ويكيبديا
بيني وايز "المهرج القاتل"

لماذا ترتبط صورة المهرج بجرائم القتل؟

منشور الخميس 24 أكتوبر 2019

يبحث داني دي بلاسيدو الصحفي المتخصص في التلفزيون والسينما والثقافة الشعبية على صفحات موقع فوربس، في هذا المقال الذي تنشره المنصة مترجمًا بإذن خاص من الكاتب، في الأصول الثقافية والاجتماعية للارتباط الدائم بين المهرجين وجرائم القتل. 


تحكي رواية الشيء لستيفن كينج عن كائن متحول، كيان من العالم الآخر، يتصيد الأطفال مستخدمًا أسوأ مخاوفهم، يتخذ ذلك الكيان في غالبية أحواله شكل مهرج راقص اسمه بيني وايز.

قرر كينج استخدام شخصية المهرج كبطل لروايته بعد أن سأل نفسه "ما هو أكثر ما يخيف الأطفال في العالم؟". كان كينج محقًا في اختياره بالطبع، غير أن تصريحه عن سبب استخدامه لشخصية المهرج يحمل بعض التناقض، ذلك أن بيني وايز في الرواية اعتاد على استخدام هيئة المهرج لجذب الأطفال عوضًا عن إخافتهم بمظهره.

تعود فترة الفلاش باك في الرواية إلى زمن الخمسينات، حيث كانت شخصية المهرج ما تزال تحمل تأثيرًا محببًا لدى الأطفال في الولايات المتحدة. كان المهرج بوزو يبدو مخيفًا للغاية، إلا أن هيئته المرعبة تلك لم تكن مقصودة على الإطلاق، وحاز شهرة واسعة جدًا في الستينات.

 

المهرّج بوزو، صورة من ويكيبيديا

مازال بوزو يغذّي نفس التأثير اللطيف حين يتصادف عرضه في التلفاز هذه الأيام، حتى مع سمعة المهرج المخيف التي أثارها بيني وايز في العصر الحديث، حيث أن الجمهور في زمننا الحالي لا يستطيع سوى تخيل المهرّج في حالته المخيفة التي انطبعت في الوعي الشعبي بسبب شخصيات مثل بيني وايز، والجوكر، الصورة المزعجة الشريرة المناهضة لصورة المهرّج المحبوب.

في إحدى إعلانات سلسلة ماكدونالدز القديمة على اليوتيوب، يتحدث رونالد مكدونالد إلى المشاهدين من الأطفال بذات سلوك بيني وايز، حيث يقوم رونالد بإغراء الأطفال لزيارة مطعمه، بوعود بالكثير من شطائر الهامبرجر والبلالين، مع وعد أثير "سوف تطفو مثلي". 

 

رونالد مكدونالد في زي المهرّج التقليدي بألوانه الصاخبة وحذائه الضخم من أحد فروع مطعمه - صورة من ويكيبديا 

في الحقيقة، لا أعتقد أن المشهد الرمزي للطفل بطل الفيلم الأمريكي IT المقتبس عن رواية كينج الشيء، وهو يحاول التقاط مركبه الورقي كان موظفًا بشكل جيد، ذلك أن رؤية المهرّج داخل المجارير من شأنها أن تدفع الأطفال المستهدفين من بيني وايز إلى البكاء حزنًا بدلًا من الرعب. لكنني أرى أن الربط ما بين شخصية مقدم الخدمة الترفيهية والخاطف تبدو معقولة للغاية، وهو المبدأ الذي أصّلت له حكاية عازف المزمار من هيملن.

 

الملصق الدعائي لفيلم الشيء المأخوذ عن رواية ستيفن كينج

لكن دعونا نسأل، متى بدأت صورة المهرج في التحول إلى ذلك النمط المخيف في وعي الشعوب؟ وهل تسبب ستيفن كينج حقًا في تزكية تلك الفكرة وقتل صورة المهرج الودود؟ أم أنه كان فقط يتتبع آثار خوف ما انغرز في العقول سابقًا؟

لنعد إلى البداية..

مهرّج البلاط

 

مهرّج البلاط - الصورة عبر Pixapay، برخصة المشاع الإبداعي

احتل مهرّج البلاط الملكي في القرون الوسطى مكانة هامة داخل القصر، كوسيلة لتخفيف الضغط على الملك وحاشيته. يتشارك مهرّج البلاط وكوميديانات العصر الحديث سمة مميزة، وهي القدرة على قول الحقيقة، وحرية السخرية من الملك والأوضاع السياسية دون خوف من أي عواقب أو تداعيات.

كان مهرجو البلاط في ذلك الزمن غالبًا ما يعانون من إعاقة ذهنية أو جسدية، ولنتخيل إذن الصورة المضطربة التي قد تتكون في الأذهان عن أشخاص بهذا الوصف، بينما من المفترض أن مهنتهم الرئيسية هي إثارة الضحك والهزر، ومن ذلك ما نجد على سبيل المثال في شخصية بانش في مسرحية العرائس الشعبية الشهيرة بانش وجودي، وهي الشخصية التي كانت غالبا ما تظهر على المسرح كرجل معاق أحدب.

على الرغم من احتمالية أن يكون كل ما وصل إلينا عن قدرة المهرجين على قول الحقيقة الخالصة ما هو إلا نوع من المجازات والمبالغات، غير أن ارتباط شخصية مهرج البلاط بفكرة كسر القواعد والضجة المصاحبة لها لم تختف أبدًا من ذاكرة الحكي.

