تصميم: يوسف أيمن- المنصة

الحالة "خُط": كيف يصبح العادي مجرمًا أسطوريًا؟

منشور السبت 13 مارس 2021

 

في 6 أغسطس/ آب من العام 1947 سقط محمد محمد منصور، الشهير بـ"الخُط" غارقًا في دمائه، وفي جسده 21 طلقة، أمطره بها رجال عمدة جحدم (الوحشات سابقًا) في أسيوط، عقب تشابك بالأيدي بين الرجلين بعد أن قتل الأول شابين من أسرة مسيحية بسبب سوء تفاهم، تخلَّل عملية تسليم شقيقهم المختطف مقابل فدية 100 جنيه بوساطة من العمدة حمدي خليفة [1]. 

عقب هذه الحادثة بـ7 سنوات أي في العام 1954 شاهد جمهور السينما قصة "الخُط" في فيلم الوحش من بطولة أنور وجدي ومحمود المليجي، وإخراج صلاح أبو سيف، وكتب القصة والسيناريو الأديب الراحل نجيب محفوظ.

منذ هذا التاريخ أو ربما قبله بقليل أي بين مقتل "الخُط" وتجسيد قصته في السينما، صار الصعيد رحمًا خصبًا لولادة نسخ أخرى من "الخط الأول".

وفق مراجع تاريخية، لم تبدأ الجريمة المنظمة ومقاومة السلطات مع "الخُط"، لكنها كانت سابقة عليه وحتى على حكم محمد علي الذي لم يتمكن من دخول الصعيد والسيطرة عليه إلا بعد مضي 6 سنوات من توليه مقاليد الحكم، أي في العام 1811، ومنذ هذا التاريخ لم تتوقف الحكومة المركزية التي أسسها "الباشا" في القاهرة عن نهب الجنوب وجمع الضرائب من الولاية التي كانت تفوق نظيرتها في الدلتا في هذا الوقت مالًا وغلالًا [2].  

محاكاة للإفلات من الجحيم

في منتصف القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا عاش الصعيد عصرًا ذهبيًا تحت حكم شيخ العرب همام بن يوسف الهواري (1709 - 1769) الذي لجأ في سبيل حفظ استقرار حكمه إلى توطين العرب الرُّحَّل لوقف غاراتهم على أهالي القرى، وبدأ ذلك باتفاق مع قبيلة العبابدة. [3]

التقط الفكرة بعد ذلك محمد علي باشا الذي دعا القبائل العربية غير المستقرة إلى الاستقرار، ومنحهم أراضٍ زراعية مقابل التخلي عن حياة البداوة ليأمن شرهم، مع ثلاثة امتيازات رسمية تعفيهم من السخرة والخدمة العسكرية النظامية ونظامات الصحة (أي التطعيمات وإجراءات الوقاية التي تقرها الحكومة وقت انتشار الأوبئة)، وجوهر الامتيازات الثلاثة هو إعفاء "البدو" من "تنفيذِ كلِّ نظامٍ يُجمِعون على معارضَتِه لِمخالفتِه عاداتهم". [4]

هذه الامتيازات جعلت من العرب، المستقرين الجدد، محل حسد من الأهالي المستقرين الأقدم الذين كانوا "يُكبُّون على وجوههم ويُوجعون بل يُقتَلون ضربًا بالسياط لا فرق بين وجيه وحقير، والعربيُّ لا يُمسُّ خاطره بكلمة ولو كان صعلوكًا". [5]

تعلم المستقرون الأوائل من مسألة الامتيازات التي تمتع بها جيرانهم العرب، أن الحكومة المركزية في القاهرة وممثليها في الجنوب لا يحترمون المواطن لكونه مواطنًا، لكنهم يحترمون القوي لكونه قويًا.

