ويكيبيديا
لوحة زيتية لحي الغورية بالقاهرة لجون فريدريك لويس

فتوات ومطاريد: حكايات الأبطال الشعبيين في مواجهة السلطة

منشور الاثنين 29 يوليو 2019

عندما يغيب دور السلطة أو يحيد القانون عن العدل، يخلق الناس بديلًا أو قائدًا محليًا، يمثل لهم الحماية كما في حال الفتوات، أو يخلقون عنه حكايات البطولة، كما الحال مع بعض مطاريد الجبل واللصوص الذين حولهم اﻷدب الشعبي إلى أبطال.

لا يُعلم تحديدًا متى بدأ الناس ينظرون لبعض الخارجين عن القانون على أنهم أبطال، غير أن هذا اللقب اختص به الذين قاوموا ظلم السلطات، حسبما تروي الحكايات المتناثرة في قرى الصعيد، فينسب الناس إليهم من البطولة والشجاعة ما شاءوا، وينزهونهم عن أي شر أو ضعف.

أبطال ومجرمون "أولاد كار"

مثلما ظهر الصعاليك في العصر الجاهلي، قبل الإسلام، نقمة على المجتمع، ووجهوا تمردهم ضد النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم، فكانت النتيجة أنهم شطروا هم قبائلهم فأطلق عليهم شُطار، مثلما حدث ذلك في العصر الجاهلي، تكرر حدوثه أيضًا في العصور التي شهدت فسادًا سياسيًا واقتصاديًا، خاصة في القاهرة وبغداد.

تتطور المصطلحات والمفاهيم مع الزمن، لتأخذ معنى آخر يناسب الممارسات اليومية، مثلما حدث مع مصطلح "العصابة" الذي استخدم ليشير إلى زمرة المسلمين قبل الهجرة، طبقا لحديث نبوي شريف، ثم تحول ليشير إلى فئة المجرمين في الوقت الحالي، ونفس الأمر حدث مع مصطلح "فتوة".

مثلا "البلطجي" كانت تعني حامل البلطة (الفأس) باللغة التركية، وكان في عهد الدولة العثمانية يحمل بعض الجنود فأسًا ويتقدمون القوات الغازية ليشقوا الطريق أمام الجيوش، وحتى عصر محمد علي كانت قوات البلطجية موجودة في الجيش ولم تكن تحمل معنى سيئًا، لكن في الثلث الأول من القرن 20 أصبحت كلمة مرادفة للمجرم.

والواقع أن هناك علاقة بين نمو الجماعات الهامشية، ومنها اللصوصية والتلصص، وبين بعض طوائف الحرف، فبعض هذه الجماعات كونت طائفة لها رئيسها، مثل طائفة النشالين، والمناسر (اللصوص)، وارتبطت كل طائفة بحرفة وصنعة، حتى أطلق على اللص "ابن كار"، أي ابن صنعة.

ومنذ القرن الخامس عشر، ازدهرت حيل اللصوص وبدأت سير الخارجين عن القانون تشق طريقها وسط العامة، حتى أن شخصية أحمد الدنف، التي ظهرت في القرن الحادي عشر، استكملت نموها وتفاصيلها في العصر العثماني، وخلط الناس بينها وبين سيرة علي الزيبق بن حسن رأس الغول.

تقول الرواية الشعبية، التي يذكرها كتاب "ألف ليلة وليلة"، جنبًا إلى جنب مع سير أخرى مثل علي بابا والأربعين حرامي، إن علي الزيبق، هو لص مصري فاق أقرانه براعة وحيلة، حتى تولى دَرَكَ مصر (الشرطة)، في الوقت الذي كان الشعب ينظر إلى الجهاز الحاكم بأنه مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق، يتسابقون على السيطرة والنفوذ، حسب الرواية الشعبية غير الموثوق في صدقها.

لكن الكتابات التاريخية تقول إن على الزيبق، كان نشاطه في بغداد في حين أن أحمد الدنف كان يمارس نشاطه في القاهرة، والفارق بين الزيبق والدنف نحو 450 عامًا تقريبًا، لكن ذلك يتناقض مع الرواية الشعبية، التي جعلت الدنف بطلا بغداديًا وأستاذًا لعلي الزيبق الذي جعلته مصريًا، وهو ما اتفق أيضًا مع ما ذُكر في كتاب "ألف ليلة"، الذي لم تكن حكاياته اكتملت قبل عام 1450.

