صورة تذكارية للفنان سيد درويش التقطها قبل وفاته- الصورة: أرشيف أشرف غريب، خاص المنصة.

من هنا جاء سيد: هكذا هز الشيخ الهلال

منشور الخميس 9 سبتمبر 2021

تحل ذكرى رحيل سيد درويش في 10 سبتمبر/ أيلول (1923)، ولعل سؤالًا قديمًا أثاره تصريح لعبد الحليم حافظ عندما عقد مقارنة بين درويش وتلميذه عبد الوهاب، قائلًا "إذا كان سيد درويش هو الشمعة التي أضاءت طريق الموسيقى العربية فإن عبد الوهاب هو المصباح"، ما يزال صالحًا لتدبر المنجز الإبداعي المهم للشيخ سيد.

فهل كان سيد درويش، حقًا، مجرد شمعة؟

في الحقيقة لا. إذ ليس هناك في تاريخ الموسيقى العربية من هو أطول قامة وأبقى أثرًا من فنان الشعب ابن الإسكندرية الموسيقار خالد الذكر سيد درويش، فسيد درويش المولود بحي كوم الدكة بالإسكندرية في السابع عشر من مارس/آذار 1892، هو صاحب الثورة الموسيقية الأبرز التي وضعت حدًا فاصلًا بين الموسيقى الكلاسيكية العثمانية بكل ما بها من زخارف الصنعة وقيود القوالب الجامدة وبين روح العصر ومقتضياته، التي قادت فن الموسيقى، مبدعين ومتلقين، إلى اللحاق بركب الحياة في القرن العشرين، وكل الذين أتوا بعده من المجددين خلال المائة عام الماضية، أمثال عبد الوهاب والقصبجي ومدحت عاصم ومحمد فوزي وبليغ حمدي وعمار الشريعي هم في واقع الحال، شاءوا أم أبوا، اعترفوا أم كابروا، امتداد له أو قبس من فنه أو بعض منه على أبسط تقدير، ولو لم يحدث سيد درويش هذا التأثير الهائل في موسيقانا الشرقية ربما لم يكن هؤلاء قد استطاعوا تقديم فنهم أو على الأقل وجدوا عنتًا في الوصول بفنهم إلى الناس.

من هنا جاء سيد

ربما يتصور البعض أن نجاح سيد درويش في تحقيق نقلته الموسيقية رغم ركام عقود الحكم العثماني لمصر يعني أن أحدًا كان من الممكن أن يأتي بعده ويُحدث الأثر ذاته في موسيقانا، وهذا التصور صحيح من الناحية النظرية، لكن ينبغي الانتباه إلى أن الرجل جاء في ظروف بالغة الاختلاف كان فيها المجتمع المصري كله في حالة فوران ثوري، وكل شيء فيه قابل للتغير، وهي ظروف مواتية للخروج على المألوف طالما توافرت العقلية صاحبة المشروع الواضح لتحقيق هذه الثورة، ويكفيه أنه كان البادئ بالسباحة ضد التيار.

وعليه فإن مناخًا مناسبًا كهذا ربما لم يكن يتوفر على ذلك النحو لمن أتوا من بعد سيد درويش، فإذا تأملنا ولو حتى في عجالة هذا المناخ الذي تهيأ في رحاب ثورة 1919، إرهاصاتها وأحداثها وتوابعها، لوجدنا أن النقلات المصرية الهامة على كافة المستويات هي ابنة هذه المرحلة، فسياسيًا كانت الحرب العالمية الأولي تضع أوزارها، وحالة الغليان الشعبي ضد الاحتلال البريطاني لمصر تنبئ بثورة عارمة تحققت بالفعل في العام التالي مباشرة تحت قيادة الزعيم الوطني سعد زغلول (1860- 1927) وما ترتب عليها من حصول مصر علي استقلالها، حتى ولو كان صوريًا متمثلًا في تصريح 28 فبراير 1922، ودخولها الحياة البرلمانية بصدور دستور 1923.

