غزة: منظر عامّ في ساعات طلوع الفجر

مَن يحمي سماء إسرائيل من صواريخ العرب؟ ثلاث طبقات دفاعية وصراع سني شيعي

منشور الجمعة 8 يوليو 2016

في 12 يوليو/تموز ، قبل عامين وأربعة أيام أطلقت غزّة تحذيرها إلى تل أبيب: "التاسعة مساء".

طائرات الإف ستة عشر والأباتشي، وطائرات الاستطلاع حلّقت فوق قطاع غزة. كاميرات الأقمار الصناعية وجّهت عدساتها المكبرة إلى الحطام الكبير. مجلس الوزراء يجتمع ويطمئن. مذيع رديء إسمه تسفي يحزقيلي، يبالغ في لفظ الحروف الحلقية على التلفاز، ليثبت أنه يفهم العرب، يبالغ في رسم ابتسامة مستفزة ومزيفة بطرف شفته.. الخليل كلّها وقفت على التلال وهي تنظر إلى الجنوب الشرقي. حبست تل أبيب أنفاسها.

كنت في الطريق من الطيبة إلى حيفا.. الشوارع خالية تماما في الاتجاهين. الراديو يبثّ موسيقى. أبحث عن محطة لعينة واحدة تتحدث عما يجري، من دون أن تحلل. عد تنازلي في تل أبيب، وجحيم في القطاع.

وفي نقطة ما، من شمال القطاع؛ كانت الطائرات من دون طيار تحلّق فوق بقعة ما وتقصف بكثافة. وتحيل الحطام إلى حطام. والتلفاز يبث الصور والتحليلات، غزة صارت هامدة!

التاسعة تمامًا: رشقات صاروخية نحو تل أبيب، بات يام، بيت شيمش، وموديعين(1). والجعبري يحلّق في السماء (2).  

مسألتان شغلتا القيادة الأمنية الإسرائيلية في أول أيام الفِطْر؛ الأولى: إعلان سلاح الجو الإسرائيلي نجاح مناورات حاسوبية شملت سيناريو قصف إسرائيل برشقات صاروخية بلغت 1500 صاروخا في اليوم(3). والمسألة الثانية: تقرير رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية للحكومة حول استعدادات "الجبهة الداخلية" للحرب.  

يمكن ربط المجالين ببعضيهما بمثال القشرة الصلبة والنواة المائعة. هذا مجاز يتبادل جنرالات تل أبيب إطلاقه على إسرائيل أو غزة بحسب مقتضيات الموقف. لكن الثابت هو أن الجهد الإسرائيلي انصبّ دوما على خلق قشرة صلبة وثخينة تُمكِّن اليهود، داخل المجال الحيوي الذي تخلقه، من ممارسة حياتهم محميين بسور العسكرية. 

ورغم أن الصواريخ والمقذوفات ليست جديدة على تاريخ الحروب، إلا أن النقلة النوعية في رؤية كل من إسرائيل والمقاومة؛ قد حدثت إبان حرب الـ2006، وتسارعت أثار هذا التدهور في الأمان داخل الجيتو(4) إلى الحد الذي دفع بنتنياهو إلى التوجه إلى الكونجرس، مطالبا الولايات المتحدة بمساعدات عاجلة لتطوير منظومات دفاعية صاروخية، زيادة على المساعدات العسكرية الأميركية في أعقاب الحرب مباشرة، وبالطبع موّلت أميركا حتّى 80% من برامج الدفاع الصاروخي الإسرائيلي في أعقاب هذا الطلب. 

أثبتت صواريخ المقاومة اللبنانية، ومن ثم صواريخ المقاومة الفلسطينية، أنّه مهما بلغت صلابة القشرة الحامية لإسرائيل، فإنه بالإمكان إختراقها وضرب إسرائيل في المواضع المؤلمة داخل الجيتو الرخو، بما يتسبب في زعزعة الروح المعنوية، وفي خسائر تقدر بعشرات ملايين الدولارات في كل يوم من أيام المواجهة، هذا إلى جانب الخسائر البشريّة بالطبع، إضافة لما تخسره إسرائيل في المواجهة على الجبهة ذاتها.