إلى جانب ذلك يبرز تناقض آخر في رواية الدنف بين ابن تغري بردي وابن إياس حول الدنف نفسه، إذا كان هو ابن حمدي أم أن الثالث شخص آخر، لكن الثابت تاريخيا أن الدنف قتل عام 1486. وابن حمدي هو لص، قاطع طريق كان يفرض إتاوات على السفن، لكن اشتهر بأخلاق الفرسان.

بشكل عام، هناك بعض الأحداث الرئيسية المتشابهة في سير البطل الذي يعيد الحق لأصحابه، ويصارع الأهوال ويعدل كفة الميزان حتى وإن تخطى القانون، مثلما يرى محمد رجب النجار في كتابه "البطل في الملاحم الشعبية".

حكايات الشطّار

وعلى نفس النهج، قارن جوزيف كامبل، في كتابه البطل ذو الألف وجه The Hero with a Thousand Face الذي طُبع لأول مرة عام 1949، بين قصص الأساطير القديمة وقصص الأساطير الحديثة، ليجد أن دورة حياة البطل تكاد تكون واحدة، مع بعض الأحداث الرئيسية المتشابهة، مثل؛ مرحلة المغامر، وتلقي رسالة غامضة، بزوغ نجم البطل إثر موقف صعب، ليظهر البطل الذي يحل الألغاز، ويهرب من الفخاخ، ويواجه أكبر المحن وأسوأ المخاوف وأخطرها. 

يرى محمد النجار في كتابه حكايات الشطار والعيارين، أن هؤلاء الأبطال جمع بينهم  أمران؛ الأول الانتماء إلى دائرة اجتماعية معينة منبوذة طبقيًا واجتماعيًا، والثاني أنها تعيش البطولة خارج القانون، أو هم دائمًا في حالة صراع مع هذا المجتمع الذي لفظهم.

كانت تلك الطبقات بهذا السلوك، تاريخيًا وفنيًا، تهدف إلى إدانة عصر بعينه، والثورة على طبقات بعينها، وقُدّر لها، في ظل ظروف استثنائية، الاستئثار لنفسها بالسلطة أو المال وربما الجمع بينهما، ومن الطبيعي أن يكون لهذا التمرد دوافع اجتماعية واقتصادية، خاصة في عصور التمزق السياسي.

فتوات المحروسة

يقول النجار إن مولد الفتوة في مصر بشكل رسمي تزامن مع ميلاد دولة المماليك، فعندما انتقلت الخلافة العباسية إلى القاهرة بشكل صوري عام 1261، ألبس الخليفة العباسي المستنصر بالله، ثياب الفتوة للملك الظاهرة بيبرس "سراويل الفتوة"، وما لبث الأمر أن روّج له على نحو صوفي، ودرج سلاطين المماليك فيما بعد حتى القرن الرابع عشر على منح ثوب الفتونة للأمراء والأعيان.

على جانب آخر، خلال العصرين المملوكي والعثماني، تتناول المصادر التاريخية، عدة أحداث عن الجماعات الشعبية المسلحة، التي أطلق عليهم الزعار، والذين كانوا أحد الفئات التي تقع تحت عباءة الحرافيش.

وفي عام 1481 أنشأ الأمير المملوكي يشبك الدوادار القبة الفداوية في القاهرة، ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت مقرًا لاجتماعات الفتوات، ولم تتمكن أي حكومة من كسر شوكتهم، بل على العكس كان يلجأ الحكام إليهم أحيانًا في الحروب وفي المنازعات على السلطة، إلى أن تولى محمد علي، فطردهم وشرّدهم.

وعندما اشتعلت ثورة القاهرة الأولى عام 1798 ضد الحملة الفرنسية، كانت أحياء القاهرة تخضع لسلطة الفتوات الذين حازوا أيضًا لقب "أولاد البلد"، وأظهروا مقاومة باسلة ضد الحملة الفرنسية في تلك الثورة والتي تلتها (ثورة القاهرة الثانية).

يذكر علي مبارك في الخطط التوفيقية أن نابليون كان يضيق بهؤلاء الفتوات ذرعًا بسبب كثرة الشغب والمقاومة ضد جنوده، حتى أطلق عليهم الحشاشين البطالين، وعندما دكت مدافع الفرنسيين القاهرة، تراجع الجنود المماليك وتقدم الفتوات.