 

أما على المستوى الاقتصادي فكانت هناك نخبة من المصريين الوطنيين علي رأسهم طلعت حرب (1876 – 1957) توشك أن تصبح كيانًا اقتصاديًا ملموسًا يرفع شعار "مصر للمصريين"، ربما منذ صدور كتابه المهم علاج مصر الاقتصادي عام 1910، ثم تأسيس بنك مصر وكل روافده منذ عام 1920، واجتماعيًا كانت دعوة قاسم أمين (1863 – 1908) ورفاقه لتحرير المرأة وجدت صداها عند مجموعة من سيدات مصر في مقدمتهن هدى شعراوي، كذلك فإن الوازع الوطني وتأجج مشاعر العداء ضد الاحتلال جعل عنصري الأمة مسلمين ومسيحيين أكثر انصهارًا، مما ترتب عليه خفوت العامل الديني في العلاقات الاجتماعية بين المصريين، بل وحتى مع اليهود باعتبارهم العنصر الثالث في المجتمع قبل أن تغيبهم عن المشهد المصرى نكبة 1948 في فلسطين.

وعلى الصعيد العلمي حتى، كانت هذه الفترة هي التي شهدت إيفاد العالم الرائد على مصطفى مشرفة (1898 – 1950) إلى أوروبا لاستكمال دراساته العليا، التي عاد منها سنة 1923 حاملا درجة الدكتوراه لتبدأ مرحلة مهمة من مراحل النهضة العلمية في مصر.

 وعلي المستويين الأدبي والفكري كان أمير الشعراء أحمد شوقي (1870 – 1932) العائد من منفاه في برشلونة سنة 1919 قد انحاز تمامًا إلى جانب العامة بعد أن كان من قبل يعرف بشاعر الأمراء، أيضًا كان عباس محمود العقاد (1889 – 1964) وطه حسين (1889 - 1973) ومن قبلهما أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد ( 1872 – 1963 ) قد شقوا للعقلية المصرية طريقًا نحو حضارة القرن العشرين.

سيد فردًا وجماعةً

فنيًا انعكست هذه التطورات كلها علي حركتي المسرح والموسيقي بالذات، فانتعش المسرح الفكاهي على يد كل من نجيب الريحاني (1890 – 1949) وعلي الكسار ( 1887 – 1957 )، والمسرح التراجيدي بفضل جهود جورج أبيض ( 1880 – 1959) وعبد الرحمن رشدي (1881 – 1939) وعزيز عيد (1884 - 1942)، ثم يوسف وهبي (1898 – 1982) بإنشائه فرقة رمسيس عام 1923، كذلك ازدهر المسرح الغنائي على يد الشيخ سلامة حجازي (1852 – 1917) ومن بعده منيرة المهدية (1885 – 1967)، التي كانت أول فتاة مصرية تقف علي خشبة المسرح بعد أن كان ذلك، ولأسباب اجتماعية، حكرًا علي المتمصرات فقط، فإذًا ما جاء سيد دوريش بذائقته الموسيقية المختلفة ومشروعه الفني الثوري وجد الأرض ممهدة ليحدث نقلته الموسيقية المهمة بتشجيع ودعم من نجيب الريحاني بداية من عام 1917، وحتى وفاته عام 1923، تلك النقلة التي حررت الموسيقي الشرقية من ارستقراطيتها النغمية، ونزعت عن الغناء العربي ثوب الصنعة العثمانية، فأصبح أكثر قدرة علي التعبير ومجاراة إيقاع العصر.

 

 عاش سيد درويش إذن واحدًا وثلاثين عامًا بين مولده سنة 1892 ورحيله عام 1923، كانت من أكثر الفترات تقلبًا وتحولًا في تاريخ مصر الحديث، واستفاد الرجل من تلك التطورات جميعها ما انعكس على الموسيقى التي أبدعها، إذ أبصر درويش الحياة مع تولي الخديوي عباس حلمي الحكم في ظل أزمة كبرى عرفت في التاريخ بأزمة "الفرمان"، التي كادت أن تقتطع من مصر نصف سيناء لولا تدخل المعتمد البريطاني في مصر لورد كرومر، وانتهت حياته عشية عودة زعيم الأمة سعد زغلول من منفاه وصدور دستور 1923، الذي أصبح بمقتضاه رئيسًا للوزراء، وبين التاريخين زاد النفوذ الأجنبي في مصر وتتابعت الأزمات بين القصر ودار المعتمد البريطاني قبل إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914.

