تصميم أحمد بلال- المنصة
ماثيو بيري في دوره الأشهر تشاندلر بينج

رثاءً لتشاندلر بينج.. لأن السخرية ستنتصر في النهاية

منشور الأحد 5 نوفمبر 2023 - آخر تحديث الاثنين 6 نوفمبر 2023

كواحد ممن ارتبطوا عاطفيًا  بالمسلسل الشهير friends، استقبلتُ خبر رحيل الممثل الأمريكي ماثيو بيري، أو كما يعرفه العالم بـ"تشاندلر بينج"، بحزن فقد صديق عزيز، أو بتعبير أدق صديق شبيه. 

غير أن معرفتي بأنه مات غرقًا في جاكوزي منزله، أشعرني ببعض العزاء، قلت لنفسي، على الأقل مات منتشيًا بفقاقيع الماء تدغدغ مناطق جسده الحساسة، مستدعيًا مشهده الشهير في المغطس، بعد أن علمته مونيكا كيف يستحم باستخدام الأملاح وزيوت المساج.

 أدركت ربما للمرة الأولى مقدار التشابه بيننا، فها أنا أتعامل مع خبر موته على طريقته الشهيرة بالسخرية اللاذعة.  

أن تكون عصفورًا ساخرًا

في واحدة من حلقات الموسم السابع، يتسائل تشاندلر "لماذا لا يأخذني أحد على محمل الجد؟" ليفهم لماذا يتجاهل أصدقائه آرائه على الدوام. 

في الموسم نفسه، يبدأ تشاندلر ومونيكا التخطيط لزفافهما المرتقب. تُخرج مونيكا مجلدًا ضخمًا ضمت فيه كل خططها عن الزواج، كل ما حلمت به منذ الطفولة وحتى اللحظة التي طلب فيها يدها، تبدأ في عرض الاقتراحات عليه وبقية أصدقائهم الأربعة؛ روس وفيبي وجوي وراتشيل. يحاول تشاندلر قول رأيه في الخطط، لكن كل مقترحاته تقابل بالرفض أو السخرية، ليكتشف أنه سيكون "عريس فقط"، فيقوده ذلك للتساؤل. 

لوهلة يبدو سؤاله الساخر موجهًا ناحية الزفاف فقط، لكنك بعد أن تنتهي من الضحك، تدرك على الفور أنه موجه تجاه حياته بأكملها التي لم تأخذه على محمل الجد، فيقرر  أن يعاملها بالمثل، ويحولها إلى سلسلة متعاقبة من النكات الذاتية، لاذعة الطعم.


في مسلسل فريندز/الأصدقاء، الذي أفضل ترجمته إلى "الشلة"، نقف مع الأبطال في مواجهة أزمة ربع العمر، التي تلاحق الشباب في حياتهم ما بعد الجامعة: هل سأجد شخصًا يحبني، أم سأعيش وحيدًا لباقي حياتي؟

تواجه الأزمة أبطاله الست دون استثناء، منذ الحلقة الأولى، لكن تشاندلر يحوز النصيب الأكبر منها، فيتعاطف معه المشاهد، الذي ربما يجعله شخصيته المفضلة من بين الفريق، بسبب مأساته الشخصية وسخريته منها.

في المشهد الافتتاحي، عندما جلس الخمسة أصدقاء، ولم تكن راتشيل انضمت لهم بعد، في المقهى يتحدثون عن أحوال يومهم، يحكي روس ملابسات انفصاله عن كارول، وكيف أدخله ذلك في دوامة من الوحدة والهشاشة، ثم يتمنى لو يتزوج مجددًا؛ عندها تدخل راتشيل بفستان حفل عرسها الذي هربت منه توًا، فيقفز تشاندلر من مكانه ويلوح بيديه ويقول "وأنا أتمنى مليون دولار". 

استغرقتُ دقيقة على الأقل، لأفهم ما يقصده تشاندلر بإشارته تلك، ولأعرف لماذا يضحك الجمهور في الاستديو. أعدت المشهد مرة أخرى، ثم فرقع شيء في دماغي، نعم فهمت مقصده، ثم ضحكت بصوت عالٍ. 

الرحيل إلى منطقة الأمان

عندما شاهدت فريندز للمرة الأولى كنت في المرحلة العمرية لأبطاله. استفزتني نكات تشاندلر بينج، الأصعب في فهمها، فهي مركبة، لا تذهب مباشرة إلى ما يقصد، وإنما تلتف ببعض المراوغة.

لحظة استمتاع تشاندلر التي منحتها له مونيكا

تتنوع المراوغات في صناعة النكتة بين الإشارة إلى أشياء أو مواقف أخرى لها علاقة بالموقف القائم، أو سخرية من الشخصية المقابلة وطريقتها في التعامل مع الحياة ككل، أو باستخدام سؤال تعجبي أو استنكاري يسلط الضوء على المفارقة المضحكة. 