أما الجبرتي فيروي أن بعض العوام والحرافيش والجماعات المتلصصة كانوا يبيتون في القرافات وأسفل المقطم، وقرب الإمام الشافعي والسيدة زينب، وفي زمن الحملة الفرنسية تحولت تلك القرافات إلى أماكن يتحصن فيها بعض الثائرين الذين انطلقوا من الحارات الجوانية والحسينية، التي كانت معقل الثوار، وكان بعضهم من الشرائح الاجتماعية المسحوقة.

عن الزُعّار والمشاديد

ويتناول الجبرتي الحديث عن كفر الطماعين، وعن الزعّار الذين كان بعض أمراء المماليك يستعينون بهم لحمايتهم ومساندتهم، وأطلق على هؤلاء الفتوات "المشاديد"، والمشاديد كما يفسرها المستشرق الهولندي رينهارت دوزي في "تكملة المعاجم العربي"، هو الرجل المسلّح المستأجر من قبل شخص آخر، وكان المماليك وبعض الأعيان يستأجرون هؤلاء المشاديد للزود عنهم والدفاع عن أملاكهم.

وفي أواخر القرن 19 كان فتوات الأحياء يتنازعون السيطرة والنفوذ على القاهرة، وعلى يدهم ظهرت فنون "الخناق"، الذي كان يعد ضربا من الفروسية، ويذكر الدكتور ياسر ثابت، في كتابه فتوات وأفندية أن تقاليد الفتوات كانت ترى أن السجن عندهم لذوي المروءة، وربما يعود إليهم المثل القائل "السجن للجدعان"، وهو الأمر الذي أزال عنهم رهبة العقاب.

يرى الدكتور سيد عشماوي في كتابه الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الحديث أن الفتوة  ظهرت محصلة لظروف وأوضاع المجتمع السياسية والاقتصادية، خاصة أواخر العصر المملوكي حتى بدايات عصر محمد علي، الذي استطاع أن يحجم تلك الظاهرة بقوة القانون.

عاودت  ظاهرة الفتوات للازدهار مرة أخرى،  مع نمو الجماعات الهامشية وانهيار نظام الطوائف، وفي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين كانت الشرطة المصرية تستعين بالفتوات للقبض على اللصوص والخارجين عن القانون، حتى وقعت مذبحة بين فتوات حي الحسينية وحي القبيسي، فقررت الشرطة قمع الفتونة، وكانت تلك النهاية، بحسب الدكتور ياسر ثابت في كتابه فتوات وأفندية.

 حكايات الأبطال

عندما حل عقد التسعينيات أقدم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك على تحرير الاقتصاد المصري، وهو ما عانى منه أهل الصعيد مع غيرهم في شمال مصر، فضلا عن تهميش الدولة المركزية للصعيد، عاد يصيبهم بالفقر المدقع أكثر من غيرهم، فكان أن استعاد الصعيد ذاكرته القريبة والبعيدة عن أفاعيل الاحتجاج وعاد مطاريد الجبل يقضّون مضاجع السلطات الأمنية، بل أن الأمن استخدم بعض الخارجين عن القانون والمطاريد لملاحقة العناصر الإرهابية بداية التسعينيات، ما منحهم شرعية زائفة.

عبد العال خيامي، يشارف عمره على السبعين، من مركز دار السلام جنوبي سوهاج، يتذكر ليالي الشتاء الباردة في الستينيات التي كانت تجمع الناس أمام مواقد النيران يستمعون لحجاوي "حكايات" الأبطال: أبو زيد الهلالي وأدهم الشرقاوي ومتولي الجرجاوي، بل كان الناس يتهادون تلك الروايات مطبوعة أو مسجلة على شرائط كاسيت.

يقول خيامي للمنصّة إن أكثر الروايات التي انتشرت بين الناس كانت شفيقة ومتولي ربما للقرب الجغرافي، ومع أن الرواية التي كتبها شاعر مجهول، واشتهرت على يد الريس حفني، يراها بعض الناس أنها تحمل تجريحًا ويٌعير بها أهل جرجا أحيانًا، إلا أن الجرجاوية دائما يردون "كل بلد فيها شفيقة، لكن مفيش بلد فيها متولي".

كانت البغي، وما زالت، منبوذة في المجتمع الشعبي لذا فهي تقطع كل خيط يربطها بماضيها وأصولها، فتغير اسمها وعاداتها، من أجل ذلك يصبح قتلها أمرًا مسلّمًا به، لأن محو العار في الصعيد "يثاب فاعله ويُلام ويعيّر تاركه".