وعليه زاد عدد الأجانب وتوالت الهجرات إلي مصر من يونانيين وأروام وشوام، وارتفع عدد البارات والخمارات وخاصة في الإسكندرية مسقط رأس سيد درويش، وعمد الإنجليز إلى تقليص عدد المدارس الرسمية والإبقاء فقط على الكتاتيب والتعليم الديني في الأزهر الشريف، في ظل هذه الأجواء تلقى الفتى الصغير تعليمه الأولي في كتاب كوم الدكة، ثم انتقل إلى المعهد الأزهري حتى أصبح شيخًا معممًا، أيضًا صادق الجاليات الأجنبية في الإسكندرية وحفظ موسيقاها، فانسحب هذا كله على كثير من ألحانه اللاحقة من أول اقرأ يا سى قفاعة وحتى الجرسونات والأروام وغيرهما.

بلادي بلادي

في ظل سيادة الدولة العثمانية حتى ولو صوريًا على مصر والشام استطاع سيد درويش القيام برحلتيه إلى سوريا ولبنان دون قيود مع فرقة أمين عطا الله المسرحية، وتتلمذ على يد بعض أساطين الموسيقى هناك، مثل صالح الجذية وعلى الدرويش وعثمان الموصلي فزاده ذلك قدرة على الحفاظ على أصالته الموسيقية رغم جنوحه إلى التجديد، مثلمًا بدا واضحًا في أعمال مثل يا بهجة الروح وأنا هويت وضيعت مستقبل حياتى.

 على الجانب الآخر ومع اشتغال سيد درويش في طائفة البناءين في ظل تنامي طبقة الحرفيين التي تخدم الاستعمار الإنجليزي والمستفيدين منه، عرف الصبي مبكرًا أغاني هؤلاء الحرفيين وإيقاعاتها واستطاع أن يطوع ذلك في أعمال بقيت خالدة حتى اليوم مثل: يعوض الله، الحلوة دي، القلل القناوي، وغيرها.

 

 أما عن الوازع الوطني فحدث ولا حرج وخاصة مع إعلان الحماية البريطانية على مصر وعزل عباس حلمي سنة 1914 وإعلان الأحكام العرفية وتضييق الحريات وتحمل مصر كلفة الحرب العالمية الأولى، دون أن يكون لها ناقة فيها ولا جمل، الأمر الذي أجج الإحساس بضرورة الخروج إلى الشارع رجالًا ونساء ومسلمين ومسيحيين للمطالبة بالاستقلال، تأييدًا لموقف وفد سعد زغلول ورفاقه، فكانت ثورة 1919 والأحداث التي تلتها انتهاء بوفاة سيد درويش، والشبهات التي حامت حولها، وتولي سعد زغلول الوزارة في كنف دستور جديد هو دستور 1923.

وهذه السنوات تحديدًا هي التي شهدت درر سيد درويش الوطنية: بلادي بلادي، أنا المصري، قوم يا مصري، أهو ده اللى صار بكل ما فيها من استنهاض للهمم وإزكاء للروح الوطنية والتنبيه بخطورة الاحتلال ومحاربة الطائفية، أضف إلى ذلك نجاحه مع بديع خيري تحديدًا ومن إنتاج نجيب الريحاني في تطويع أغاني الأعمال المسرحية لخدمة القضية الوطنية على نحو لم تكن الدراما المسرحية قد عرفته من قبل.

