لوحة "حريق روما" للفنان هيوبرت روبرت (1733-1808)

لماذا يحرق الديكتاتور المدينة؟

منشور الخميس 2 يونيو 2016

لم يدِّعِ هذا الديكتاتور التفوق أو الحكمة أو البصيرة، إنما قدم نفسه ممثلاً ومغنيًا وعازفًا بارعًا. لم يكن لديه جهاز منظم يقمع المعارضين أو المختلفين بشكل ممنهج، غير أنه لم يتردد في التورط في مؤامرات، وترتيب اغتيالات ومذابح للتخلص من كل صوت ينازعه السلطة أو يخالفه في الرأي.

لم تكن لديه أبواق إعلامية تهلل له؛ إلا أن أموال خزانة الدولة كانت تحت يديه، يشتري بها ذمم قادة الجيش ونواب مجلس الشيوخ، يجزل لهم منها العطاء ليمرروا جرائمه، بل ويلبسونها رداء الشرعية.

                    

الإمبراطور الروماني نيرون 

 لم يفرط نيرون بن ديميتيوس وأجريبينا والحفيد المباشر للامبراطور المؤسس أغسطس Augustus في السيادة الوطنية أو يساوم عليها، بل إنه اجتهد في التصدي للمحاولات الانفصالية. لكنه ارتمى في أحضان عشيقته، وترك بيدها مقدرات البلاد. لم يركن الطاغية لاستخدام حلو الكلام ليكسب ود شعبه، غير أنه بنزقه وحماقته؛ أحرق المدينة.

اختطف نيرون حكم الإمبراطورية الرومانية صبيًا، بعد اغتيال عمه وأبيه بالتبني الامبراطور كلاوديوس، بتدبير من زوجة الإمبراطور، والدة نيرون. ولكن سرعان ما تمكن جنون العظمة وهوس الانفراد بالرأي من الديكتاتور الصغير، فشرع في التخلص من أعوانه قبل أعدائه. وبدأ نيرون بالقضاء على والدته التي مهدت له الطريق وحاكت المؤامرات من أجل تمكينه من العرش. وكان قبلها قد قتل بريتانيكوس ابن عمه كلاوديوس، الوريث الشرعي لتاج الإمبراطورية الرومانية. كما لم يتردد نيرون في اتهام قائد جيشه بوروس ومعلمه الفيلسوف سينيكا بالتآمر، رغم أنهما الشخصان اللذان ربياه ودعما صعوده لسدة الحكم، ليُخرس بذلك أي صوت للعقل ينازع  تعطشه للانفراد بالسلطه.

تمثال لرأس الفيلسوف سينيكا الأصغر- معلم نيرون 

تصاعد الغضب الشعبي أمام فشل نيرون السياسي والإداري، وسادت الاضطرابات على اتساع الأراضي التابعة للإمبراطورية الرومانية، وتوالت القلاقل ومحاولات الانقلاب. وكان على الطاغية أن يجد مخرجا لإخفاقاته.

 ربما تصور نيرون أن الانتقام من الشعب هو الحل الأفضل للخروج من النفق المظلم الذي ولجه برجليه، فهدته عبقريته  لمبدأ إحراق الأرض. ربما لم يأبه الديكتاتور أصلاً بردود الأفعال الناقمة لرعاياه ولم يعرها اهتمامًا، وإنما أراد فقط تحقيق حلمه في بناء روما جديدة تتوافق مع هواه وتنتسب له، يمتلكها هو وبطانته وأعوانه من رجال السياسة والمال، فكانت المؤامرة الأخيرة.

في يوم 18 يوليو عام 64 م، اشتعلت النيران في روما لحوالي 6 أيام متوالية، تجولت خلالها ألسنة اللهب في أرجاء المدينة لتحصد الأرواح، وتحول المعالم والأحياء لركام ورماد. أغلب التحليلات تميل لاعتبار حريق روما مدبرًا وجنائيًا، وإن كانت مثل هذه الحوادث منتشرة في تلك الفترة الزمنية البعيدة.