يروي خيامي أن بحلول الثمانينيات والتسعينيات كان في كل منطقة تقريبًا أحد الهجّامة، أو مطاريد الجبل، أو قاطعي الطرق، بعضهم كان ينتقي ضحيته بعناية "كانوا يقصدون الأغنياء، ودول من أمثلتهم شعيب، ومصطفى هاشم ونوفل" هؤلاء كان الناس يرونهم أبطالا.

يتابع أن بعضهم الآخر كانوا لا يفرقون بين أحد، مثل "عِيال غدّار"، وهم تشكيل من 3 أشقاء بينهم امرأة، وكانت لهم صولات كثيرة في السرقة والسطو خلال الثمانينيات، وكانوا يستهدفون السيارات على الخط السريع بين سوهاج وقنا، لكن نهايتهم كانت على يد الأهالي، حسب قوله.

أما المتمردون على السلطة، الذين احترفوا اللصوصية وقطع الطريق، كانوا يحظون بهيبة اجتماعية وحب الناس، وكانت لهم آداب وأخلاق غريبة، منها أنك إذا ألقيت على أحد منهم السلام، آمنت شره، وإذا قصدت أحدهم في حاجة سعى في قضائها، وإذا استنجدتهم أغاثوك، ولا يسطون على امرأة ولا أرملة، ولا بيت "صاحبه غايب".

فلول الثوار.. مطاريد الجبل

 منذ بداية العصر المملوكي في مصر، ظهرت ثورات العربان المتطلعين لحكم المحروسة، سعت تلك القبائل لإعاقة حكم المماليك، وفي عام 1253 كانت الثورة الأهم لعرب الصعيد، تحت قيادة الأمير حصن الدين ثعلب، الذي اتخذ شعارا أنه وثواره أصحاب البلد، وما المماليك إلا عبيد، بحسب بحث للدكتورة نجلاء مصطفى عبد الله محمد شيحة، أستاذة تاريخ العصور الوسطى، بجامعة بني سويف.

لكن تلك الثورة فشلت مثل التي تلتها، وفي كل مرة يواجه المماليك هبات أو ثورات كانوا يقمعونها بالعنف والقسوة، فكان الثوار يفرون إلى الجبال والصحاري، ومن هنا ظهر مطاريد الجبل، الذين يغيرون على القرى بين فترة وأخرى طمعا في الطعام والزاد، وقد يُستأجرون لتنفيذ عمليات إجرامية.

بحسب الدكتورة هدى جابر في كتابها البشر والحجر- القاهرة في القرن 16 فقد شهدت القاهرة عدة اضطرابات منذ أوائل العصر العثماني، كان من ضمنها العداء بين الدولة والمتمردين، الذي نجم عن الانهيارات المتلاحقة للاقتصاد آنذاك، فضلا عن تدهور مركز الدولة السياسي، وكانت تلك الاضطرابات تتكرر بشكل شبه سنوي، حتى ظهر قانون نامه عام 1524، ليركن المتمردون إلى الهدوء حتى الربع الأخير من ذات القرن.

الدولة والعربان

تتابع جابر أن القاهرة كانت تتعرض لعدد من هجمات العربان الذين انتشروا في المناطق الصحراوية بالقاهرة، مسببين قلقًا للإدارة العثمانية، وتركزت تلك الهجمات على ضواحي المدينة، ولمواجهة هذا الأمر، بدأت الإدارة إرسال الحملات المتكررة لمطاردتهم وصد خطرهم عن المدينة.

كانت الدولة تلجأ إلى العربان وتمنحهم بعض السلطة لصد تلك الهجمات، فاستعانت بهم في أعمال الخفارة لحماية الريف والدروب السلطانية، كما سمحت للعربان المقيمين بأطراف القاهرة بالانضمام إلى الدَرَك (الشُرطة)، إلى حين إنشاء مناطق سكنية وعمرانية جديدة تعمل كمصدات ضد هجمات العربان غير المتحالفين مع الدولة.

ويبدو أن قبائل العربان كانت تمرست تلك المهنة، فتنقل الباحثة إيفيليز بيرنار، في كتابها الشرق في القرن السادس عشر، أن ساكني الصحارى من العربان كانوا يعيشون على الإغارة ورعي الحيوانات، ما منحهم صفات جسدية قوية، فضلًا عن الملابس التي تعينهم على حمل السلاح والقتال.