طوّرت إسرائيل منظومة دفاع صاروخي مُشَكّلة من ثلاث منظومات صاروخية دفاعية عُمِل عليها بجدّ. وتمّ بالأمس "إنجاز" إغلاق سماء فلسطين بأكملها،  بادّعاء الجيش على الأقل، في وجه الصواريخ ذات الآماد المختلفة.

 

الطبقة الأولى من هذا الغلاف إسمها "حيتس" [سهم، بالعبرية]، وهي مخصصة لاعتراض الصواريخ البالستية العابرة للقارّات. ويقال بأن التجارب التي أنجزت في 2009 قد أثبتت فعالية هذه الصواريخ في الاعتراض.

لكن حقيقة كون سعر كل صاروخ 3 مليون دولار، وبأنه يجري، لدى كل عملية اعتراض إطلاق صاروخين اثنين من منظومة "حيتس" على الأقل، مقابل مخزون الصواريخ بعيدة المدى التي تراكمت لدى المقاومة اللبنانية منذ حرب 2006؛ تحيل عملية إطلاق صاروخ واحد بعيد المدى إلى سؤال التكلفة.

الطبقة الدفاعية الثانية هي "مقلاع داوود" أو "العصا السحرية" المخصصة لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى (يتراوح مداها بين 200إلى 250 كيلومترا) إلى جانب الطائرات من دون طيار. 

المفارقة الكامنة في التسمية تشير إلى هوس المؤسسة الإسرائيلية بالمجاز، حتى ولو كان فاقدا لصلته بالواقع، فـ"مقلاع داوود" يفترض أن يكون توصيفًا لسلاح الفقراء في وجه "جالوت"(5) المدرّع والمسلّح حتى أسنانه. 

هذا المجاز ساقط بالنظر إلى اشتراطات عمل هذه الطبقة الدفاعية، فالحد الأدنى لكلّ عملية اعتراض يبتدئ من إطلاق وحدتين تبلغ كلفة كلّ منهما 2 مليون دولارا في وجه "صواريخ محلّية الصنع"، لا تتجاوز كلفة الواحد منها 800 دولارًا. بما يعني أن المقلاع الحقيقي هنا هو صاروخ القسّام، الذي تمكّن خلال أسابيع الحرب في 2014 من فرض حظر التجوّل على مناطق واسعة في الكيان ووصل إلى تل أبيب نفسها.

وبالإنسحاب على التكلفة؛ فإن مجرد إطلاق الصواريخ في سماء إسرائيل يعد ضررا اقتصاديا. هذا طبعا، قبل الإشارة إلى أن معظم صواريخ القسام والفجر قد اخترقت المنظومة ووصلت إلى أهدافها طيلة أيام حرب الـ2014.

 

صورة لداوود وهو يستخدم المقلاع في وجه جالوت. 

 

الطبقة الثالثة: القبة الحديدية وهي مخصصة للمقذوفات من عيار 155 ملمتر، والصواريخ قصيرة المدى. وقد ثبت فشل هذه المنظومة إبّان حرب غزة، حيث أمسكت غزّة بإسرائيل متلبسة "وبنطالها إلى الأسفل"، بحسب التعبير العبري.

 ورغم ما قيل عن التطويرات التي أجريت على القبّة الحديدية خلال العامين الماضيين؛ إلا أن الاختبار الحقيقي لهذه المنظومات هو للميدان وحده، كما يشير موطي شيفر، وهو عالم صواريخ إسرائيلي عريق وحاصل على جائزة الدفاع الإسرائيلية، حين وصف منظومات الدفاع الجوية الإسرائيلية بأنها "هراء".

