تصميم: المنصة

دورات طرد "المواطنين" من مصر

منشور الخميس 25 أبريل 2024

طالما تحدث كثيرون بأسى عن نزيف العقول وهجرة الكفاءات من مصر طوال القرن العشرين وحتى الآن، عن الشعور بالحسرة لنبوغ البعض في الخارج مع التسليم التام باستحالة تحقيقهم النجاح ذاته لو أنهم أكملوا حياتهم المهنية في مصر.

تجري مقاربة هذا الأمر من زاوية فنية محضة، ترى أنَّ الأزمة تتلخص في غياب إطار مؤسسي متقدم وبنية قانونية فعالة، تضمن تكافؤ الفرص وعدالتها على نحو يضع الأفضل والأمهر في الصفوف المتقدمة.

والحقيقة أنَّ المسألة ليست فنية على هذا النحو، إنما اجتماعية سياسية بالأساس، لأنَّ دورات الحراك الاجتماعي في مصر، كبلد عالم ثالث متخلف، تتسم داخل طبقاته الوسطى بالذات، بالسرعة والقصر. وعليه فهناك فجوة طبقية ومعرفية كبيرة جدًا بين الجيل الأول في مسيرة عائلة ما والجيل الثالث من أبنائها، فالجد الذي كان يرضى ويقنع بوظيفة حكومية كتابية متواضعة، سيسعى لأن يصبح أبناؤه مهنيين محترفين ويحصلون على مستوى أعلى من التعليم والمهارة والمكانة.

هؤلاء الأبناء الذين سيتمكنون من إنجاز هذه المهمة لن يسعوا لتوريث أبنائهم نفس المكانة، بل إلى تصعيدهم اجتماعيًا إلى مراكز السلطة والثروة، إما عبر الحصول على مستوى أفضل من التعليم، أو بتمكينهم من الالتحاق بالمؤسسات التي توفر للإنسان أسباب القوة والسلطة.

ولأنَّ دائرة السلطة والنفوذ في مصر ضيقة بالتعريف، وعملية اتخاذ القرار لا تشارك فيها حتى الطبقات الوسطى، يصبح هذا الجيل من المترقّين اجتماعيًا أمام سؤال الاستمرار في مصر من عدمه، بصرف النظر عن المستوى الاجتماعي الذي وصلوا إليه، لأننا نجد أبناء طبقات راقية يغادرون البلد ويرتضون لأنفسهم مواقع اجتماعية أقل في بلدان أوربية وغربية، عوضًا عن الاستمرار في مواقع أكثر تميزًا في مصر.

المواطنون في مصر أقلية. أغلب السكّان رعايا في أفضل الأحوال، هذا إن وجدوا مَن يرعاهم

الأمر يتعلق بمدى قدرة البرجوازية والطبقات الوسطى على صياغة مشروع قابل للاستمرار والحياة تحت قيادتهم وهيمنتهم، وفي الوقت نفسه قادر على إدارة الصراع الاجتماعي في ظل وجود طبقات اجتماعية أدنى، تشكل الغالبية العظمى من السكان.

لا يتحقق ذلك إلا بالاستقلال الوطني، ووجود إرادة سياسية لصياغة عقد اجتماعي قابل للحياة يشمل القطاعات الأوسع من المجتمع. وفي غياب هذين الشرطين، ستصبح هجرة البرجوازيات والطبقات الوسطى أمرًا حتميًا مهما امتلكت من قدرات ومُقدَّرات، ومهما التصق بعض أفرادها بدوائر السلطة والنفوذ البيروقراطي المباشر، الذي يضمن لها الحماية بالأمن والسلاح.

نبهني صديق فلسطيني عزيز، أنه لا أثر الآن للبرجوازية الفلسطينية التي كانت موجودة في عالم ما قبل 1948، فهؤلاء عجزوا عن تأسيس مشروع لدولة وطنية وجاء الاستيطان الصهيوني ليجعل الأمر مستحيلًا. فقدَ هؤلاء القدرة على إنفاذ إرادتهم على الشعب باسم الوطن، وبعضهم أصبحوا لبنانيين ومصريين، وكثيرون منهم صاروا أردنيين، ونسبة معتبرة هاجرت إلى الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، ستجد آثارهم حين تجد عارضة أزياء أمريكية بيضاء مناصرة بعنف وحماسة للحق الفلسطيني، تُعرِّف نفسها بأنها فلسطينية، مثل بيلا حديد.

الأطباء المصريون نموذجًا 

يتحدث محمد أبو الغار في مذكراته "كتاب على هامش الرحلة" عن كيف غادرت الغالبية العظمى من أبناء دفعته في كلية طب قصر العيني مصر بعد هزيمة 1967، وأنه كان من بين قلة نادرة سافرت خارج البلاد لفترة ثم عادت مرة أخرى. وكيف توزع زملاؤه في ظرف سنتين أو ثلاثة على بلدان العالم المتقدم المتحدث بالإنجليزية، المتفوقين منهم بين بريطانيا والولايات المتحدة، والأقل تفوقًا بين كندا وأستراليا.

