دروس من سيرة نزار: كيف يصعد الأنصاف إلى القمة

منشور الأربعاء 20 سبتمبر 2017

 

يبدو التاريخ بعيدًا، لكن 2018 ستشهد الذكرى العشرين لرحيل نزار قباني، وسأنتحل تلك المناسبة البعيدة كي أكتب عن شاعر استطاع تحقيق نجومية لم تؤت لشاعر بعده -بعد-، واستخلص من سيرته دروسًا نقدمها لأنصاف الموهوبين الراغبين في تحقيق النجومية الأدبية.

يوم رحيل نزار، انتفضت وسائل الإعلام العربي لوفاته، فكان يوم رحيله حافلا بالتأبين والمرثيات والتصريحات البكائية من كل القامات السياسية والثقافية، وكان من الطبيعي أيضا أن تشتد حركة الصحافة حينها. 

ينقل الكاتب الراحل إبراهيم أصلان في كتابه "خلوة الغلبان"، حكاية صحفية عربية أرادت الظفر بانفراد لصحيفتها، فاستطاعت بطريقة ما أن تحصل على رقم هاتف الروائي الكولومبي الراحل جابرييل جارثيا ماكيز، وبلا حساب لفروق التوقيت اتصلت به ليرد بعد إلحاح منها لتسأله أن يعطيها تعليقًا على خبر وفاة نزار قباني، ليرد ماركيز بالرد المتوقع: "أنا آسف جدًا لوفاته، ولكن من نزار قباني؟" فتستمر الصحفية وتعرفه له بأنه شاعر عربي كبير، ليرد ماركيز ثانية: "شاعر عربي كتب ماذا؟" فتواصل الصحفية وتوضح له بأنه كتب قصائد كثيرة في الحب والسياسة، لينهي ماركيز المكالمة نافذ الصبر: "كل البشر يكتبون في الحب والسياسة!"

وإن كان اسم نزار لم يصل ماركيز، إلا أن ما دفع الصحفية للظن بأن شهرة شاعرها العربي عبرت المحيط الواسع حتى كولومبيا له ما يبرره، ففي ذلك الوقت كان نزار قباني هو الشاعر العربي الذي يتردد اسمه حتى على ألسنة من لم يمسكوا في أيديهم بديوان مطبوع يحمل هذا الاسم قبلاً. وكي يصل لهذه المكانة؛ وعى نزار عدة دروس صنع منها نجاحه الشعبوي.

الدرس الأول: العن النقد والنقاد

"الشاعر هو الذي يقود عربة الخيل، والنقاد هم الأطفال المشاغبون الذين يتعلقون بالعربة من الخلف فيضربهم السائق بالكرباج فيسقطون مدرجين بدم أحقادهم، دون أن يكون لهم دور في اتجاه العربة وحركتها". - نزار قباني مجيبا عن سؤال حول رأيه في النقد في حوار مع محطة MBC أذيع عام 1993. سأعرج بك قليلا نحو أمر قد يبدو غريبًا بعض الشيء، ثم عديد من الأدباء والشعراء ممن تبنوا قرارًا بعدم نشر أعمالهم وعرضها على الناس، فيكتفي أحدهم بالكتابة لنفسه وعرض منتجه على خاصته من أهله وأصدقائه. واختلفت الأسباب المتبناه حيال ذلك، البعض يرفض النشر خوفا من آراء الناس، والبعض جبنا عن ملاقاة النقد، والبعض احتراسا لأسباب سياسية أو عادات مجتمعية. وهناك من امتنع عن النشر احتقارا منه لعامة الناس. ولعل أشهر من اختار بمحض إراداته منع كتاباته عن الناس كان الروائي التشيكي الراحل فرانتز كافكا، وإن قام صديقه ماكس برود بتجاهل وصيته ونشر أعماله رغم أنف صديقه المتوفى.  أمر غريب حقا، هل يوجد وصف لهذا سوى أنه التطرف بعينه؟  فإن كان هذا تطرفًا يلزم أقصى اليمين، لماذا لا نعتبر أقصى اليسار- أي التساهل في النشر-  أيضا تطرفا؟

يمكننا أن نضع نزار قباني في الخانة الثانية بأريحية. فعلى مدى سنوات انتاجه المعروفة التي امتدت من1941 حين نشر أول قصيدة معروفة له "دنيا الحروب" ثم ديوانه الأول "قالت لي السمراء 1944، وصولا لوفاته 1998 التي وضعت حدًا لإنتاجه الشعري والنثر، أصدر نزار 7 أعمال نثرية عن حياته وشعره، ومسرحية وما يتجاوز 35 ديوانًا، وهو ما يفوق الإنتاج الشعري لكل مجايليه من الشعراء والمبدعين. ما يوحي بأن الشاعر الراحل لم تكن لديه معايير يمكن الإمساك بها لما يُنشر وما لا يُنشر.