ويبدو أن السكان الأصليين أعجبوا بالجيران الجدد وقلدوهم في طباعهم، لدرجة أن أكثر الفئات مسالمة وبحثًا عن لقمة العيش، الأُجراء الذين استخدمتهم الحكومة عبر مقاولين للمساعدة في أعمال صيانة نظام الري في الدلتا، كانوا المتهم الأول في التسبب في ارتفاع مفاجئ لأعمال السلب والإغارة حسب شكوى تقدم بها ناظر الغربية عام 1891 من "مهاجري الصعيد"، كما ربط الكولونيل سيتل المفتش العام للبوليس المصري، بين إلغاء السخرة وزيادة حالات "عصابات النهب". [6]

كما حدثت حالات القتل بشكل أكبر في القرى بسبب خلافات تعيين الحدود في الأراضي الزراعية، أو بسبب النساء، أو انقسامات وتحزبات بسبب التنافس على منصب العمدية، و"لأن كثيرين من الفلاحين يملكون ذلك السلاح المحظور (البندقية) ويعرفون استخدامه… في القرى التي يمتزج فيها الدم العربي بالدم الفلاحي". [7]

التحقير من القرويين كان سمة بارزة في ذلك العصر، فورد وصف القروي المصري بـ"البهيمة" و"البهائم" في الكتب التي طالعتها لإعداد هذه المادة مرتين؛ الأولى في كتاب "ساعة عدل واحدة" للطبيب البريطاني سيسيل ألبورت الذي قدم إلى مصر للعمل مدرسًا للطب في مدرسة طب قصر العيني في الأربعينيات، في نقله عن تقرير مكتوب عن أحوال الفلاح المصري بأمر مباشر من قيادة القوات الحربية البريطانية في إشارة إلى الحال التي سيصل إليها الفلاح الذي "يتعرض لإساءات متنوعة تصبها على رأسه السلطة الحكومية، فإنه بالتأكيد سيتحول من إنسان إلى بهيمة".

أما الثانية فوردت في كتاب "الفلاحون" للأب الدكتور هنري عيروط، نهاية الأربعينيات أيضًا، في سرده لموقف دخوله مكتب معاون بوليس وجده يوسع أحد المتهمين ضربًا، فحاول ذلك المعاون تفسير فعلته له بقوله "تنبغي معاملة الفلاحين على هذا النحو لأنهم بهائم".

هذه الطريقة في التعامل بين رجال الشرطة باعتبارهم ممثلي حكومة القاهرة، والمواطن المصري ساكن القرية، طُبَّقت حرفيًا في حادثة تاريخية كان لها وقعها وقتها هي مقتل مأمور البداري عام 1932 المأمور يوسف الشافعي على يد اثنين من المواطنين، بعد أن عذبهما مجاملة للعمدة بـ"الضرب، وقص الشارب، والربط في مَحل الخيل، والإلجام بحبل من الليف كالبهائم، والإجبار على قول أنا مَرة (أنا امرأة) وإيلاج العِصِىّْ في الدبر". [8]

نظام أمن مختل وعدالة غائبة

يرى عيروط أن الصلاحيات المطلقة التي منحتها الحكومة المركزية في القاهرة لنظارة (وزارة) الداخلية التي تحكم الأقاليم من خلال منصب مدير المديرية، الذي يرأس المأمور، الذي بدوره يرأس العمدة؛ مَن يؤخذ بكلمته وحده في أي قضية، تسبب في يأس المواطن العادي من العدالة. 

بات القروي على يقين من أنه سيكون وحيدًا في حال اصطدم بسلطة العمدة أو أقاربه أو حلفائه لأن النظام منح العمدة سلطات مطلقة، ونظام الإدارة هذا "مليء بالأضرار على الأمن العام، إذ كثير من الجنايات يمكن أن يخبأ في سهولة، أو يعزى زيفًا إلى أبرياء، فضلًا عن أن الأحقاد تتولد في أغلب الأحيان وتتخلد حول هذه الوظيفة". [9] 

العمدة الحاكم الفعلي في حياة القرويين تعاونه مجموعة بين 20 و25 خفيرًا نظاميًا يساعدونه على حفظ الأمن وتنفيذ الأحكام والأوامر الرسمية، ويشكلون جميعًا آخر مصطبة في الهرم الأمني تضغط بثقل الهرم كله على المواطنين العاديين.

وفق تقرير إدارة عموم الأمن العام في القطر المصري عام 1927 فإن "غالبية الخفراء من الأشرار مرتكبي الجرائم المخلة بالأمن من قتل وشروع فيه وسرقات بالإكراه وشروع فيها أو المتفقين مع اللصوص على ارتكاب الجرائم ومساعدتهم في الإفلات من العقاب".[10] 

السلاح يقلب معادلة الفرد في مواجهة الجماعة

أخبرني أحدهم عن شعوره أول مرة يحمل فيها بندقية آلية، لخص الأمر في هذه العبارة "شعرت بأن قوة عشرة رجال تخللتني، وأن باستطاعتي منح الحياة أو سلبها بثنية إصبع".