وعقب انهيار دولة شيخ العرب همام في الصعيد، قلص المماليك المبالغ المدفوعة لعرب العبابدة الذين كانوا يتحصلون عليها من أجل حماية القرى وطرق التجارة، فرد العبابدة بهجمات قوية ضد المسافرين، إلى جانب حربهم الشاملة ضد المماليك.

الأكاديمية المتخصصة في تاريخ مصر الاجتماعي، الدكتورة زينب أبو المجد، ترى أن المطاريد هم بقايا الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تنشب بين فترة وأخرى، ومع ذلك لا يمكن أن نطلق عليهم إلا اسم مجرمين، خاصة أن  بعض الخارجين عن القانون انضموا إليهم.

تشرح أبو المجد للمنصة أن تتبع جذور كل مجموعة وطريقة تشكلها تقود دائما إلى وجود قمع اقتصادي، الذي يتبعه هبات اجتماعية، ومن ثم ينسلخ بعض الأشخاص عن عباءة الدولة، ويستقر في منفاه الاختياري في الجبل.

تمرّد الصعيد

في كتابها إمبراطوريات متخيلة، توثق أبو المجد أحداثًا عدة للتمردات في صعيد مصر، فبين عامي 1820 حتى 1824 اندلعت سلسلة غير مسبوقة من التمردات جنوبي مصر، بهدف إسقاط النظام، قادها الشيخ أحمد الطيب، وأول وأكبر هذه الثورات كان عندما حشد 40 ألفًا من مؤيديه من الفلاحين وشيوخ العائلات في مسقط رأسه قرية السليمية، معلنًا الجهاد ضد محمد علي.

سرعان ما أرسل محمد علي تجريدة عسكرية دمرت المنازل والبيوت وقضت على أكثر من 4 آلاف ثائر وهرب كثيرون تجاه الجبل، وعندما بدأت إمبراطورية محمد علي تنهار، كانت هيمنته على الصعيد تبدأ في الأفول، وفي أيام الباشا الأخيرة كان الصعيد يموج بالحركات الانفصالية والعصيان بشكل يومي.

في تلك الأثناء، لعب دور البطولة المزارعون والعمال والعبيد، جنبا إلى جنب مع مطاريد الجبل الذين أقضوا مضجع الباشا لسنوات، فقد اتخذت المقاومة أشكالا عنيفة، خاصة تلك التي تبنتها عصابات المطاريد.

تنقل أبو المجد أن جرائم قطع الطريق تطورت لتتحول إلى أعمال مقاومة جماعية، وخلال تلك الفترة ظهرت عصابات الفلاتية، كما شُكلت مجموعات خارجة عن القانون في كل قرية لمهاجمة الحكومة وإرهاب المسؤولين وحرمان الفئات الحاكمة من النوم هانئة.

بناء على ذلك، عقدت الحكومة اجتماعا موسعا عام 1846 ضم كل المديرين ورؤساء الأقسام وشيوخ القرى للتعهد بإطلاق النار على أي فلاتي والقبض عليهم أحياء أو أمواتًا، وكان مصير الفلاتي الصلب أو الإرسال إلى ليمان الإسكندرية لأداء الاشغال العمومية في إنشاء الميناء.

خلال تلك الفترة كان هريدي الرجيل هو أشهر فلاتي أقض مضجع الحكومة، وكانت عصابته تستهدف أملاك كبار المسؤولين، وتسرق الأبقار والحمير لبيعها وشراء بنادق وذخيرة. كان مجرد ذكر اسمه يلقي الرعب في قلوب شيوخ القرى الذين لا يجرؤون على الاقتراب منه أو من رجاله للقبض عليهم.

وفي عام 1883، صدر أول قانون مصري للعقوبات، مستمدا أحكامه من القانون الفرنسي "كود نابليون" الصادر 1804، وظل معمولا به لمدة 20 عامًا، إلى أن عُدل في 1904 ثم 1913 ثم 1937 لمسايرة التطور الإجرامي، حسبما تنقل الدكتورة آمنة حجازي في كتابها الجريمة في مصر.

أولاد الليل 

في قرى الصعيد، كانت بعض القبائل الأقوى تمارس السيطرة على العائلات الأقل عددًا والأكثر ضعفًا، وتضع نفسها ميزان عدل أمام أي طغيان يقع على تلك الفئات المستضعفة، مستخدمين الإجرام.