الدرس الثاني: ارْض جميع الأذواق

نزار قباني بالنسبة لي أحد أهم الشخصيات العربية في القرن العشرين ولا أبالغ إن قلت إنه من أكثرها ذكاء، نزار استطاع أن يُدخل الشعر المكتوب بلغة عربية -لا بلكنة عامية تخص بلدة بذاتها- إلى كل بيت عربي، نادرًا ما تقابل عربيًا لا يحفظ بيتا على الأقل لنزار، حتى وإن لم يكن يعلم أن نزار هو صاحب هذا البيت أو هذه الجملة، وتلك هي أقصى صور تأثير الشاعر من وجهة نظري. منذ بدايته وضع نزار هدفا واضحًا لشعره، وهو أن تجري ابياته بصورتها الفصيحة على ألسنة العدد الأكبر من الناس. وإن لزم الأمر استخدام لفظ غريب؛ فهو قادر على إذابته في روح الكلام فيمر عليك كما النسيم.

 اختار نزار المنهج وأرسى خطواته. عَمَدَ إلى معجمه اللغوي ينقحه من أي لفظ قد يبدو غريبا على مسامع الناس، هجر المواضيع الفلسفية المغلفة بلباس الشعر؛ هربًا من فخ محدودية الانتشار، تاركًا تلك القصائد لشعرائها يلوكونها في جلساتهم الثقافية على المقاهي متهالكة المقاعد. 

هجر قباني تلك الأشعار بقصد، مصوبًا نظره نحو القصيدة المسددة في قلب الرجل العربي مباشرة بلا حيد. اعتصم بعصا الجرأة فكانت خير معين، ونصبته مثالا للمحب الجريء والمحارب المقدام.

المرأة والحب والغزل والحمية السياسية أحيانا، ماذا يشغل العربي أكثر من هذا؟

الانتقاء.. الحلقة الأقوى في عقد الوصول

إن قلنا أن ثنائيتي رامي والست، والرحبانية وفيروز هما الأكثر تأثيرا في تاريخ الأغنية العربية؛ فبإمكاني أن أُضيف بعدهما في القائمة- بكل ثقة- ثنائية نزار قباني وكاظم الساهر.

 

 اختار نزار كاظم واختار كاظم نزار، وسارا سويا في طريق واحد وهو وصول القصيدة المغناة إلى الملايين، والتعامل معها كأي أغنية خفيفة يسمعها سائقو التاكسي.

 كاظم الساهر الملحن الرائع والموسيقي البديع قبل أن يكون مطربا يبتعد بمسافة مريحة عن أبناء جيله والجيل الذي يليه، ظل يحتل دوما صورة الفنان الوقور الحامل لعبق مطربي الستينيات، مع بعض رتوش الحداثة الناعمة المثيرة.ضع هذا بجوار زيادة جرأة نزار مع تقدمه في السن عما كان في  قصائده التي غنتها نجاة أو فيروز، وقد ترى أن كاظم الساهر كان من المنطقي ألا يترافق مشواره الفني إطلاقا مع كلمات نزار الكاسرة لكل الحواجز، لكن لأن الهدف أوضح وأقوى من أي سمات شخصية؛ نجحت الثنائية.

نزار وكاظم في جلسة عمل

 

لا عجب إذن في أن كاظم بدّل كلمات عديدة في قصائد متفرقة لنزار، وكان الشاعر يتقبل هذا بصدر رحب. وأن يتقبل شاعر تبديل كلماته المغناة والله أمرٌ لو تعلمون عظيم!

نقديًا - وسامح الله النقاد منغصي طعم الفنون- لو تحدثنا عن شعر نزار قباني يجب أن نتناوله من الجانبين؛ الجانب الجماهيري والجانب الفني.