إغلاق السماء لا يكفي

بغضّ النظر عن استقراءات شيفر، نجحت إسرائيل، إن صحّ إعلانها بالأمس، في إغلاق السماء في وجه الصواريخ. فماذا عن الجبهة الداخلية؟

يطرح تقرير رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، آيزنكوت، الذي استعرضه بالأمس أمام الحكومة؛ فرضية حالة حربية؛ يصدر فيها السيد حسن نصر الله أمرًا بإطلاق الحد الأقصى الممكن يوميا من الرشقات الصاروخية نحو فلسطين المحتلة، وهو ما تقدّره إسرائيل بألف وخمسمئة صاروخ يوميا، ستتسبب في بلوغ عدد القتلى أرقاما غير مسبوقة قد تصل إلى العشرات بل والمئات يوميا

ستحتوي وجبة الصواريخ اليومية على صواريخٍ بعيدة المدى ذات قدرة توجيه عالية، وقادرة على الوصول إلى أي نقطة في فلسطين. بما يعني أن "المرافق الاستراتيجية" موجودة أصلا في بنك الأهداف اللبناني.  

 

تجربة صاروخية إيرانية 

الخسائر المتوقّعة في الجانب اللبناني أو الغزّي بالطبع، ستكون غير مسبوقة هي الأخرى.

الموجة الأولى، بحسب تقديرات الخبراء العسكريين الإسرائيليين ستشمل محطات توليد الطاقة في الجانبين، وخزّانات الماء والسدود، إلى جانب ما يفترض بأنه مخازن أسلحة وطرق حيوية ومحطات اتصال، بالإضافة إلى الخسائر البشرية الفظيعة التي سيكون التوجّه إلى إحداثها لغرض كسر الروح المعنوية للمقاتلين على الجبهات وفي مرابض الصواريخ، وكذا لتشكيل ضغط مدني على القرار المقاتل. 

مسألتان تنبغي الإشارة إليهما في هذا السياق:

1.ضعف قدرة المجتمع الاسرائيلي على تحمّل الخسائر اليومية، بأبعاد هائلة كتلك الموجودة في تصوّر قيادة الجبهة الداخلية عن الحرب القادمة. فهذا المجتمع شديد الحساسية لخسائر الجبهة الداخلية مقارنة بعقود طويلة من تعوّد سكان لبنان أو غزة أو إيران على الحروب.

2.عربيّا،  لا وجود عملي لـ "جبهة داخلية" (بمعنى وجود فصل بين الاشتباك على الحدود وبين الخطوط الخلفية في مراكز المدن). واحدة من أهم ركائز العقيدة العسكرية الإسرائيلية هي: نقل المعركة إلى ساحة العدو، بسلاح طيران وبغيره، وهذا ما حوّل بيروت وقلب غزة إلى خطوط تماس منذ زمن بعيد، وأنهى تماما، ومنذ عقود، وجود جبهة داخلية حسّاسة داخل المدن العربية.

مغزى النقطتين الواردتين أعلاه هو أن آلة الحرب الإسرائيلية ستعمل بأقصى طاقتها لتحقيق ’خراب غير مسبوق‘ في بيروت أو غزة بتعبير جنرالات تل أبيب، خلال مناسبات عديدة مؤخرا.(6)

في الحروب السابقة، أي قبل اكتمال تغطية كل نقطة بفلسطين المحتلة برأس حربي مضاد لصاروخ مفترض قد تطلقه المقاومة. اعتاد الإسرائيليون على الهرب.

في عام 1991 أطلق رئيس بلدية تل أبيب على آلاف الهاربين جراء القصف الصاروخي العراقي، ليغرقوا مطارات أوروبا إسم "الفارّين". وفي حرب الـ2006، ملأ مستوطنو شمال فلسطين جنوبها، هربا من صواريخ حزب الله، وفي 2012 و 2014 خلال رد المقاومة الفلسطينية على الهجوم الإسرائيلي على غزة؛ تمّ تفريغ جنوبي فلسطين إلى الشمال.