انتشار الأسلحة النارية تسبب في الإخلال باستقرار مجتمع الصعيد الذي بنى استقراره على معادلة بدائية؛ الجماعة أقوى من الفرد، وصاحب العدد الأكبر من الرجال يفرض سيطرته.

لعب السلاح دورًا في التأصيل للعنف بالصعيد، خاصة مع سهولة الحصول عليه قبل أكثر من نصف قرن؛ يقول كمال عبد الكريم، 88 عامًا، مقيم بقرية كوم العرب بمركز طما في سوهاج (450 كيلومترًا جنوب القاهرة) "كان السلاح متوفرًا لدى الجميع، الغني والفقير على حد سواء، اتقاءً لشر اللصوص في الأساس. سعر البندقية كان نحو 5 جنيهات وهو رقم يعادل متوسط الدخل الشهري للعامل باليومية وقتها (الأربعينيات) تقريبًا أو يزيد بقليل، كانت البنادق الألمانية والإنجليزية والإيطالية متوفرة بكثرة، والمصدر الرئيسي للأسلحة معسكرات الإنجليز في الإسماعيلية، حيث يسرقها اللصوص من المخازن أو يشتريها الناس من الجنود بشكل مباشر".

وعن المطاريد يقول "يلجأون إلى الجبال وقت فيضان النيل الذي كان يحدث في شهري أكتوبر ونوفمبر من كل عام ثم ينحسر النيل ويبدأ الناس في الزراعة، وفي الصيف تشتد أعواد الذرة وتطول وتوفر الحماية للمطاريد الذين يتركون الجبل ويقصدون حقول الذرة لينشطوا في أعمال السرقة والخطف".

كان الأغنياء عامة أهدافًا مشروعة لهجمات المطاريد، وخاصة المسيحيين وأطفالهم الذين كان يجري خطفهم والمطالبة بفدية لإطلاق سراحهم فيما بعد، بحسب عبد الكريم، ال ذي يوضح "لذلك كان المسيحيون الأثرياء حريصين على الهرب إلى الإسكندرية رفقة أطفالهم طوال الفترة التي يستغرقها محصول الذرة لينضج، إلى حين تتم عملية حصاده وتعرية الأرض من كسوتها التي يختبئ فيها الخطر".

ويتذكر عبد الكريم أن "هجمات المطاريد على البيوت المرصودة تتم بعدد بين 20 إلى 40 رجلًا مسلحًا، وهي قوة لا يستطيع صدها العمدة وخفراؤه أو حتى قسم الشرطة، والهجوم لا يكون عشوائيًا وإنما يتم التخطيط له مسبقًا بجمع المعلومات عن الأهداف المحتملة من أعوان لهم داخل كل قرية".

سمات سائدة 

هناك أمران مشتركان في قصص "الخُط" وخلفائه، والشطار، أو قطاع الطرق، والمطاريد بشكل عام، أولهما الانتماء إلى دائرة اجتماعية منبوذة مـن الفئات الاجتماعية الأعلى، والآخر البطولة خارج القانون". [11]

يعيد التاريخ نفسه ما لم تتغير الشخصيات والأماكن، وهذا بالضبط ما حدث مع شعيب علم الدين، واحد من نسخ "الخُط" في السبعينيات، ابن قرية القرامطة غرب بمحافظة سوهاج، والمتهم في 39 قضية سرقة بالإكراه وشروع في قتل، والذي حُكم عليه بالمؤبد عقب أن سلم نفسه في منتصف الثمانينيات بعد وساطة شخصيات نافذة في سوهاج بعد أن أحرج الأمن بسببه نشاطه الإجرامي وفشل السلطات في القبض عليه.

من بين القصص التي تُروى عن شعيب أنه ورجاله سطو على سيارة حكومية محملة بأجولة الدقيق ووزعها على الفقراء، وكذلك "الأعمى" الذي كان يسرق أجولة القمح من الشون الحكومية ويضعها على أعتاب الفقراء ليلًا ليجدوها في الصباح كما أخبرني أحد أقاربه.