أثر السيد

يقودنا ذلك للتوقف أمام ما أحدثه سيد درويش من تجديد، فمسرحيًا ارتقى بفن الأوبريت بعد الدور البارز الذي كان قام به الشيخ سلامة حجازي في هذا المجال، ويكفيه العشرة الطيبة والبروكة وكيلوباترا ومارك أنطوني، الذي أكمله من بعده تلميذه محمد عبد الوهاب، حيث اعتمد على التصوير الموسيقي كما في أغنيات الطوائف: العربجية والسقايين والممرضين وغيرها، وأحسن من الاستخدام الدرامي والحوارات الغنائية كما في أغنية الشيطان، في مسرحية البروكة، وأغنية اتمخطري يا عروسة في العشرة الطيبة، وهذه المواصفات كان يفتقدها المسرح الغنائي قبل الشيخ سيد درويش.

وربما لم يجدد سيد درويش كثيرًا في شكل الدور كقالب غنائي، لكن يحسب له تنوع مقاماته الموسيقية واستحداث استخدام بعضها بصورة لم تكن سائدة قبله، وتحرر إيقاعاته نسبيًا من رتابتها، أما الطقاطيق والموشحات والقصائد والديالوجات والمواويل والأناشيد الوطنية الحماسية فأبدع درويش في صياغتها والسير بها نحو الأداء التعبيري الذي يناسب المعنى دون الارتكان إلى التطريب العثمانلي المعتاد في ذلك الوقت، مع استخدام بعض الإيقاعات الجديدة كالمارش على سبيل المثال، ووفق جامعي تراث فنان الشعب ودارسي موسيقاه، إذ قدَّم الرجل واحدًا وثلاثين عملًا مسرحيًا ضمت ما يقرب من مائتي وأربعين أغنية بخلاف أعماله الغنائية المنفردة.

 ولا يجب إغفال ما لوحظ على بعض ألحان سيد درويش من إدخال الصياغة البوليفونية (تعدد الأصوات اللحنية)، ما يعنى أن رغبة سيد درويش في التجديد لم لتتوقف عند هذا الحد العظيم الذى تركه، وهو ما يتجلى مثلا في دقت طبول الحرب، من رواية شهر زاد وليه يا قلبي وعقلي من رواية البروكة، كما اعتمد على التدوين الموسيقى لأعماله وهو ما حفظ لنا بعضا من تراثه الموسيقى.

 

والشيء المدهش أن كل هذا الإرث العظيم والعطاء المبهر أنجزه فنان الشعب في ست سنوات تقريبًا بين عامي 1917 حين قرر ترك الإسكندرية والاستقرار نهائيًا في القاهرة وبين رحيله المفاجئ عام 1923، عشية عودة الزعيم سعد زغلول من الخارج وكأن الرجل كان يدرك دنو أجله فراح يفيض من عبقريته ما يعجز أن يقوم به غيره في عشرات السنين، وربما هذا الذي دعا عباس محمود العقاد لأن يكتب بعد عامين من رحيل سيد درويش، منتقدًا حالة الإهمال التي لازمت فنان الشعب في حياته وطوال عامي رحيله من جانب الحكومة المصرية في ذلك الوقت، بينما الصيت والاهتمام لأشخاص يأخذون الفن وينزلون به إلى أسفل، حيث يقول:

لو كان سيد درويش من أحاد هذه الفئة لما ليم كبير ولا صغير على إهماله، ولما لحق هذه الأمة ضير من غفلتها عن تثمين مكانته وتكميل شوطه، ولكنه رأس طائفة لم يتقدمها متقدم، وطليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الموسيقى المصرية، ولا أحاشي أحدًا ممن اتصل بنا نبأهم في العصر الأخير، فضل سيد درويش، وهو أكبر ما يذكر للفنان الناهض من الفضل، أنه أدخل عنصري الحياة والبساطة في التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مثقلًا كجميع الفنون الأخرى بكثير من أسجاعه وأوضاعه وتقاليده وبديعاته وجناساته التي لا صلة بينها وبين الحياة، فجاء هذا النابغة الملهم فناسب بين الألفاظ والمعاني وناسب بين المعاني والألحان وناسب بين الألحان والحالات النفسية التي تعبر عنها.

نعم لقد كان سيد درويش، كما قال العقاد، طليعة مدرسة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الموسيقى المصرية، فهل كان مجرد شمعة؟