أسماء وبهية في الطريق لزيارة مالك

لحاف يحاول اللحاق بطائرة طرة (فيديو)

منشور السبت 9 يوليو 2016

على سير فحص الحقائب، وضعت أحمالاً ظلت تدور لشراء بعضها وسهرت تعد بعضها الآخر طوال الليلة الفائتة، وبعناية زائدة وضعت لحافًا سميكًا على السير، بينما تتابع عيناها بقلق نظرات الحرس، وتقبض بترقب على يد ابنتها ذات العامين، وتدعو الله في سرها أن تنجح في كسب "الخناقة" القادمة إذا امتدت أيديهم لرفع اللحاف.

هذه محاولة جديدة من بين محاولات يصعب إحصاءها حاولت فيها الباحثة أسماء علي، خلال الشهرين الماضيين؛ تخفيف ظروف الحبس الاحتياطي على زوجها المحامي الحقوقي مالك عدلي، الذي ألقي القبض عليه مساء الخامس من مايو/ أيار الماضي، وأودعته النيابة سجن طره على أطراف القاهرة، بعدما وجهت له ستة اتهامات من بينها "محاولة قلب نظام وتغيير دستور الدولة ونظامها الجمهوري وشكل الحكومة". وأتي القبض عليه بعد أيام من تقدمه بمذكرة دعوى لمجلس الدولة يطالب فيها بإبطال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، المعروفة إعلاميًا باتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، لمخالفتها للمادة 151 من الدستور.

لم يخيب الحرس ظن أسماء فيهم، وامتدت أيديهم لرفع الغطاء السميك، الذي أملت أسماء في أن يخفف من خشونة أرض الزنزانة التي يضطر مالك للمبيت فوقها كل ليلة، وهم يخبرونها بآلية أنهم سيفحصون الموقف وينتظرون الأوامر. أمسكت أسماء بيد ابنتها بهية ذات العامين ومضت أملا في أن تفلح محاولتها هذه المرة..

ليل الترقب

 

صور الأسرةعلى الجدار.. ولبهية نصيب الأسد

 قبل ساعات من انتزاع أيدي الحراس اللحاف، كان وجه أسماء المُرهق يحمل ابتسامة متفائلة، بينما تستعد لرؤيا زوجها الذي كان قد تجاوز- وقتها- خمسين يومًا قيد الحبس الاحتياطي.

استقبلتنا أسماء بتلك الابتسامة بعد دقائق من انتصاف الليلة السابقة للزيارة، بينما تفتح لنا باب شقتها متوسطة الاتساع، الكائنة بالطابق الأخير فوق إحدى عمارات وسط القاهرة. وبينما نخطو للداخل نبهتنا للتخفيف من وقع خطواتنا خشية إيقاظ ابنتها بهية، التي قضت معها يومًا كاملاً من التنزه واللعب، حتى تشتت انتباهها بعيدًا عن السؤال المتكرر عن الأب الغائب.

"طول الوقت بتسأل عن مالك، بهية أصغر من إنها تستوعب اللي بيحصل، ومعنديش ردود ليها على أسئلتها ففهمتها إنه مسافر في الطيارة عشان الشغل وإننا بنروحله الشغل نشوفه في وقت الزيارة".

لم تمض دقائق على حديثنا مع أسماء عن تحضيرات الزيارة؛ حتى فاجأتنا الصغيرة بخطوها الخفيف إلى حيث نجلس، معلنة فشل محاولات أمها في دفعها للنوم استعدادًا لزيارة الغد. لكن بعد ربع ساعة من المفاوضات والإستماع إلى "حدوتة مالك الولد اللطيف المسافر وبيجيب لبهية حاجات حلوة"، استسلمت الصغيرة على أمل رؤية والدها في الصباح.

نامت الطفلة دون الأم التي تنهض في تمام الثانية إلا ربع بعد منتصف الليل، لتبدأ تحركاتها في الشقة الصغيرة التي تتناثر في أركانها ذكريات الأسرة، منها أفيشات مصغرة لأفلام عربية وإيطالية، وأقنعة اشتروها خلال زيارة لإيطاليا، وصور فوتوغرافية كثيرة، منها ما يحفظ ملامح زوجين سعيدين، وتلك التي يحتضنان ويلعبان فيها مع "بهية"، التي تحظى بنصيب الأسد ليس من الصور فقط؛ بل ومن مساحة المنزل الذي نشرت ألعابها فيه إلى خارج حجرتها.

