تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أن تعطي الصحفي راتبًا منخفضًا ثم تفصله

صحفيون يدفعون ثمن العمل الإضافي في زمن التضخم

منشور الأربعاء 22 فبراير 2023

كان إسلام* يحلم منذ صغره بأن يكون مراسلًا ميدانيًا يشارك في تغطية أحداث هامة في مصر، ورغم اصطدامه بعوائق كثيرة كان على رأسها تدني راتبه في موقع البوابة نيوز خلال 2016، البالغ ألف جنيه، فإنه تمسك بحلمه.

تدنِّي الراتب دفع إسلام للبحث عن مصدر رزق آخر بعيدًا عن الصحافة "اشتغلت في شركة أسمنت في حلوان وكنت مسؤول عن العمال هناك، ووقتها مديري معترضش، بالعكس كان بيشجعني دايمًا أدور على رزق جنب الصحافة".

كان إسلام كما يصف نفسه "أُسطى أنفار" بالنهار في الشركة، وفي الليل يتحول إلى صحفي "كنت باخلع لبس العمال الأزرق وألبس لبس الصحفي"، حتى عُرض عليه العمل في موقع إلكتروني آخر، مقابل ثلاثة آلاف جنيه في الشهر.

"مقدرتش أرفض بسبب حاجتي للمال، فورًا سبت شركة الأسمنت وبدأت أشتغل في الموقع التاني جنب شغلي في البوابة نيوز، لكني فوجئت بأن مديري بيهددني بالفصل، وطالبني بالاستقالة بسبب شغلي الثاني"، يقول إسلام.

لم يكن إسلام يعمل بموجب عقد في البوابة نيوز، لكنه كان ينتظر دوره في قائمة التعيينات ومن ثم الالتحاق بنقابة الصحفيين. اضطر لترك عمله في الموقع الإلكتروني الآخر، لكنه فوجئ بقرار فصله من "البوابة"، فعاد لشركة الأسمنت، إلى جانب عمله صحفيًا مستقلًا.

ما حدث مع إسلام يعيد إلى الأذهان مقال الكاتب الصحفي عماد الدين حسين، الذي يعارض عمل الصحفيين في أكثر من مؤسسة متنافسة، والذي نُشر في الشروق في 18 يونيو/ حزيران الماضي بعنوان "هذا هو حال بعض الصحفيين"، قائلًا بأن "هذا أمر يصعب فهمه وقبوله والتعامل معه، وسوف يؤدى إلى تدمير المهنة إذا استمر هذا المنطق وتوسع".

وأوضح حسين في المقال أنه نشأ على "قيم مهنية محترمة"، منها أنه ينبغى للمحرر العمل في مكان واحد. ورغم اعترافه في نص المقال بأن الصحفيين يحصلون على جنيهات قليلة، وصف من يعمل في مكانين بأنهم "أجيال جديدة لم تعد تعرف القواعد المهنية السليمة".

عقود إذعان

لكنَّ عضو مجلس نقابة الصحفيين السابق عمرو بدر، يرى أن المؤسسات إذا أرادت احتكار جهود صحفييها فعليها أن توفر لهم الرواتب اللائقة والتأمينات الاجتماعية والصحية، أما لوم الصحفي على العمل بأكثر من مكان في الوضع الحالي هو "أمر غير إنساني".

يتفق بدر أن الأصل هو أن يعمل الصحفي في مكان واحد، ليجد وقتًا لحياته الخاصة، إلا أنه يستطرد في حديثه مع المنصة "لكن المناخ الصحفي في مصر سيئ للغاية حتى مع وجود العقود، فالصحفيون يوقعون على عقود إذعان تقوم على فرض طرف أقوى سيطرته على آخر أضعف، بأجر ضعيف، وشروط مجحفة".

"من حق الصحفي العمل في أكثر من مكان بحكم تدني المرتبات"، هكذا يرى عضو مجلس نقابة الصحفيين، محمود كامل، ويضيف للمنصة "مجلس النقابة، بداية من النقيب حتى أغلب الأعضاء، يعملون في أكثر من مكان لأن ذلك واقع مجبرين عليه".

على المحك

في سبتمبر/ أيلول 2021، تعرَّض خمسة صحفيين في موقع مصراوي للفصل الذي اعتبروه تعسفيًا بعد حلّ القسم الذين كانوا يعملون به. وقالت وقتها إدارة مصراوي، التي تتبع شركة أونا للخدمات الإعلامية، إنهم خالفوا "تعاقدهم مع المؤسسة وعملوا في مواقع أخرى منافسة، دون الحصول على إذن مُسبق".