لكن التحوّل النوعي تجلّى في واحدة من النكات التي انتشرت أثناء حرب الـ2014: يسأل ولد إسرائيلي هارب مع والده من جحيم الحرب إلى أوروبا، في الطريق: "متى سنصل إلى لندن يا أبي؟" ليجيبه الأب المنهك قائلاً: "أغلق فمك وواصل السباحة".  

إنّ واحدًا من أوائل الأهداف التي ستتعرض للشلل هو مطار بن جوريون، الذي أثبتت المقاومة في غزة ولبنان قدرتهما على الوصول إليه. وهذا يعني بأن الجيتو سينغلق تماما على سكّانه. وبالعودة إلى مفارقة المقلاع وجالوت؛ هنالك، بحسب السيناريو الحربي الإسرائيلي الذي أُعلن عن نجاحه بالأمس، آلاف المقاليع الموجّهة اليوم نحو درع جالوت. 

كل ما سبق، بالطبع، هو حديث عن ساحة حربية واحدة. وبالإمكان سحبه على ساحات بعينها، كإيران أو غزة مثلا، من دون التوقّع بأن الصواريخ ستنصبّ، كما يحسب الإسرائيليون في أقصى سيناريوهاتهم المفترضة تطرفا، من الساحات الثلاث.

إلا أنّ أهم ما أنجزته إسرائيل في ضوء التعليق السابق هو تحويل الحرب مع جنوب لبنان إلى حرب مع الشيعة، والحرب مع غزة إلى حرب مع حماس أو السنّة على أبعد تقدير. وفي ظلّ اكتشاف هذا الفارق المذهبي والعرقي الكبير بين اللبنانيين والفلسطينيين، أو العرب والإيرانيين، فإن ما يمنح غطاء المنظومات الصاروخيّة الإسرائيلي قوته بالذات، هو الخلاف على من كان أحقّ بالخلافة، أهو عليّ أم عثمان. وهذه، بالطبع، مسألة شديدة الأهمية ويتوجّب حلّها قبل محاربة إسرائيل.  


(1) أسماء مستوطنات إسرائيلية 

(2) اسم صاروخ من صواريخ المقاومة الفسلطينية. أطلق عليه اسم الجعبري تيمنًا باسم "أحمد الجعبري" القائد العام السابق لكتائب القسام التابعة لحركة حماس. والذي أغتيل بقصف اسرائيلي على سيارته في 14 نوفمبر 2012.

(3) تمّ خلال المناورة تجربة ربط حواسيب منظومات الدفاع الصاروخي الإسرائيلية بحواسيب ورادارت الجيش الأميركي، [تحديدا حواسيب الـ ECOM، وهي قيادة القوات الأمريكية المنتشرة في أوروبا]

(4) جيتو: اسم يطلق على التجمعات اليهودية المغلقة. حيث مال اليهود للعيش في تجمعات سكنية مسوّرة، يقتصر العيش فيها عليهم؛ إما طوعًا هربًا من الاضطهاد، أو بأوامر من السلطات. وظلت تلك الجيوب اليهودية قائمة، سيما في أوروبا، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ويرى بعض المنظرين إن قيام دولة إسرائيل هو توسيع للجيتو اليهودي؛ حيث يسعى من يتبنون الأفكار الصهيونية إلى تجميع اليهود كلهم في مجتمع مسوّر مغلق عليهم دون سواهم، يتخذ شكل الدولة. 

(5) جالوت- جوليات: ملك فلسطيني مذكور في العهد القديم. واجهه صبي من بني إسرائيل وقتله، هذا الصبي كبر ليصبح الملك داوود (النبي داوود) أكبر ملوك بني إسرائيل.  

(6) على سبيل المثال: تصريح ليبرمان، وزير الدفاع الجديد بأن "الحرب القادمة بين إسرائيل وغزة ستكون الأخيرة". أو تصريح يائير جولان، نائب قائد الجيش الإسرائيلي  بأن "أية حرب مستقبلية بين إسرائيل وحزب الله ستكون نتائجها مدمرة".