 يروي أحدهم للمنصة (فضّل إخفاء هويته) أنه سليل عائلة "عريقة" كانت "تكسر عين الكبير في أي بلد"، احترف أجداده السرقة كرهًا، والقتل عمدًا، والبلطجة دون خوف، كل ذلك في سبيل نصرة الضعيف ورد المظالم.

تذكرنا تلك الرواية التي انتهت آثارها منذ عقود، بكتاب نُشر  نهاية القرن 17 اسمه "هز القحوف في شرح قصيدة أبو شادوف"، مصنف شعبي وضعه الشيخ يوسف الشربيني (رحل 1686م) عن حياة الفلاح ومعاناته، ولم ينس أن يحدثنا عن تعصب الفلاحين وانقسامهم بين قبيلة سعد وقبيلة حرام.

كانت القبيلتان من العربان الذين لا يعرفون قانونًا، يعيثون في الأرض فسادًا، وإذا أرسل لهم الحكام القوات، فروا منها إلى الجبال.

في مقال منشور بمجلة الثقافة في عددها الشهري مارس 1982، ينقل الشاعر الكبير طاهر أبو فاشا (1908-1989) عن المؤرخ أحمد أمين (1886- 1954)، أن قبيلة حرام كانت الأشهر في عالم السرقة آنذاك، حتى أصبح كل لص ينسب إليها فيقال عنه "حرامي"، من هنا أصبح المصطلح (حرامي) بديل مناسب لكلمة "لص".

الروائي خالد إسماعيل، هو أحد الذين يستلهمون رواياتهم من تراث الصعيد، يضع تفسيرًا لتلك الظاهرة، التي ظلت مستمرة حتى الأربعينيات أو الخمسينيات، يقول إن القبائل البدوية التي أطلق عليها "العربان" أو "العرب"، كانت تقطن الصحاري، وتعودت الإغارة على الفلاحين المستقرين في وادي النيل، وفي عصر محمد علي، جرت محاولة لتوطين هذه القبائل وتسليمها الأرض الزراعية، لتستقر قبائل شتى، لكنها لم تتخل عن عادات الإغارة ولا عن سلوك الصحراء.

يقول إسماعيل للمنصّة: لأن طبع الصحاري القاسي يفرض على قاطنيها سلوك البقاء للقبائل الأقوى، التي تمارس سلطانها على القبائل الأضعف، بالتعدي سلبًا ونهبًا، من هنا ظهر في الصعيد الذي سكنته تلك القبائل ظاهرة "أولاد الليل"، وكان الأمر أحد دلائل القوة والشجاعة حتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.

يضيف أنه على يد العربان ظهرت عصابات المناسر (جمع منسر)، وكان لكل منسر شيخ أو زعيم يشرف على عمل هذه العصابة، التي كانت تتكون من شبان قبيلة تمتلك عزوة وسلاحًا، وظلت تلك الظاهرة باقية حتى إصلاحات ثورة يوليو.

يتابع إسماعيل أن السرقة كانت نشاطًا منفصلًا عن عصابات أولاد الليل والأبطال الذين يقاومون الداخلية أو الحكومة، وشعيب مثلا لم يكن لصًا، بل تحول الى اللصوصية لينفق على الجماعة التى شكلها وخرج بها على قانون الدولة بعد أن تعرض للضرب والإهانة في مركز شرطة المراغة في ثمانينيات القرن الماضي، لذا فإن اللصوصية قد تكون وسيلة للعصابة المتمردة للحصول على المال وليست غرضًا في حد ذاتها.


اقرأ أيضًا: صعود وانهيار جمهورية شيخ العرب همام


الغريب أن أشهر نموذج لأبناء الليل في التراث الشعبي هو ابن عروس، صاحب مربعات فن الواو، الذي أضفت عليه الحكايات الشعبية كثير من أخلاق الفرسان، فقد كان نموذجًا يحتذى به في الخروج عن القانون، حسبما يذكر محمد رجب النجار في "حكايات الشطار"، في حين أن الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي أورد عدة دلائل أنه ما كان إلا شيخًا صوفيًا يردد أشعار أحد المجاذيب.

كانت بعض الحركات الإجرامية، مرفوضة من جهة القانون والسلطة، لكنها مقبولة اجتماعيًا وشعبيًا، واعتبرت الحكايات الشعبية بعض الخارجين عن القانون أبطالًا ورفعتهم إلى مصاف الثوار والمناضلين، إذ عدّهم العامة بمثابة صوت الفقراء في مواجهة أصحاب المال والنفوذ، أو ثوار في مواجهة السلطةالغاشمة.