من حجرة الاستقبال المؤثثة على الطراز العربي، تدلف أسماء عبر ممر قصير تتناثر على جانبيه صور أفراد الأسرة، وتصل إلى غرفة نومها للبدء في تحضير الحقيبة الرئيسية، بادئة برصّ الملابس: "مالك مابيعرفش يلبس غير قطن، وأطقم السجن فيها بوليستر بيسبب له حساسية". تقضي أسماء الأيام السابقة للزيارة في التجوال بين محال الملابس بحثًا عن ملابس قطنية تناسب صحة زوجها، وتتوافق مع قواعد لائحة السجون: "عادة بلاقي صعوبة لأنها لازم تكون أبيض في أبيض؛ الناس (باعة الملابس) حفظوني وحفظوا طلباتي من كتر ما بطلبها".

 

تضع الزوجة باقي المستلزمات في الحقيبة بينما تراجعها بصوت هامس

تضع الزوجة باقي المستلزمات في الحقيبة بينما تراجعها بصوت هامس: "ملاية، فوطة، أكياس مخدة.. مفيش مخدة! بس علشان يفردها وينام عليها لو عايز". وتواصل: "حجارة علشان فيه عنده راديو، هاحطله كراسة عادية خالص".

يعلو صوتها قليلاً، وتفسر: "عادة مابيرضوش يدخّلوا كراسة، حاولت أدخّل قبل كده كشكول سلك ومارضيوش". ويأتي دور الأدوية "كاتافاست، فولتارين، غسول، مناديل.. طلب مسكنات (تقصد مالك) علشان الضغط وآلام الأسنان، وطلب رُكبة علشان رجله وجعته من القعدة".

قائمة الأدوية السابقة لها دواعي متعلقة باحتجاز مالك في زنزانة انفرادية ليس فيها سوى بطانيتين، ومحظور خروجه منها ولو للتريض: "مالك مابيخرجش من الزنزانة غير على الزيارة أو جلسة التجديد؛ فبقى عنده مشاكل في رجليه، وحبوب غريبة في وشه ليها علاقة بإنه ما بيشوفش الشمس، وضهره واجعه جدًا من النوم على الأرض. لحدّ النهاردة مالك بينام على الأرض".

تفكر أسماء في اللحاف الذي اشترته الأسرة للتحايل على غياب فراش معقول عن زنزانة مالك الضيقة، تقول: "حسب لايحة (لائحة) السجون؛ كل مسجون له سرير. إحنا بنناضل لغاية دلوقتي في إن يدخلوله سرير، أو نجيب سرير على حسابنا. اللايحة بتقول إن من حق المسجون إنه يشتري سرير. وكل الكلام اللي بيترد علينا بيه إن (دي تعليمات ولما تجيلنا هندخل له سرير). فأنا قررت المرة دي إني هاخد معايا لحاف فايبر يطبقه وينام عليه ومخدة، ومتخيلة إن دي خناقة الزيارة دي".

حياة في خطر

 

كل زيارة لمالك لابد أن تخوض فيها أسماء مشاجرة ما: "التعامل مع مالك مالهوش علاقة بالمنطقي أو بالقانوني أو باللايحة". تخوض أسماء شجاراتها الدورية بحساب حتى لا يتأذى مالك، أو ترى الصغيرة أمها في موقف مُوِتّر: "حتى الكتب بتدخل بخناقة كل مرة، وأول 25 يوم مثلاً كانوا رافضين تماما إننا ندخلّ له أي كتب، ورافضين تمامًا يدخل له جرايد، فكل مرة باخد كتب واتخانق عليها، وعادة مابيرضوش يدخلوا أكتر من أربع كتب في المرة، ده لو دخّلوا يعني".

ترفض إدارة السجن - وفقًا لرواية أسماء- إدخال أية كتب عليها إهداءات، سواء من المؤلف لمالك أو من أصدقائه، وذلك دون سبب واضح لها. كما يرفضون كتبًا يصعب أن تكون من بين المحاذير، تتذكر ضاحكة: "أحمد أخوه مرة أخد له كتاب البحث عن الذات (من تأليف الرئيس الراحل أنور السادات)، ورفضوا يدخّلوه".