لم تكن المسألة مسألة دخل أو رزق في هذه المرحلة التاريخية، بل يأسًا ناتجًا عن انعدام القدرة على رؤية مستقبل البلد والمشاركة في تحديد مصيره كأفراد ذوي مكانة وحيثية. هؤلاء الأطباء لم يتحملوا التبعات المترتبة لارتهان مصيرهم بقرارات رائد قوات مسلحة تحول بضربة انقلابية إلى رئيس، كان بإمكانهم تحمّل الهزيمة أمام العدو، لكنهم لم يتحملوا المذلة تحت وطأة الطغيان.

وفي الأعوام التي تلت عام 2013، شُنَّت حملة إعلامية على الأطباء في مصر انتهت في الأخير إلى هجرة عشرات الآلاف منهم إلى أوروبا وإفريقيا وبلدان الخليج تحت وطأة سوء الأحوال المعيشية، ولكن الأهم كان شعورهم بافتقاد مكانتهم الاجتماعية اللائقة واحترامهم، اللذين طالما تمتعوا بهما في ظل الدولة المصرية الحديثة، بعد أن أصبح الشعار السائد إعلاميًا يشبه مقولة "دكتور على نفسك يا حيوان"، التي صكَّها مأمور السجن رياض المنفلوطي/محمد سعد في فيلم اللي بالي بالك. 


الديمقراطية لو كانت تعنى معجميًا حكم الشعب، فهي ليست كذلك في أكثر أطوارها تطورًا، ولا حتى في أرسخ الديمقراطيات، لأنَّ الديمقراطية الليبرالية تعنى أفقًا وممارسة لإنفاذ إرادة وهيمنة البرجوازيات على باقي السكان. أحيانًا في ظل حالة من التوافق والتعددية الهادئة، وفي أحيان أخرى في ظل صراع تنافسي بعض مظاهره تتميز بالشراسة، وفي ظروف ثالثة بالقسر والإجبار، تحت دعاوى حالة الاستثناء التي قد تمتد لفترات ليست قصيرة.

المسألة ليست صفرًا كاملًا أو واحدًا صحيحًا، فهناك مساحة شديدة التنوع بين تلك الديمقراطية الليبرالية البرجوازية المتحققة والممتدة في استقرارها كما الولايات المتحدة وبريطانيا، والديمقراطيات المقيدة التي يمكن لها أن تتحول إلى سلطويات وديكتاتوريات في شهور قليلة.

المواطنون كأقلية

الديمقراطية البرجوازية تعني في الممارسة شديدة العملية اتساع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار داخل دوائر الطبقات المهيمنة نفسها على نحو سلمي ومتناغم وعقلاني، ومعها بالتبعية اتساع دائرة المشورة والتوافق مع الطبقات الأقل هيمنة والتالية لها مباشرة في الهرم الاجتماعي، وهو الإطار الذي يُطلق عليه فنيًا ومن باب المراوغة "دولة المؤسسات".

وعليه، فإننا حين نُعين ماهية المواطنين المصريين، يمكننا الإشارة إلى هؤلاء الذين لديهم إمكانية حيازة شرف المواطنة الحصرية، لأنَّ المواطنين في مصر أقلية بالتعريف، فيما أغلب المصريين رعايا في أفضل الأحوال هذا إن وجدوا من يحنو عليهم ويرعاهم. لذا فأن فئة المصريين الذين يمكن وصفهم بالمواطنين، التي تجمع بالأساس الأفندية والبكوات، هي فئة أقلوية وفقًا لقواعد المكانة واللياقة والاحترام.

الأصل في مصر أنك لست محترمًا، يستوقفك ضابط الشرطة ليحدثك بقسوة وخشونة، وبعد جمل معدودة يفرزك طبقيًا، فإذا كنت من فئة "المواطنين" سيغير لهجته معك ويقول لك "واضح إنك إنسان محترم وابن ناس" حيث إنَّ الأصل في الإنسان أنه ليس محترمًا أو ابنًا لناس.

غير المحترمين هؤلاء، ليس مجازًا أنهم في أوضاع تشبه العبودية في المآل الأخير، لأنه حين يدفع الإنسان ما يقارب المائتي ألف جنيه نظير خوض مغامرة موت في البحر من أجل العبور إلى الجانب الآخر من البحر المتوسط، فهذا ليس مواطنًا يبحث عن رزق أفضل، بل عبدًا يدفع مئات آلاف الجنيهات لعتق رقبته، أو بمعنى أصح، يخاطر بحياته في سبيل احتمال عتق رقبته.

في أدبيات القرون الوسطى، تحدثت بعض الحكايات عن قصص حب مستحيلة بين جوارٍ وخصيان كانوا في خدمتهم ورعايتهم في الحريم، جوارٍ وخصيان هربوا معًا فقط من أجل الحرية وأحبوا بعضهم من أجل الحرية، والحرية فقط هي ما جعلت عشقهم المستحيل أمرًا ممكنًا.

الأمر ليس فقط عن الفقر والطبقة، بل أيضًا عن الكرامة والحرية والإمكانية، عن الاحترام وإمكانياته، عن الديمقراطية بمعناها الأصلي، وهو حكم الشعب، بشكل مباشر.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.