 معظم الروايات تشير بأصابع الاتهام لنيرون الذي قيل في حكاية "غير مثبتة" أنه وقف يشاهد الحريق من شرفة قصره بينما يعزف قيثارته، لكن بعض الروايات الاخرى يتهم الأقلية المسيحية المضطهدة في ذلك الوقت بإشعال الحريق. لكن النظرية الأقرب للتصديق والمنطق هي أن القيصر المهووس كان وراء الحريق ليحقق حلمه بوضع تخطيط جديد لروما وبناء ال"دوموس أوريا" أو قصر "المنزل الذهبي".

           

بيتر أوستينوف (في المنتصف) في دور نيرون في فيلم كوفاديس- ١٩٥١

ولكي تكتمل الجريمة، كان لابد من إيجاد كبش فداء يتحمل الذنب والمسؤولية أمام الرأي العام الثائر، فاختار نيرون الأقليات المسيحية ليلصق بها تهمة حرق المدينة، ويبرر ارتكاب المزيد من الاضطهاد والتعذيب في حقهم.

 توالت الأيام ولم يبتلع الوعي الشعبي ركاكة تلك الرواية وشطط تلك الممارسات. سادت الفوضى وتكررت حالات التمرد، خاصة عندما بالغ  نيرون في فرض الضرائب على المواطنين لإعادة بناء المدينة المنكوبة. وتأجج الغضب من جديد، بعد حين، وصارت الثورة تقترب أكثر فأكثر من أبواب بلاط القيصر الروماني، بعد أن أعلن مجلس الشيوخ نيرون عدوًا للشعب، فانتحر الديكتاتور بكامل إرادته حتى لا تطوله أيدي الجموع الغاضبة، لينتهي بذلك حكم سلالة يوليوس كلاوديوس في عام 68 م.

لم يكن سجل نيرون كله أسودًا، فقد اهتم بالثقافة ودعم المهرجانات الفنية وسعى في بداية حكمه لتخفيف الضرائب عن الطبقات الفقيرة حتى يعزز شعبيته.. لكنه انتهى إلى إحراق المدينة..

رحل نيرون وترك ورائه علامات استفهام كثيرة. ما الذي دفعه لحرق روما؟

 احتمالات كثيرة قد تدفع الطغاة لإشعال المدائن. ربما يحرق الديكتاتور المدينة تجبرًا وصلفًا وغرورًا، ومن الجائز أن يحرقها هوسًا وجنونًا، وقد يحرقها حقدًا وانتقامًا. وربما يحرقها ترهيبًا للمواطنين أو تآمرًا على المعارضين، أو تلفيقًا للمناوئين. وقد يحرقها تنكيلاً بالأقليات أو تأديبًا للمناهضين للظلم والمطالبين بالعدالة والحريات.

وارد أيضا أن يحرقها طمعًا في مكاسب أو ثروات وقد يحرقها تسترًا على جريمة أو طمسًا لمعالم حقبة سابقة.. وقد وقد وقد.. ألف احتمال وفرض. لكن أيًا كانت دوافع الديكتاتور، أي ديكتاتور، لحرق مدينة ما؛ فإن هذا الفعل يعكس نفسًا مضطربة، تمقت الحوار وترتعش من المواجهات، فتسعى للسيطرة على الرعية، إن لم يكن باستعراض القوة؛ فبنشر الهلع والفزع والفساد والدمار. لكن وإن أحرق المستبدون ألف حي ومدينة، فكل مدينة بنيران الغضب تتطهر، تنصهر تحت لهب الظلم والفساد والاستبداد، ومن الرماد تبعث من جديد. فالثابت عبر التاريخ، أن الطغاة، حارقي الربوع والأوطان يزولون، وتبقى المدن تعمرها الشعوب.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.