لا يوجد إحصاء رسمي أو خاص عن أعداد الصحفيين الذين فُصلوا من عملهم نتيجة العمل الإضافي. ولكن الفترة من 2019 حتى 2022 شهدت 269 حالة فصل تعسفي بشكل عام لصحفيين تتراوح أعمارهم بين ما بين 24 إلى 46 سنة، وفق بيانات حصلنا عليها من المرصد المصري للصحافة والإعلام، وهي مؤسسة غير حكومية معنية بحقوق الصحفيين.

في العام 2019، رصدت وحدة التوثيق والرصد بالمرصد قيام سبع مؤسسات صحفية بفصل عدد من الصحفيين، وثّق المرصد منها 31 حالة. بينما في العام 2020، فُصل 11 صحفيًا تعسفيًا بشكل فردي، بالإضافة إلى ثلاث حالات جماعية فُصل فيها حوالي 141 صحفيًا، كما وثق المرصد 23 حالة تعرض فيها الصحفيون إلى حجب حقوقهم المادية سواء بتخفيض الرواتب أو منعها.

وقلَّ ذلك العدد في عام 2021 ليصل إلى 18 حالة، ولكنه عاد للارتفاع التدريجي مرة أخرى في عام 2022، ليصل فى التسعة أشهر الأولى منه إلى 45 حالة.

تلك الوقائع لا تعد حصرًا شاملًا وكاملًا لأعداد الصحفيين المفصولين، ﻷن هناك وقائع لم يتمكن المرصد من رصدها، بحسب مديره التنفيذي أشرف عباس "الأوضاع المتردية للصحافة جعلت الفصل ملجأ المؤسسات الصحفية والإعلامية للتخلص من أعبائها الاقتصادية وأزماتها المالية".

ولكن في الوقت ذاته، يؤكد عباس للمنصة أن وحدة التوثيق في مؤسسته رصدت مؤخرًا حالة من الترصد من جانب رؤساء تحرير الصحف ضد الصحفيين الذين يعملون في أكثر من مؤسسة إعلامية لتحسين دخلهم، بسبب قلة العائد الشهري الذي يحصلون عليه منها، مبينًا أن أغلب الحالات تكون في المؤسسات الخاصة، وخاصة في الإصدارات الإلكترونية منها.

خمسون صحفيًا استجابوا لاستطلاع أرسلناه لهم، بيَّنت نتائجه أن 64% منهم ليسوا أعضاء بنقابة الصحفيين، و62% لا يعملون بعقود رسمية.

وأظهر الاستطلاع تعرُّض 36% من العينة للفصل في 2020، بينما تلاه عام 2018 بنسبة 10%، وتساوت نسبة الفصل في عامي 2021 و2019 بـ7%.

وبالسؤال عن الأسباب جاءت تصفية العاملين في المقدمة بنسبة 44% من العينة، يليها غلق المؤسسة بنسبة 28%، وجاء العمل الإضافي في المرتبة الثالثة بنسبة 20%. وكانت أغلب حالات الاستبيان فصلت من مواقع إلكترونية بنسبة 50% من العينة، ثم المؤسسات الخاصة بنسبة 34%، وتساوت القومية والحزبية بنسبة 8%.

 

وعن الإجراء الذي اتخذه الصحفي بعد الفصل، فـ 36% من العينة أطلقت استغاثات على السوشيال ميديا، مقابل 30% لم يفعلوا شيئًا، أما من لجؤوا للقضاء فكانت نسبتهم 10%، أما من قدموا شكوى في النقابة كانت نسبتهم 24%.

أما رواتب صحفيي العينة وقت الفصل،فـ 42% منهم كانوا يحصلون على مكافأة شهرية، بينما 28% كان راتبهم أقل من 1500 جنيه، و20% منهم تراوح راتبهم بين 1500 و2500 بينما الأعلى من 3000 كانت نسبتهم 10% فقط.

استقالة بدون عقد

العمل بدون عقد هو الفخ الذي وقع فيه الصحفي أحمد عثمان* حين كان يعمل في جريدة الموجز، حيث فوجئ في منتصف العام 2020، وقت اشتداد جائحة فيروس كورونا، باتصال هاتفي من إدارة الموارد البشرية بالمؤسسة تخبره بضرورة الحضور لتوقيع استقالة عاجلة وتصفية باقي راتبه الذي يبلغ شهريًا 1200 جنيهًا.

لم يعرف عثمان سبب ذلك الفصل المفاجئ، وحرمانه من حق التعيين والالتحاق بنقابة الصحفيين بعد عامين من العمل في الجريدة "تحملت ضغط العمل لأكثر من 10 ساعات يومية، وراتب ضعيف من أجل لحظة التعيين التي ضاعت نتيجة ذلك القرار".