مؤلفات السادات ليست من مفضلات مالك الذي يستعين بروايات ميلان كونديرا ويوسا، على وحدة الزنزانة الانفرادية التي يقضي فيها وقتًا هو " الأطول لأحد شباب الثورة دون تريض" حسب تقدير زوجته؛ ما يثير تساؤلاتها الاستنكارية الغاضبة: "الانفرادي ده المفروض تأديب وعقوبة على مخالفة لوائح السجن، إنما مالك من أول يوم حبس في التأديب!".

ويهون التضييق في كتاب أو جريدة أو راديو، أمام أمور ترى فيها أسماء خطرًا على حياة زوجها: "مالك مريض ضغط وبياخد دوا معين. وفي أول زيارة منعوا كل الأدوية إنها تدخل، ولما ضغطه يعلى يودوه مستشفى السجن، وهناك كتبوله دوا ضغط غير بتاعه، فمابيجيبش نتيجه قوي؛ فبدأوا يزودوا الجرعات وبقى عند مالك مشكلة في ضربات القلب، دي من ضمن الحاجات المخيفة جدًا، ومالك ضغطه بيعلى جدًا مع الجو الحر ده وهو قاعد في زنزانة بالمواصفات دي، ده ممكن يعمله مشاكل [صحية] يعني".

تستغرق أسماء برهة في الصمت والتفكير، ثم تقول: "ده محاولة منهم لكسر مالك، لأنه بقى بالنسبة لهم شخص مزعج، لأنه محامي ودايما بيتكلم بالوثائق، تحديدا في موضوع تيران وصنافير".

وفقًا لدراسة أعدتها الجمعية النفسية الأمريكية فإن الحبس الإنفرادي هو عقوبة تطبق بقرار من إدارات السجون في حالتين أولاهما قيام المسجون بتهديد حياة وسلامة زملائه المحبوسين، أو قيامه بارتكاب جريمة في حقهم. وهو ما لم يتحقق في حالة مالك عدلي الذي يقضي مدة حبسه الاحتياطي قيد الحبس الانفرادي منذ وصوله إلى سجن المزرعة.

 وبحسب الدراسة نفسها؛ فإن الحبس الاحتياطي يتسبب في إصابة السجناء بعدة اضطرابات نفسية وعقلية منها: القلق والذعر والأرق والاكتئاب، بسبب حرمانهم من التواصل الإنساني الطبيعي. ولكل من هذه الاضطرابات بالإضافة للحرمان من الشمس والحركة تأثيرات صحية خطرة، تبدأ باضطرابات في القلب والتنفس والنوم وضغط الدم، وتصل إلى التأثير على العضلات والأعصاب والقدرة على الحركة. ويزداد الخطر كلما طالت مدة الحبس الانفرادي.

بعد انتهائها من تحضير الحقائب الحاوية للملابس والطعام الذي قضت اليوم السابق للزيارة في طهيه وتجميده، خلدت أسماء لنوم قصير لم يزد عن ثلاث ساعات، قبل تستيقظ في تمام السادسة والنصف صباحًا، لتهيئ بهية، ثم تتأبط أحمالها العديدة في الطريق إلى طرة.

تستيقظ بهية (بيبو) في السابعة والنصف لتتفقد فستانها الجديد، وتختار لون طلاء الأظافر وتجلس لتتابع أغانيها المفضلة على شاشة التلفزيون، بينما تصفف لها أسماء شعرها الذي ستتركه منطلقًا بلا توكة (حلية شعر). تقول الأم: "لازم تلبس فستان جديد وتحط مانيكير (طلاء أظافر) عشان تورِّيه لباباها في الزيارة".  

