تصوير سالم الريس للمنصة
مخيمات النزوح أقصى جنوب غرب رفح الفلسطينية وبمحاذاة محور فيلادلفيا، الخميس 11 يناير 2024

رفح وأوهام النصر الإسرائيلي "المطلق" ورسائل الغضب المصرية

منشور الاثنين 12 فبراير 2024

لم يكن إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه "لا يستهدف احتلال قطاع غزة بشكل دائم ولا ينوي القضاء على سكانه المدنيين أو تهجيرهم"، سوى محاولة لتفادي الضغوط الدولية المتصاعدة في رفض الإبادة الجماعية ومخطط التهجير، الذي بادر أكثر من وزير في الحكومة الإسرائيلية بتبنيه في تصريحات معلنة لا تحتمل اللبس.

نتنياهو ومعه شركاؤه من اليمين الصهيوني المتطرف، تحدثوا منذ بداية العدوان على غزة قبل أربعة شهور، تصريحًا وتلميحًا، عن ضرورة إخلاء قطاع غزة من سكانه حتى لو اقتضى الأمر قصفهم بقنبلة نووية، أو عبر الضغط عليهم عسكريًا لإجبارهم على النزوح جنوبًا وحشرهم في محافظة رفح المتاخمة للحدود المصرية، لتجد القاهرة نفسها حينها أمام أمرٍ واقعٍ يفرض عليها استقبال مئات آلاف الفلسطينيين الفارين من موتٍ محققٍّ.

ولأنَّ جيش الاحتلال فشل حتى هذه اللحظة في تحقيق أهدافه التي أعلنها بعد هزيمته المذلة في السابع من أكتوبر، بالقضاء على حماس واستعادة الأسرى من فصائل المقاومة، وضمان ألَّا يهدد القطاع أمن إسرائيل مجددًا، فما كان منه إلا محاولة صناعة صورة نصر زائف؛ عبر الاستمرار في مذابحه اليومية ضد الأطفال والنساء والقضاء على مظاهر الحياة في غزة، ومحاولة إخلاء القطاع من سكانه.

خلال لقائه جنودًا وضباطًا من لواء 179 في موقع المدرعات بمنطقة اللطرون شرق القدس قبل أيام، قال نتنياهو "لُبُّ سياستنا هو النصر المطلق على حماس، هذا شرط لازم للحفاظ على أمن إسرائيل.. هذه هي الطريق الوحيدة لضمان المزيد من اتفاقيات السلام التاريخية التي تنتظر على الأبواب.. النصر المطلق يوجّه ضربة قوية لمحور الشر المكوّن من إيران وحزب الله والحوثيين وبالطبع حماس. وإذا لم يحدث هذا، فإن المجزرة التالية هي مسألة وقت".

خطة جهنم لتفجير المنطقة

وفي محاولة للتغطية على الفشل الذي يلاحق حكومته التي بدأت الشروخ تُصدع تماسكها، ويأس جيشه من تحقيق هدفه بـ"سحق حماس" في غزة، ردد نتنياهو مصطلح النصر المطلق في أكثر من مناسبة خلال الأيام الماضية، وكأنَّ مسًّا من جنونٍ أصابه، فالرجل يعلم أكثر من غيره أنَّ قدرات المقاومة لا تزال تسمح لها ليس بقنص وقتل جنوده من المسافة صفر في محاور القتال في القطاع وحسب، بل استهداف المدن الإسرائيلية بالصواريخ حتى هذه اللحظة.

يدرك نتنياهو وشركاؤه أنهم لن يستطيعوا تحقيق "النصر المطلق" المتوهم لذا اختاروا تنفيذ خطة جهنم

عندما سُئِل نتنياهو عن كيفية تحقيق جيشه "النصر المطلق" إذا كانت إسرائيل تسحب قواتها حاليًا من بعض المناطق في شمال ووسط غزة؟ أجاب أنَّ "هذه عملية تستغرق وقتًا"، ونفى إمكانية أن تعيد حماس ترسيخ نفسها في شمال غزة، حيث يشارك الجيش الإسرائيلي، على حد قوله، في عمليات مستمرة لمعالجة ما تبقى من "الشظايا".

صحيفة معاريف العبرية فندت تصريحات نتنياهو، وأكدت أنَّ حماس لا تزال الحاكم الفعلي في غزة، وأن مجلس الحرب يعيش في الخيال "لكنه مع ذلك ليس وحده في وهمه هذا".

وفي مقال نُشر نهاية الأسبوع الماضي تحت عنوان "بديل مدني لحماس.. نتنياهو وجالانت وجانتس يعيشون في عالم الخيال"، ضرب المحلل السياسي وعضو الكنيست حاييم رامون أمثلة بالمناطق التي خرج منها الجيش الإسرائيلي وعادت إليها حماس لتنصب فيها أجهزة حكمها، كما الحال مع شرطتها في مدينة غزة وشمال القطاع عمومًا، ومع ذلك يصر ثلاثي مجلس الحرب، وفق رأيه، على العيش في عالم افتراضي يتخيلون فيه أنَّ إقامة حكم مدني بديل أمر سهل للغاية، وهذه أيضًا حال أعلى هرم المستويين السياسي والأمني.

في كل مناطق القطاع التي أعلنت إسرائيل أنها سحبت قواتها منها بعد مسحها والقضاء على المقاومة بها، يعاود مقاتلو المقاومة التمركز فيها، وتتصاعد فيها العمليات مجددًا خاصة إطلاق الصواريخ.