قبل ذلك القرار بنحو ستة أشهر التحق أحمد بموقع روسيا اليوم كصحفي حر، يقوم بإنتاج موضوعات صحفية في الشأن الخارجي، وإرسالها للموقع بمقابل مُجزٍ جدًا، وهو ما كان يحتاجه بشدة بسبب تدني راتبه في الموجز.

يقول "كان ده سبب الفصل مع إني مكنتش متعين في الجريدة، لكن فوجئت بإجباري على الاستقالة ومنعي من ممارسة عملي، ثم بدأت موجة فصل تعسفي في العام التالي لصحفيين آخرين في الموجز، تدخلت فيها النقابة دون الوصول إلى حل للأزمة". ترك عثمان الموجز ورفض من وقتها العمل في أي مؤسسة صحفية مصرية تاركًا حلم التعيين بالنقابة من دون رجعة، ومتنازلًا عن حقه في العمل بأكثر من مكان.

قانونية العمل الإضافي

عدم موافقة المؤسسات الصحفية على العمل الإضافي أمر قانوني في بعض الحالات، وفق مدير الوحدة القانونية بالمرصد المصري للصحافة والإعلام، أحمد عبد اللطيف.

يقول عبد اللطيف للمنصة إن البند السادس من المادة رقم 69 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 نصَّ على أن يعتبر من الأخطاء الجسيمة التي يترتب عليها فصل العامل أن يقوم بمنافسة صاحب العمل في ذات نشاطه، وهنا نجد أن الصحفي يمكنه العمل في مؤسسة صحفية أخرى بشرط ألا يكون العمل في ذات نشاط مؤسسته.

ولكن في حال توقيع الصحفي عقد ينص على عدم عمله في مؤسسة أخرى، يحق للمؤسسة مقاضاته إن خالف ذلك، وقد يترتب عليه أيضًا الفصل من العمل، بحسب عبد اللطيف.

وبيّن أن العقود التي تحوي شروط تخص عدم عمل الصحفي في أكثر من مكان هي عقود صحيحة. وينصح عبد اللطيف الصحفيين بعدم العمل دون عقد.

مأساة تتكرر

التجربة نفسها التي عانى منها إسلام وعثمان عاشتها علا*. عُينت علا في جريدة روزاليوسف خلال العام 2006، وأصبحت في العام ذاته عضوة بنقابة الصحفيين، وفي 2016 جاءتها فرصة للعمل في موقع مصراوي، ولكن حين علم مديرها بعملها في روزاليوسف بعد شهور بدأ يضيق عليها الخناق "خيرني بين الاستقالة من روزاليوسف أو ترك مصراوي، وبعدها فُصلت من العمل بالفعل بعد خصم 15 يومًا من راتبي".

إثر تلك التجربة، تركت علا العمل في المؤسسات وأصبحت مستقلة، ولكن "العمل المستقل مش سهل؛ كتير مش بلاقي رد من المؤسسات اللي براسلها، وعدم وجود دخل ثابت مسألة مرهقة نفسيًا، وبقيت مضغوطة من التزاماتي المادية".

حاولت النقابة حماية الصحفيين، بحسب حديث محمود كامل للمنصة، "الفيصل في الأمر هو العقد. حاربت النقابة الفصل التعسفي خلال عام 2015، حين اتخذت قرارًا بمتابعة عمل المتدربين لدى الصحف المكودة لديها، بأن تخبرها كل ستة أشهر بوضع المتدربين، من سيوقع عقدًا ومن سيتم الاستغناء عنه؟ إلا أن تلك الآلية لم تُنفَّذ".

جانب آخر للأزمة يلقي عليه الضوء وسام عطية، مسؤول وحدة الرصد والتوثيق في مؤسسة حرية الرأي والتعبير، الذي يرى أن الفصل التعسفي للصحفيين له تأثير قريب المدى على مساحات الرأي والتعبير، "تلك الأزمة تؤثر في مساحات العمل المحترف وتزيد من الخطوط الحمراء عليه، بل وتدفع كثيرين للخروج من المجال بحيث يصبح مع الوقت هناك صوت واحد للصحافة".

لا يزال إسلام يشعر بأنه "أُسطى أنفار" وليس صحفيًا، فيما ترك عثمان الصحافة من غير رجعة. أما علا، فتراسل جميع الجهات التي تتيح العمل الحر دون رد من أغلبها، في وقت ارتفعت فيه الأسعار بصورة كبيرة، وبات الحصول على مصدر دخل ثابت أولوية قصوى.


* اسم مستعار بناء على طلب المصدر.