 

تجلس لتتابع أغانيها المفضلة، بينما تصفف لها أسماء شعرها الذي ستتركه منطلقًا بلا توكة

تعلن أسماء بلا مواربة تخوفها من أن يطول حبس زوجها خشية أثر ذلك على ابنتها: "مش عارفة هفضل قادرة أمشي الدنيا من غيره لحد أي وقت". تفكر أسماء في الزوج والابنة دون نفسها: "ماعنديش وقت لنفسي وأنا قاصدة ده، مش عايزة افتكر إن أنا فعلا رايحة أزور مالك. عارفة فكرة الآلة؟" تسألني ولا تنتظر جوابًا: "بحاول أعمل إجراءات، أنا عندي مهام بعملها، مش عايزة أركز، لأني ماعنديش رفاهية إني أركز فاتضايق فاكتئب فمش هعرف أخد بالي من بهية، ماعنديش رفاهية إني أعبر عن مشاعري العادية.. العياط (البكاء) بالنسبة لي رفاهية، لأن ده قدام بهية ماينفعش".

يعاود أسماء الصمت ثم تقول "شئ عبثي! بيسرقوا عمرنا فعلاً لسبب مش مفهوم، يعني 15 في 15 (مدد التجديد) دول بالنسبة لهم جرة قلم، لكن بالنسبة للناس حياة. فكرة استسهال الأيام اللي بتعدي على الناس وعمرنا اللي بيضيع بلا مبرر في السجون والمحاكم والأقسام، مفيش أي سبب منطقي خالص للي بيحصل ده، إحنا بنتحاكم علشان بنحلم بوطن حر!".

 

اثنتان على الطريق

 

في حوالي الثامنة صباحًا كانت بهية وأمها على بُعد خطوات من باب الشقة استعدادًا للانطلاق في رحلة الزيارة.

تتحسب أسماء لـ"تكديرات" الزيارات، ومنها الوجود الثقيل لـ"رقيب ميري" يفسد حضوره على الأسرة حميمية الدقائق الستين: "كل مرة في أول الزيارات خالص، كان بيبقى فيه جنبي أمين شرطة معاه ورقة وقلم بيكتب كل حاجة، لدرجة إن لما مالك يتكلم بسرعة يقول له يا أستاذ مالك أنا مش لاحق اكتب، ولو قرر يوشوشني يقول له لأ أنا مش سامع لو سمحت علّي صوتك".

تنقل أسماء عن الشرطي مُبرره بأن ما يفعله "أوامر" تُملى عليه، وتحكي كيف تمكنت بشد وجذب من التملص في بعض المرّات من وجوده، وإن شابت الزيارات مضايقات أخرى: "في زيارة تانية كانوا عايزين يدخلونا أوضة (غرفة) صغيرة أنا وإخواته الاتنين وبهية، وشخصين من السجن، قلتلهم أنا عندي ساعة أسبوعيا... أنا عايزة أقعد في مكان الزيارة زي الحرامية وقتّالين القتلى والمجرمين اللي في السجن، مع إن مالك مش مجرم".

تتكئ أسماء في تجربتها الصعبة على تجربة أخرى قديمة أكسبتها خبرة التعامل بعناد مع الزنازين: "أنا اتحبست في 2006 شهر في قضية ليها علاقة باستقلال القضاء، وكنت في سجن القناطر. فعندي خبرة ما [عن] الحاجات اللي بتبقى مطلوبة، وإيه اللي ينفع يدخل وإيه لأ". 

الباحثة ذات التاريخ الطويل كزوجها في معارضة الرئيس الأسبق حسني مبارك ثم جماعة الإخوان المسلمين، تستمد السند من "دوائر الدعم" المحيطة بها: "حوالينا كتير جدا مش بس أصدقاءنا، كمية الناس اللي حاولوا يتواصلوا معايا بعد ما مالك اتقبض عليه خرافية، الناس اللي مالك اشتغل معاهم في قضايا؛ أهالي المعتقلين وأهالي الشهداء".

دعم تلك الدوائر مُكثف بصورة لم تتوقعها أسماء: "دايما كنت بالوم على مالك إنه مابيقضيش وقت كفاية معايا أنا وبهية ودايما مشغول، لكن عرفت بعد ما اتحبس وفهمت هو كان بيعمل إيه بالظبط، كمية الدعم والدفا والناس الكتير جدا اللي عرضوا مساعدات وبيدعوله تطمن إننا مش لوحدنا".