الخُط ذكي، ويجيد التنكر، فهو يشعل سيجارة المأمور، حين يجلس بين الحضور في دار أحد العُمد مرتديًا زيًا مهندمًا مثل الوجهاء، وهو يتنكر في زي رجال البوليس ويكبس بيوت ضحاياه ليلًا، ويخدع حملات الأمن بلعب دور المرشد، ويستمع لحديث مجموعة من الضباط عنه داخل ناديهم ثم ينصرف بعد أن يدفع فاتورة ما أكلوه وشربوه ويرسلها لهم مع النادل ممهورة باسمه، حسبما يحكي شعيب عن نفسه، وهي حكاية صعبة التصديق.   

سلك شعيب طريق الجريمة من باب الثأر، وكذلك حامد الأعمى ابن الصوامعة بسوهاج، المعروف بخُط الصعيد، في الأربعينيات، وهناك إشارة له في مسلسل الخواجة عبدالقادر ولكن تحت اسم صابر الأعمى، كذلك يذكره شعيب نفسه في الفيديو السابق باعتباره من الجديرين بحمل لقب الخُط، وكذلك محمد منصور "الخُط الأول" بدأ حياته الإجرامية بالثأر.

قضى شعيب المؤبد وخرج في عام 2005 وأعلن توبته، الغريب في الأمر أنه يظهر في مقطع فيديو على يوتيوب بتاريخ 10 سبتمبر/ أيلول 2011، حاملًا سلاحه وسط مجموعة من المسلحين ما هم إلا معازيم فرح يسمي رافع الفيديو أبرز حضوره ومن بينهم يحيى كامل عبد النعيم تكية، والد العروس، الذي سيلقى مصرعه في 4 سبتمبر 2020، على يد قوات الأمن والمطلوب ضبطه وإحضاره لتنفيذ مجموع أحكام 300 سنة بوصفه "خط الصعيد" وأخطر قطاع الطرق.     

قصة قديمة جديدة سببها اليأس من العدالة؛ تهرب من القتل لتعود وتقتل أعداءك ثم تهرب مرة أخرى، لأن فرص حمايتك لباقي أفراد أسرتك ستكون أكبر بوجودك خارج السجن منها في حال دخولك إياه.

كذلك تلعب التضاريس الجغرافية دورًا هامًا في التشجيع على الإفلات من العقاب أو اللصوصية أو حمل السلاح دفاعًا عن النفس في مناطق يبهت فيها الحضور الأمني أو الرسمي للدولة، فعلى عكس الدلتا وأراضيها الزراعية المنبسطة والممتدة والتي يصعب الاختفاء فيها، نجد قرى "الخُط" وخلفاؤه ملاصقة تقريبًا لأحد الجبلين الشرقي أو الغربي الموازيين لمجرى نهر النيل، مثل قرى درنكة والغنايم وقاو النواورة في أسيوط، والقرامطة والصوامعة والبلابيش في سوهاج، وحمرا دوم وأبو حزام في قنا.

ابن الليل.. النسخة البيضاء من الخُط

يقول حسين عبد الحي* 48 عامًا، موظف حكومي، وتربطه صلة قرابة بأحد مشاهير أبناء الليل في الأربعينيات بإحدى قرى أسيوط، ومقيم بكوم العرب "في منتصف الخمسينيات تقريبًا سرق لص ماكينة مياه تستخدم في ري أراضي زمام قرية كوم العرب، بعد أن هاجم الحارس مع مجموعة من أفراد عصابته المتخصصة في هذه النوعية من الجرائم".

يضيف "كانت مضخات المياه سلعة باهظة الزمن في هذا الوقت، وتتطلب سرقتها جرأة كبيرة وتغلفها مخاطرة أكبر، لأن حراس هذه الماكينات أو الخفراء كانوا دائمًا مسلحين"، ثم يمضي قائلًا "في فرح بقرية الهيشة المجاورة وضع اللص في وعاء "النقوط" جنيهًا تحية منه لأصحاب الحفل، وحين أبدى المعازيم دهشتهم من قيمة "النقطة"، أخبرهم مفاخرًا أن الجنيه لا يساوي قيمة "صامولة" في ماكينة كوم العرب"، ما يعني اعترافه ضمنيًا بسرقة الماكينة".

