا أفندية لتر الجاز بقى بروبية"، وتوضح الأغنية أزمة طاقة كانت تمر بها مصر في هذه الفترة التي ذكرت فيها المؤرخة لطيفة محمد سالم في كتابها "مصر فى الحرب العالمية الأولى"، أن من شدة الأزمة الاقتصادية التي أطاحت بالبلاد، دعت صحيفة "الإصلاح الاقتصادي"  رجال الأعمال المصريين لاستثمار أموالهم في المجالات الصناعية للنهوض بالاقتصاد، وذكرت في الكتاب أن الفنان سيد درويش غنى متسائلًا: "ثروتنا فين الاقتصادية.. وفين كبارنا وفين ألوفاتهم، حاطينها فى إيدين أفرنجية.. وأهم يا فرحتنا بكثرتهم".

 

وبعيدًا عن الأزمة الاقتصادية في فترة الحرب العالمية الأولى، اختفت الموضوعات الاجتماعية في الأغنية المصرية، على رغم من تعرض مصر ﻷزمة اقتصادية أخرى أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية، ولم تتناول الأغنية المصرية موضوعات المال والمعاملات المالية إلا في سياق الأعمال الدرامية، فجاءت معظم الأعمال الغنائية التي تناولت هذا الموضوع في قالب المونولوج، فنجد إسماعيل ياسين في مونولوج "البنك الأهلي" ومونولوج "بالفلوس"، ونجد استعراض "بفلوسك وبمالك" للفنانة تحية كاريوكا واستعراض "معانا ريال" للفنانة فيروز الصغيرة من فيلم "ياسمين".

 

اختفت الأغاني التي تتناول الموضوعات الاجتماعية في الخمسينيات وبداية الستينيات، ربما يرجع ذلك إلى تحسن الأوضاع الاجتماعية للعديد من المصريين، وربما يرجع الخوف من أن تحمل هذه الأغاني نقدًا اجتماعيًا قد يعرض الفنانين للمساءلة في ظل نظام ثورة يوليو. ولكن مع نهاية الستينيات عادت هذه الأغاني للظهور. وفي نهاية السبعينيات غنى الشيخ إمام من كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم أغنية "الفول واللحمة" بعد قرار رفع الدعم عن المحروقات والسلع الاستهلاكية في أواخر السبعينيات، القرار الذي أدى لأحداث انتفاضة الخبز في يناير 1977، والتي اشتهر فيها هتاف "سيد بيه يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه".

 

ومع صعود تيار الأغنية الشعبية في أواخر السبعينيات، بدأت الأغنية الشعبية والموال المصري في تناول الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع المصري بشكل متكرر، لكن من ناحية أخرى، عكست الأغنية ثقافة سائدة لدى فئات واسعة داخل المجتمع المصري عن القناعة والرضا بالقليل، وأن المال يؤدي إلى الغرور ومن ثم الندم.

 

وفي موال "تعيش راجل" للفنان الشعبي عبده الاسكندراني نجد تأكيدًا على كراهية المال، يقول الإسكندراني "ملعون أبو المال، بيحكم نفوس في نفوس، اللي معاه مال، على إيده الرجال بتبوس"، "الله يجازي الفلوس عملت م الخسيس راجل".

 

في الفترة الأخيرة، ومع تأزم الوضع الاقتصادي في مصر، أخذت الأغنية الشعبية طريقًا معاكسًا تمامًا في الحديث عن المال، وتحول المال من شيء مكروه يتم لعنه في الأغاني، إلى مصدر طمأنينة وراحة لصاحبه، ففي أغنية "معاك فلوس" للمطرب الشعبي حسن عبد الوهاب، تجد أن الحلم وعدم الخوف وحب الناس مرتبط بشكل أساسي بالمال والاستحواذ عليه.

تصور الأغنية الشعبية في السنوات الأخيرة المال على أنه المتحكم الأول في العلاقات الاجتماعية بين الإنسان والأخرين، بل وهي التي تتحكم بمصيره ومدى سعادته، ففي أغنية "إنتي فين يا فلوس" للمطرب الشعبي أحمد الشوكي، نجد "الفلوس" هي الوقود الذي يحرك الحياة الاجتماعية نحو الأفضل.

كانت الأغنية المصرية التي تتناول الأزمات الاجتماعية في مصر تتسم بسخريتها، كان ذلك الحال في أغاني سيد درويش والشيخ إمام، أو في أغنية "اتفضل من غير مطرود" التي غناها الفنان نجاح الموجي في فيلم "أيام  الغضب" والتي كتبها سيد حجاب وقال فيها "دنيا بتدي للهبيش ويا عيني علينا يا حرافيش، نشقى عشان حبة ملاطيش ما يكفوش العيش والشاي"، أو في أغنية محمد منير "المقاولون" الساخرة من فكرة "المقاولة" و "السمسرة" والكسب دون جهد.

ولكن في السنوات الأخيرة اختفت السخرية، وتراجع الطابع الإرشادي في الأغنية التي تتحدث عن المال، وتحول المال كموضوع في الأغنية المصرية إلى أزمة فردية لشخص يسعى لحل مشكلاته بالنقود، لا أزمة اجتماعية لفئة بكاملها مثلما كان الحال عند سيد درويش والشيخ إمام.