داخل أسوار السجن

 

 

كانت عقارب الساعة تدنو من التاسعة صباحًا، حينما ابتلعتنا بوابة تشبه ثقب واسع

تركت أسماء اللحاف على البوابة، بعدما تبادلت كلمات غاضبة مع مسؤولي الأمن اللذين قرروا حجزه دونًا عن باقي الحقائب، مؤكدين لها أن أمرًا من مأمور السجن وحده؛ هو ما سيمكنها من إدخال اللحاف لزوجها. حملت أسماء باقي الحقائب والتقطت يد بهية وهي تردد في سرها أمنيتيها الوحيدتين لليوم؛ أن تمضي الزيارة بلا منغصات، وأن يعزل اللحاف جسد مالك عن خشونة أرض الزنزانة هذه الليلة.

كانت عقارب الساعة تدنو من التاسعة صباحًا، حينما ابتلعتنا بوابة تشبه ثقب واسع في السور الضخم المُطوّق لليمان طره، وكان من مزايا شهر رمضان عدم تكدس الطوابير أمامه في هذه الزيارة.

بعد الدخول أتت مرحلة التفتيش الذاتي، الذي لا يُفرّق في الفحص الدقيق لأجزاء الجسد بيد الحارسة - الشخص المبتسم الوحيد في ذلك المكان- بين رأس أو أطراف أو حتى أكثر أجزاء الجسد حميمية وإثارة للخجل. وكان مطلوبًا منا ضبط النفس أمام هذا "التفتيش" لثوان بدت كأنها سنين، حتى نتخطى عقبة أخرى بيننا وبين المحامي والأب المحتجز.

سلمنا منفذ الأمن إلى قاعة انتظار واسعة تحتوي على كافيتريا ودورتي مياه، انتظرنا فيها وسيلة النقل التي ستأخذنا إلى سجن المزرعة حيث يحتجز مالك.

وسيلة المواصلات تشبه قطار الملاهي، أو عربة النقل الموجودة بمدن الاصطياف الشعبية. يسميها المجندون "طفطف"، وهي عربتان مطليتان باللونين الأخضر والأصفر، لكنهما جردتا مثل كل شئ في هذا المكان من البهجة واصطبغتا بقسوة السجن .

سور داخل سور..

دقائق معدودة مر بها الطفطف بشوارع على عديدة، ثم توقف في ساحة انتظار مفتوحة يرى الواقف فيها لافتة باسم السجن "المزرعة"، حيث تصطف الأسر بين صمت ونقاشات متقطعة، وأعقبتها دقائق أخرى بعد تسليم بطاقات شخصية تُثبت قرابة الدرجة الأولى لمالك، ثم اختفت الأسرة ولمدة ساعة خلف سور ثانٍ داخل السور الأول.

في الوقت الذي بدأت فيه زيارة مالك، كان أسر أخرى في ساحة الانتظار الممتدة على طول سور ملحقي المزرعة والزراعة في سجن طره. بعضهم قرر اصطحاب الأطفال للسجن رغم حرارة الجو. ويمكن من لهجة أغلبهم تخمين المسافات البعيدة التي قطعوها من محافظات مختلفة لأجل الزيارة، يزجون وقت الانتظار في الحديث عن تفاصيل عائلية في محاولة للتشاغل عن نظرات الحراس المسلحين.

نهاية مغامرة "اللحاف"

غابت أسماء ومعها بهية حوالي ساعة داخل السور الثاني للقاء مالك. تشتد الحرارة قرب الظهيرة، وتخرج أسماء صامتة متجهمة، لكنها تنتزع ابتسامة زائفة لأجل عيني بهية اللتان تتطلعان لوجهها، وهي تتبادل مع الصغيرة كلمات عن مالك الذي رأياه "في الطيارة". ثم عاودها الغضب الممزوج باليأس وهي تمد يدًا لتتسلم "اللحاف" من  أمانات البوابة الرئيسية بعد خسارة معركة إدخالهما لزوجها. وفي الطريق للمنزل ودون كلمات تحتضن الطفلة التي يغالبها النُّعاس من إرهاق اللعب حد اتساخ فستانها وجسدها. تمسح أسماء على رأس بهية النائمة وتعود برأسها إلى الوراء بينما تفكر في طريقة جديدة لتكرار مغامرتها باللحاف أو سواه عسى أن تتمكن "ذات تجديد" من منح مالك نومًا أقل خشونة في زنزانته الموحشة.