رامون أكد في تصريحات سابقة للصحيفة ذاتها، نهاية الشهر الماضي، أنه على الرغم من أنَّ الجيش الإسرائيلي أعلن اكتمال المرحلة الأولى من العملية البرية في مدينة غزة وما حولها، وانتقل للمرحلة التالية، فإن عناصر المقاومة عادت للسيطرة على تلك المناطق ليس عسكريًا فقط بل مدنيًا أيضًا، إذ "هم من يتولون عملية توزيع المساعدات الإنسانية وإدارة بعض الأسواق المحلية".

يدرك نتنياهو وشركاؤه في الحكومة أنَّ الفشل يحيط بهم، وأنهم لن يستطيعوا تحقيق "النصر المطلق" المتوهم، لذا اختاروا تنفيذ خطة جهنم التي من شأنها إشعال النيران بالمنطقة كلها، بتنفيذ عملية اجتياح رفح حيث يكتظ أكثر من نصف سكان القطاع حاليًا، وهو ما يعارضه الشريك الأمريكي على الأقل في العلن، وتتحسب له القاهرة مؤكدة أنَّ من شأن تلك الخطوة تعليق معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي أُبرمت نهاية سبعينيات القرن الماضي، وتحظر انتشار جيش الاحتلال في المنطقة "د" المتاخمة للحدود على طول طريق صلاح الدين المعروف بمحور فيلادلفيا.

إسرائيل تلقت "رسائل غضب"

قبل يومين، أكد رئيس الوزراء أنه طلب من رئيس أركان جيشه هرتسي هاليفي إعداد خطة لاجتياح رفح لتفكيك كتائب حماس، لافتًا إلى أنه لا يمكن تحقيق "النصر المطلق" ولا تزال هناك أربع من كتائب القسام في جنوب القطاع. ومنذ ذلك الإعلان بدأت تحركات مصرية وإقليمية ودولية لعرقلة هذا المسعى الذي ستنتج عنه مجازر قد تودي بآلاف الضحايا، وتزيد الضغوط على مصر لاستقبال النازحين، ما يحقق لإسرائيل ما تريد.

رئيس الحكومة الإسرائيلية على استعداد للتضحية بجيشه وبسكان قطاع غزة في سبيل استمراره

القاهرة من جانبها رفعت درجة تأهبها العسكري على طول الحدود مع إسرائيل والقطاع، تحسبًا للتعامل مع أي طارئ، وذهب مصدر مصري مسؤول إلى أنَّ مصر مستعدة لكل الاحتمالات، وإن كانت تفضل في هذه اللحظة تطويق الأزمة بالطرق السياسية، "لكن إن كتبت علينا المواجهة فنحن لها"، حسبما قال لكاتب هذه السطور، لافتًا إلى أنَّ إسرائيل تلقت "رسائل الغضب المصرية" والكرة الآن في ملعبها.

وشدد المصدر المصري، وهو مطلع على تفاصيل الاجتماعات التي عقدها وفد حماس في القاهرة هذا الأسبوع بشأن إقرار صفقة تبادل الرهائن ووقف الحرب، على أن التعامل عسكريًا مع أهالي قطاع غزة ليس من ضمن الخيارات المصرية؛ "نرفض مخطط التهجير كما يرفضه الفلسطينيون، لكننا لن نوجه سلاحنا إلى أهلنا المكلومين تحت أي ظرف".

الموقف ذاته كرره مصدر مطلع في حماس، شدد لكاتب هذه السطور على أنَّ الحركة ومعها باقي فصائل المقاومة لن تسمح بتهجير الفلسطينيين، ولا بالذهاب إلى سيناريو نكبة جديدة. ورجح المصدر الفلسطيني أن يكون إعلان نتنياهو عن خطة لاجتياح رفح محاولة للضغط على حماس للتراجع عن موقفها أو ملاحظتها على اتفاق باريس، "إسرائيل تمارس كلَّ أنواع الضغط حتى نقبل بتصورها لوقف القتال، ورئيس الوزراء يسعى بكل ما يملك لأن يصنع صورة نصر قبل أن يضع حدًا للحرب، حتى لا ينتهي مستقبله السياسي كما جرى من قبل مع إيهود أولمرت بعد حرب تموز (يوليو) 2006 مع حزب الله".

ويتفق مراقبون أن الولايات المتحدة لم تكن يومًا جادةً في الضغط على إسرائيل لوقف العدوان، حتى معركة رفح المرتقبة، فواشنطن كما تل أبيب تريد أن تعلن المقاومة استسلامها قبل أن تضع الحرب أوزارها، لذا مرروا طلبًا بإبعاد زعيم حماس في غزة يحيى السنوار، وعدد من قادة حماس، ما يمنح الحكومة الإسرائيلية ما يمكنها تسويقه على أنه إعلان انتصار.

قد تكون الأيام المقبلة هي الأصعب، ليس على أهل غزة في رفح فحسب بل على الشرق الأوسط الذي تقف بلاده في مفترق طرق، فرئيس الحكومة الإسرائيلية على استعداد للتضحية بجيشه وبسكان قطاع غزة في سبيل استمراره على رأس الحكومة، حتى لو انفجرت حزمة الديناميت التي أشعلها في المنطقة بأسرها.