لا غبار على الجانب الأول، فشعبية نزار ربما لا تدانيها شعبية أي شاعر عربي آخر في الخمسين عاما الأخيرة، بل إن رهان نزار على الجمهور ظل دوما الرهان الضامن لاستمراره على القمة، فترى نزار يصدر كتابه "قصتي مع الشعر" راصدا فيه إبداعاته وخطاياه على حد سواء، وكأنه يوجه فيه رسالة لكل ناقد حاضر أو مستقبلي: أنا نزار هنا، وهذا كتابي فيه كل أمري فاقرأوه واستمروا بعده في النقد الذي أعرفه ودعوا لي جمهوري فأنا أولى به وهم أولى بي منكم. وتأييدا لفكرة ذكاء نزار وتيقني بأنه لو كان حيًا الآن لكان من أشد المستغلين لمواقع التواصل الاجتماعي في صالحه، أيضا لا مفر من تجريد نزار خارج أفكار المجتمع، بل كلي اعتقاد بأن نزار كان جسما مشحونا بالثورة وجاهز طيلة الوقت للانفجار، وكما أشرت فقد استعان بعصا الجرأة، إلا أنه حصرها وكثّفها بمنتهى الفطنة ليجعلها عصا لا تضرب إلا على وتر الغريزة. أجل نزار شاعر المرأة، لكن أعلم يقينا أن المرأة عنده وسيلة، ويمكن أن تكون غاية أيضا.

 الأمر ليس مُعقدًا؛ فنزار يحب المرأة ويراها غاية ويبرزها وسيلة للتحرر، ويستعملها وسيلة لهدم التخلف ويعشقها رمزا للثورة، وتتجلى هذه الرؤية في كتابه عن الشعر والجنس والثورة : "المرأة هي الآن عندي أرض ثورية، ووسيلة من وسائل التحرر، إني أربط  قضيتها بحرب التحرير الاجتماعية التي يخوضها العالم العربي، إنني أكتب اليوم لأنقذها من أضراس الخليفة وأظافر رجال القبيلة".

الدرس الثالث: املك قارئك

عادة لا يأخذ الشاعر الحظ الأوفر من البريق الاجتماعي كما المطرب أو الممثل، أما أن ترى نزار يتعامل كلاعب كرة ذائع الصيت قد ضاق ذرعا من الملتفين حوله؛ فهنا نحن أمام أمر غريب ومدهش، أمام شاعر وصلت به الثقة أن يعاتب جمهوره.

يقول نزار في كتابه "شيء من النثر": "القارئ العربي هو أكبر ديكتاتور في العالم، إنه لا يكتفي بالقراءة قبل النوم ثم يضع رأسه على المخدة ويغفو، فهو يناقشك قبل النوم وأثناء النوم وبعد النوم، ويتسلل تحت ثيابك الداخلية.. ديكتاتورية لا تقف عند حدود النص المكتوب، وإنما تجاوزها إلى تدخله في جوهر الكتابة واختبارات الكاتب، ولون عينيه وطول قامته وتفاصيل حياته الزوجية".

نزار الذي كرّس مشروعه الشعري للجمهور يقول هذا الكلام، إذا أعلم أنه لم يصل للقمة وحسب، بل وصل وضمن حتى ألا يفقدها.  حقيقة، فالنجاح الجماهيري هو أكبر المغريات الدافعة للانزلاقات الفنية، فالساعي لنقد نزار الشاعر بعد تجريده من جماهيريته لن يجد في الأمر مشقة، وقد فعلها الكثيرون ووصل الأمر بأن اتهمه البعض بالنحت الصريح من سعيد عقل، واستخف به البعض الآخر وسماه المهرج، وانتشر عنه في أواسط النقاد في فترة ما لقب عابد اللحم.

 التهم النقدية واضحة، والجميل أنها هي نفسها العوامل التي يستشهد بها محبو شعره: البساطة والمعاصرة. وحين يتعلق الأمر بالنقد، تجد العوامل كلها مضخمة، فهذه البساطة تتحول نقديا لتفاهة وسفه، وهذه المعاصرة تتحول لمراهقة وطيش، وهذا الناقد اللبناني امطانيوس ميخائيل في كتابه "دراسات في الشعر العربي الحديث" يصف نزار بأنه "حوّل الشعر إلى نكتة أو إلى مجموعة من النكات الصغيرة التافهة، والتي يمكننا أن نتحسس أهميتها ونتذوقها بشكل أفضل من المهرجين أنفسهم بدلا من شعراء عمالقة وسادة بحجم نزار قباني". واحتذى الناقد إيليا الحاوي درب امطانيوس حين أفرد دراسة على جزئين لتحليل شعر نزار وخلص إلى: "مشكلة نزار في النهاية ليست مشكلة موهبة، فهو شاعر موهوب لكنه قاصر متخلف، ليس لديه الثقافة التي يقتضيها الشعر المعاصر ومهما يكن من أمر فإن الشاعر يكرر ذاته ويمضغ أفكارًا واحدة". ولعل مسألة التكرار هذه هي المقتولة بحثا من شعر نزار فمثلا حين يقول في قصيدته "فستان التفتا": ماهمني الدنيا... فأنا الدنيا ورجعت أحمله إلى البيت وأخذت أمسحه وأطويه أسقيه أطعمه أغنيه لأجيء فيه ليلة السبت