يتابع: "خلال أقل من ساعة وصل الخبر إلى عمدة كوم العرب في الخمسينيات عبد المنعم نعمان (توفي 1966) فاصطحب اثنين من رجاله الثقات، وانتظر اللص خارجًا من الفرح وقال له إن لكوم العرب عمدة يدافع عنها، وأطلق رصاصاته صوبه فبرزت أحشاؤه، ثم حمله الرجلان المرافقان للعمدة وألقوا جثته في النيل.

 

صورة لعمد وأعيان مركز ومدينة طما في سوهاج، أوائل الستينيات تقريبًا، ودائرة صفراء على عمدة كوم العرب عبد المنعم نعمان المتوفى في 1966

بعد الحادث بأشهر معدودة سيقطع الطريق جماعة من المطاريد على دورية للبوليس مكونة من ضابط وثلاثة خفراء وسيسلبونهم سلاحهم. يصل الخبر إلى المأمور، فيستدعي عمدة كوم العرب الذي وقع الحادث في زمام بلده، وبعد أيام يعود العمدة ومعه السلاح "الميري" بعد أن ذهب إلى "رجال" قاو في أسيوط واسترد السلاح المسروق بعد أن دفع "الحِلوان" أي الفدية المالية نظير رد المسروقات (حلوان من حلاوة، بمعنى إكرامية مقابل خدمة).

حوادث شبيهة أوجدت طلبًا على نسخة بيضاء معادلة للمطاريد واللصوص بإمكانها دفع خطرهم وحفظ الأرواح والممتلكات، فظهر أبناء الليل أولئك الشجعان المسلحون من أبناء القرى، والذين باتوا معروفين لدى المطاريد واللصوص، فإذا اقترن اسم أحدهم بخفارة مكان أو زمام تجنبه اللصوص والمطاريد.

وكان من جبروت أحدهم أن سرق عجلًا من أحد أثرياء القرية وذبحه في اليوم التالي وأرسل له  يخبره أن عليه أن يشتري من لحم الذبيحة مثل باقي الناس، وإذا امتنع فسيعتبر ذلك إهانة له وتحديًا سيندم عليه.

انقسمت أعمال السرقة إلى نوعين في تلك الحقبة، الأولى دنيئة يحتقرها الناس مثل سرقة الدجاج وصغار الماعز، والأخرى خطيرة ولا يقدم عليها إلا الشجعان مثل سرقة الأبقار والجاموس وماكينات الري، والنفوس البشرية وإطلاق سراحها عقب تحصيل الفدية.

متى نحمل السلاح؟

في إحدى ليالي صيف العام 2012، وعقب مضي أكثر من عام تقريبًا على اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، كنت أقضي إجازة قصيرة في قريتي كوم العرب بمحافظة سوهاج (450 كيلومترًا جنوب القاهرة) قادمًا من الجيزة في الشمال حيث كنت أعمل فرد أمن في إحدى المنشآت السياحية.

شاهدت في تلك الليلة مشهدًا غريبًا واستثنائيًا لم أعتده حينما جلست على دِكَّة (مقعد خشبي طويل منتشر في قرى الصعيد) بجوار معازيم فرح أحد أبناء قريتي، حيث كنت قادرًا من مكاني أن أحصي ما لا يقل عن 12 بندقية آلية موزعة بين أيادي وأكتاف الحضور، وهو أمر غريب على قرية هادئة يبلغ عدد سكانها نحو 20 ألف نسمة، ورغم ذلك لم أشهد في عمري المتجاوز للعشرين عامًا بقليل وقتها سوى واقعة قتل واحدة بسبب الثأر.

الأكثر غرابة حدث لاحقًا حين بدأ أحدهم إطلاق النار من سلاحه، فشجع آخرين على ذلك ليتسببوا في قطع أسلاك الكهرباء الممتدة بطول شوارع القرية والمشدودة بأعمدة الإنارة، والتي سقطت فجأة على رؤوسنا فهرولنا في شتى الاتجاهات خشية الموت صعقًا.

انتهى المشهد بابتسامات وضحكات وبعض التأفف، وأنقذ حفل الزفاف وجود مولد كهربائي احتياطي أدى الغرض لحين وصول عامل الصيانة الذي أعاد توصيل الأسلاك المبتورة.