المساعد الهزليّ

 

المساعد الهزلي في زيّه التقليدي ذو المربعات - الصورة عبر Pixapay، برخصة المشاع الإبداعي

تواترت على تراث المسرح الإيطالي القديم مجموعة من الشخصيات التي كان يعاد استخدامها في القص والحكي بشكل مختلف في كل مرّة، وقد تغيرت شخصياتهم ودواعي ظهورهم على مجرى الزمن، كالأبطال الخارقين الذين ما انفكّت قدراتهم تتجدد وتتحور بمرور الأيام.

كان المساعد الهزلي في التراث الإيطالي هو النموذج الأصلي لشخصية المحتال، محب الفوضى الذي كانت مهمته الأساسية هي زعزعة الاستقرار، تمامًا كشخصية الجوكر التي لعبها هيث ليدجر. غير أن شخصية "المساعد الهزلي" كانت مسالمة بدرجة ما ولا تحوي أفعالها أي درجة من الخطورة أو التهديد.

تطورت صورة المساعد الهزلي فيما بعد حتى وصلت إلى فكرة "المهرج" الذي صار أحمقَ متخبطًا بعد أن كان محتالًا ماكرًا.

أعاد جوزيف جريمالدي مقدم العروض الشهير تعريف تلك الفكرة، وألبسها الصورة الرمزية النمطية ذات الوجه المطلي بالأبيض والملامح الملونة التي اعتمدتها شخصية بيني وايز في الفيلم. كانت هيئة المهرج تلك قد اخترعت في الأصل لتسليط الضوء  على ملامحه بينما يقف على المسرح خافت الإضاءة، ليسمح للمتفرجين في الصفوف البعيدة برؤية تعبيرات وجهه، اعتمدت تلك الهيئة بعد ذلك كصورة رسمية لشخصية المهرج.

 

فيما بعد، انحسرت الصورة الفردية الثابتة تلك، وألهمت شخصية جريمالدي عددًا لا نهائي من النسخ المتعددة للمهرج، طوّرها كل من قرر اتخاذها مهنة، واخترع كل منهم مقالبه وهيئته الخاصة، حتى وصلنا للصورة الحديثة المتداولة عن المهرج.

غير أن المفارقة المزعجة لم تتخلَّ عن تاريخ الشخصية للأسف؛ فمات جوزيف جريمالدي فقيرًا مدمنًا للكحوليات، في دليل على أن الصورة النمطية للكوميديانات المصابين بالاكتئاب المزمن هي صورة ثابتة وقديمة قدم تاريخ ظهور الكوميديا نفسها.

المهرج القاتل

 

تيم كاري في دور بيني وايز في النسخة الأصلية من الفيلم المقتبس عن قصة ستيفن كينج - 1990 - الصورة عبر ويكيبيديا 

مع انحسار الاهتمام بالسيرك وقلة ارتياده من قبل الجمهور، أصبح المهرج مقدم خدمات ترفيهية للأطفال بدوام كامل، وصار له دور أساسي في كل حفلات عيد الميلاد، وبرامج التلفزيون الموجهة لجمهور الأطفال.

أما طلاء الوجه المُعَد في الأصل لمنح بُعد مبالغ فيه لتعبيرات الوجه لتسهل رؤيتها عن بعد، فأصبح الآن يُرى عن قرب في الحفلات، الأمر الذي منح لوجه المهرج إطلالة شريرة تختفي وراء قناع الطلاء. وصل الارتباط الشرطي بين الوجه الأبيض الباعث على القلق وزيادة أعداد الخاطفين والقاتلين المتسلسلين في بداية السبعينات إلى ذروته بظهور جون واين جايسي.

اغتصب جايسي وعذب وقتل ما لا يقل عن 33 شخصًا ما بين مراهقين وشباب صغير، وقد تصادف أن جايسي كان يقضي معظم وقته في العمل كمهرج ومقدم خدمات ترفيهية للأطفال في الحفلات، متنكرًا في انعكاس شخصيته الأخرى الدالّة بقدر ما؛ "المهرّج بوجو".

 

السفّاح والمهرّج: جايسي بشخصيتيه؛ الحقيقية والأخرى المختفية خلف قناع بوجو - الصورة عبر ويكيميديا

تحطم كيان "المهرج البريء" رسميّا بفعل صورة المهرّج المغتصب القاتل، وقد صدرت رواية الشيء لستيفن كينج بعد ست سنوات من محاكمة جايسي لتمنح الضربة القاضية لسمعة المهرّج التقليدية كالأحمق الودود.

ناهيك عن الإعجاب المطلق الذي حازته نسخة المهرج الدرامية، الجوكر وبيني وايز، الأمر الذي يؤكد أن صورة المهرج القاتل قد رسخت بالفعل في الأذهان وصارت أكثر رسمية من صورته الودودة النمطية القديمة.

وهنا أتساءل إن كان هذا هو الوقت المناسب لظهور محاولات سينمائية حديثة قد تهدف لإظهار نسخة المهرّج اللطيفة والسعيدة والمرحة بلا سخرية مقيتة، خاصة بعد أن احتلت النسخة المرعبة النقيض تاريخ السينما لسنوات طالت. نعلم على كل حال، أن المهرج كان رمزًا دائمًا للفوضى والمعارضة، غير أن تلك الصورة يمكن تقديمها دون منحها الطابع الشرير الواضح المعتاد.

وفيما يبدو أن تجسيد مارجوت روبي لشخصية هارلي كوين في فيلمها القادم بيردس أوف براي 2020 قد يعجّل بتحقيق هذه النيّة، خاصة بعد ان تمكنت في الأجزاء السابقة من سويسايد سكواد من إضفاء الجاذبية على شخصية المساعد الهزلي المهرّج.

من الواضح أن شخصية المهرّج التي خلقها جريمالدي ما تزال تتطور بلا نهاية، غير أن دواخلها المظلمة ومصائرها التعيسة لا تبدو انها ستفارقها في أي وقت قريب.