             

نزار قباني وزوجته بلقيس الراوي 

 

هو هنا لا يكرر نفسه فقط كما فعل في قصائد عدة مثل "متى ستعرف"، ولكن يعود به التكرار كما يبين امطانيوس ميخائيل إلى العصر الجاهلي وامتداد هذه الصور من شعر عصر الانحطاط والشعر الأندلسي.

 

كذلك رأى النقاد خاصة نقاد الثمانينيات -في زهوة نزار السياسية- أنه لا يأتي سوى بصور سياسية ما، ثم يُعيد ويكرر ويحيطها بصور تقريرية انفعالية يتوقعها أغلب القراء كما فعل في قصيدة "جميلة بو حيرد" مثلا. وكل هذا بصورة أو بأخرى لا يصب إلا في صالحه. يقول لسان حال نزار إذ يهاجمه النقاد: أجل أجل اكثروا الكلام عني، فهذا ما أهوى.

يقول سارتر في كتابه "ما الأدب": "الأمر في حال الكاتب أكثر تعقيدا، لأنه ليس هناك إنسان مضطر إلى اختيار مهنة الكتابة لنفسه. وإذن، فالحرية هي الأصل فيها، فأنا أولا مؤلف بمقتضى مشروعي الحر في الكتابة، ولكن لا يلبث أن يتبع ذلك أني انسانُ ينظر إليه الآخرون أنه كاتب، أي عليه أن يستجيب إلى بعض المطالب". طبِّق هذا الحديث بكل حروفه على نزار، فهذا نزار كما أراه بالضبط بلا زيادة أو نقصان. أحس بنزار دائما المعادل الفصيح لصلاح جاهين، أو بالتأكيد صلاح جاهين هو المعادل العامي لنزار؛ فكلاهما يقف على قمة يركل النقد والنقاد ويحتضن فطرته بما لها وما عليها. نحن أمام شاعر بحق، أرى ذلك بوضوح في مواضع عدة في شعره، قد يبدو لمن يقرأ نزار في الحب لأول مرة أنه شاعر تافه لا يهمه سوى جسد المرأة، وقد يبدو لآخر يقرأ نزار في السياسة لأول مرة أنه مراهق سياسي منفعل، ولكن الباحث الحق يدرك ما أقوله الآن بأن نزار "صنايعي" يقدر على الكتابة بأي صورة كانت، واختار الصورة المحببة له، أو المحببة للجمهور إن أردنا دقة أكثر.

 نزار ليس بنصف، نزار موهوب والأمر كله أنه اختار أن يُرسي منهجا يصلح للجميع، حتى لو كانوا أنصافًا وأرباعًا، داعيًا فيهم: إن كنتم تحبون القمة فاتبعوني تحببكم القمة. عندما يولد في الشرق القمر.. فالسطوح البيض تغفو.. تحت أكداس الزهر يترك الناس الحوانيت ويمضون زمر.. لملاقاة القمر يحملون الخبز والحاكي إلى رأس الجبال ومعدات الخدر ويبيعون ويشرون خيال وصور.. ويموتون إذا عاش القمر                           صدقني..ثَمّ نزار قباني آخر مازلنا لا نعرفه، أو ثمَ نزار قباني آخر تعمَّد ألا يُعرِفنا بنفسه.

يتداول محبو الشعر حكاية عن سيد الشاعر الراحل سيد حجاب، حين هنأه أحد الصحفيين الشاعر سيد حجاب بعد نجاح تتر مسلسل رمضاني له قائلا: مبروك يا عم السيد التتر مكسر الدنيا، فرد عم سيد: مبروك دي تقولها لما يكسر الدنيا بعد 25 سنة. يا نزار.. مبروك!