فضح المشهد في المجمل حداثة عهد حاملي السلاح الجدد بقواعد إطلاق النار في الأفراح والتي شاهدت أقصى درجات الالتزام بها في قرى أخرى يتمتع أهلها بخبرة قديمة في التعامل مع السلاح.

في أعقاب ثورة 25 يناير وما تبعها من انفلات أمني، شهد الصعيد ارتفاعًا للطلب على اقتناء السلاح غير الشرعي أو غير المرخص لسد الفجوة الأمنية التي خلقها انسحاب الشرطة المفاجئ وقتها.

استغل كل صاحب ثأر قديم الفرصة وأنجز المهمة المؤجلة منذ سنوات، وانخفضت أسعار بيع السلاح إلى أكثر من النصف بفضل موجات السلاح المنهوب من مخازن نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي والتي تدفقت على مصر وقتها ليصل ثمن البندقية الكلاشينكوف الآلية إلى 10 آلاف تقريبًا.

مع زيادة حوادث القتل والسرقة تمكن الخوف من الجميع وباتت الحاجة للسلاح ضرورة ملحة تقتضي التخلي عن العادات القديمة، حيث باتت قرية "هادئة" مثل قريتنا ملاصقة تقريبًا لقسم الشرطة مضطرة إلى حمل السلاح مثل غيرها من القرى المنسية "المحدوفة" على أطراف العمار في حضن الجبل الشرقي أو الغربي.


اقرأ أيضًا: حكايات الأبطال الشعبيين في مواجهة السلطة

 


كمين أمني.. وتحايل مضاد

"محمد. ش"، 32 عامًا، عامل دهانات، مقيم بقرية كوم العرب بمركز طما في سوهاج (450 كيلومترًا جنوب القاهرة). يتمكن بحكم طبيعة عمله من دخول بيوت كثيرة في عدة قرى داخل المركز الذي يضم 35 قرية، إلى جانب تمتعه بعلاقات صداقة مع عدد كبير من المعارف خارج قريته تسمح له بحضور مختلف المناسبات الاجتماعية.

يحكي للمنصة "في إحدى مرات عملي خارج كوم العرب، لاحظت أن صاحب المنزل يحرص على شرب الشاي الثقيل، فسألته عن السبب، فأخبرني أنه لا يحب الشاي لكنه مضطر لذلك حتى يتمكن من السهر ليلًا أثناء دورية حراسة المنزل التي تجري بالتناوب بينه وبين شقيقه خشية التعرض لهجوم مباغت من أصحاب ثأر، وشاهدت على سطح المنزل برجي حراسة مثل الأبراج المزروعة في أسوار أقسام الشرطة والمنشآت العسكرية، يستخدمها أهل المنزل في تأمين أنفسهم أو صد أي عدوان".

ربما تراجع عدد الحالات المماثلة لحالة صاحب برجي الحراسة بعد مضي نحو خمس سنوات عليها، أيضًا اختفت تقريبًا ظاهرة حمل السلاح واستخدامه في المشاجرات أو المناسبات السعيدة بسبب اشتداد القبضة الأمنية، وإصرار الشرطة على تقديم طرفي أي شجار لبندقيتي كلاشينكوف (يصل سعر الواحدة لنحو 30 ألف جنيه مصري تقريبًا) أو خرطوش (يتراوح سعرها بين 7 و12 ألف جنيه) حتى لو لم يحدث إطلاق نار في الشجار، وهو عقاب عرفي، وليس رسميًا ولا يجري إثبات الأمر في المحاضر الرسمية.

تعتبر قوات الأمن تسليم السلاح نوعًا من "التأديب" وبديلًا عن حملات التفتيش التي تفشل في الغالب، إما بسبب تسريب أنباء الحملة من داخل أقسام الشرطة حيث يوجد أمناء شرطة ومخبرون من أبناء عمومة ومعارف سكان القرى والمناطق المستهدفة بحملات التفتيش، أو بسبب خبرة الأهالي الكبيرة في تخزين الأسلحة بعيدًا عن متناول الزوار المفاجئين.

بعض العائلات اتفق أفرادها على توزيع الأعباء المالية لتسليم السلاح إلى قسم الشرطة عليهم بالتساوي، بحسب ما يرويه محمد "حتى يتمكن أي فرد من العائلة في تسليم سلاح لضباط المباحث في حال تورط في مشاجرة وفي الوقت نفسه يتمكن من الاحتفاظ بسلاحه الأساسي الذي يشكل إلى جوار غيره من أسلحة باقي الأفراد القوة الإجمالية للعائلة، ما يضمن لها تفوقها ومكانتها بين باقي العائلات".

قبضة أمنية تزداد إحكامًا.. وفقر يتفاقم

"لا يوجد لدينا مكتب بريد، ولا معهد أزهري، ولا أي خدمات تعليمية، فما الذي تنتظره من أناس ليس لديهم أي خدمات؟ لكن لو كان في بلدنا مركز شباب ومعاهد أزهرية ومدارس ثانوية وإعدادية حتمًا سيتغير تفكير الناس، ولن يكون حمل السلاح الطريقة الوحيدة لحل الخلافات، مبنى الوحدة الصحية مهجور ومرعى للمواشي، والطرق من دون إنارة، لدينا أطباء وأساتذة جامعات لكن عددهم قليل جدًا بحيث يضعف تأثيرهم في فكر الناس هنا، ينقصنا فقط نظرة اهتمام من الدولة".

الاقتباس السابق هو إعادة صياغة لما قاله نجل "خط الصعيد" نوفل سعد الدين، ابن قرية حمرا دوم في قنا، الذي جرى تصفيته في 2007 بعد اشتباك مع قوات الأمن. قال نجل نوفل هذا الكلام في فيديو على يوتيوب يشرح فيه أحوال قريته بعد تدخلات رسمية لفرض السيطرة الأمنية على دائرة الدم والنار الشهيرة في قنا.

منذ الشهور الأخيرة في العام 2012، وعلى مدى 5 سنوات لاحقة، شنَّت وزارة الداخلية وبتنسيق مع القوات المسلحة عدة حملات أمنية على قرى حمرا دوم في قنا والعتامنة في سوهاج وعدة قرى بمركز البداري في أسيوط ملاصقة للجبل الشرقي، أسفرت عن ضبط أسلحة ومطلوبين أمنيًا، وهي جرأة أمنية كبيرة جدًا، لأن هذه القرى كانت تشبه حلقات النار التي يستحيل اختراقها أو الاقتراب منها.

ووفق إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تتصدر محافظتا أسيوط وسوهاج قائمة المحافظات المصرية الأكثر فقرًا، حيث احتلت أسيوط المرتبة الأولى بنسبة 66.7%، تلتها محافظة سوهاج بنسبة 59.6%، ثم الأقصر بنسبة 55.3%، ويعجز 51.9% من سكان ريف الوجه القبلي، عن تلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغيره.

في الأخير تتزايد قوة إحكام القبضة الأمنية كتجلٍّ أساسي للحضور الرسمي للدولة في الصعيد، بينما يغيب أو يبهت حضورها الناعم المتمثِّل في الخدمات الأساسية والتعليم والصحة والثقافة، فتكون النتيجة مجتمع مقموع مسلح سهل الاشتعال وقابل للانفجار في صورة صدامات عنيفة ودموية بين الأفراد أو الجماعات، لأسباب تتعلق بالتنافس على الموارد الاقتصادية المحدودة أو لأسباب طائفية أو لأسباب مركبة من الاثنين.    


* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر    


المصادر:

(1) عادل سعد - رواية الأسايطة عن دار روافد للنشر والتوزيع، صـ 76.

(2) زينب أبو المجد - إمبراطوريات متخيلة صـ 174 - المركز القومي للترجمة 2018.

(3) المرجع السابق صـ 97.

(4) العرب البدو في مصر - عبد المجيد لطفي - مكتبة هنداوي الإلكترونية.

(5) المرجع السابق.

(6) من قضى على السخرة في مصر، ولماذا؟ - ناثان براون - مركز نماء للبحوث والدراسات.

(7) هنري عيروط - الفلاحون - الجامعة الأمريكية في بيروت - صـ 141.

(8) صبري أبو المجد: سنوات ما قبل الثورة 1930 - 1952 - صـ 159.

(9) هنري عيروط - الفلاحون - الجامعة الأمريكية في بيروت - صـ61.

(10) البوليس المصري  (1922 - 1952)- عبد الوهاب بكر - مكتبة مدبولي - صـ173.

(11) محمد رجب النجار - الشطار والعيارين - سلسلة عالم المعرفة العدد 45 - صـ 6.