في مشاهدتي الثانية، التي أعقبت الأولى بفترة قصيرة، كانت نكات تشاندلر محور اهتمامي، عددته الصندوق الذي أريد سبر أغواره، والمدخل المناسب الذي سيُعرفني إلى الشلة. بعد ذلك ستتكرر المشاهدات، ويتكرر تعلقي بشخصيته جدًا، عاملته كصديق قديم، أعود لمقابلته كل فترة، ثم رأيته جزءًا مني، أو بالأحرى إحدى صوري في الحياة، لو جاز أن يكون لكلٍ منا صورًا مشابهة في حيوات موازية.

على مدار عشر سنوات، هي عمر المسلسل، ينتقل الأبطال الستة من منتصف العشرينيات إلى منتصف الثلاثينيات، من عناء البحث عن العمل والحب، إلى الاستقرار المادي المريح وراحة التحقق اللذيذة بعد الثلاثينات، والكثير من النضج الاجتماعي.

ارتبطتُ بالأبطال الستة، الذي يوهمك، للأسف، المدى الزمني للمسلسل أن شخصياتهم  تغيرت في بعض الصفات والاضطرابات المتعلقة بما قبل النضوج الفكري والعمري، لتصل إلى منطقة أخرى أكثر اتزانًا وحكمة. لكن في اعتقادي أن ذلك لم يحدث على وجه الدقة، إذ ظلت كل شخصية منهم محبوسة داخل بعض طباعها القديمة، ومخاوف الطفولة والتجارب الأولى.

ظلت مونيكا في حبها المجنون للمكسب وفرض سيطرتها وهوسها المقيت بالنظافة. واستمرت راتشيل متمحورة حول نفسها بشكل مجنون، حتى لو قدمت بعض التنازلات أحيانًا تجاوزًا لرفاهية حياتها في بيت أبيها.

ولم تتخلص فيبي من التصرفات الحمقاء التي يُقال عنها عفوية. والتصق روس بهوسه العلمي أكثر فأكثر، ولم يقدر على تجاوز راتشيل. أما جوي فلم يتعرض لأي تغيير ملموس في شخصيته، وإن كان هذا لا يمنع أن الشلة صارت أكثر ارتباطًا وانتماءً إلى بعضها البعض. غير أن تشاندلر، على عكسهم جميعًا، انتقل كلية من منطقة اضطرابه إلى منطقة "أمان" جديدة عليه تمامًا. 

لم يبد من الحلقات الأولى، أن تطور شخصية تشاندلر سيسوقه ليصبح أبًا في النهاية، أو أنه سيتزوج حتى، أو يفكر في ارتباط دائم، فكل ذلك كان يفزعه، يهرب الدم من عروقه، بل ويهرب هو نفسه من المشهد إذا سمعها، ليعود في داخله إلى ذكرياته، إلى ما قبل أن نعرفه نحن، إلى تلك الطفولة الصعبة التي اختبرها بما تحتويه من صدمات.

مصارعة الوحوش الخيالية

لم ينجُ تشاندلر من صدماته بسهولة، وكذلك أنا. فور ما تعمقت معرفتي به شعرت أن مصابنا واحد مع الفارق في الأحداث، لكني لم أكن تجاوزت الكثير من المشاعر السلبية القاسية، سواء من أحداث شخصية أو الأحداث العامة، ولوهلة وجدت سبيلًا في تعامله مع الحياة، للتخلص من أثقالها.

عرف تشاندلر الأمان في علاقته بمونيكا

عاش تشاندلر طفولة قاسية، من دون أصدقاء، وبين والد مصاب باضطراب الهوية الجنسية ووالدة تحترف خيانته، ثم وقوع الانفصال بينهما. وحيدٌ على الدوام، يكبر فيجد نفسه أحد "نيردات" المدرسة الثانوية، لا شلة أولاد تقبله ضمنها، ولا بنت تحبه، ولا يمتلك سوى صديق واحد، "نيرد" أكثر منه بمراحل وهو روس. تستمر تلك الصداقة بين النيردين في الجامعة مما يعني أنهما كانا بعيدين عن الأضواء، والتجارب العاطفية التي تروي الظمأ.

يتخرج تشاندلر ليعمل في شركة عملاقة، ويتخبط في الحياة، دون تجارب عاطفية مستقرة سوى تلك التي بدأها مع جانيس، واستمرت بقوة دفعها، لا تمنحه سوى التوتر والخوف، لتشكل عقدة جديدة في سلسلة عقده النفسية، تتمحور جميعها حول بدايتها التي شكلتها علاقة والديه ببعضهما وعلاقته بهما، وملخصها هاجس وحيد؛ أن تعيش رفضًا من الجميع، فتعيش وحيدًا وتموت وحيدًا. 

في مواجهة الإحباط، لم يملك تشاندلر إلا استخدام سلاحه السري: السخرية، لأنها تمنحه شعورًا، ولو مزيفًا، بضآلة الهواجس، وقدرة السيطرة عليها. وهي ما تجعل منه، في الوقت نفسه، شخصية مرحة ذات وجود خفيف ومقبول من الجميع. كان هذا هو  درسي الذي تعلمته في مواجهة وطأة الحياة: أن أسخر من كل شيء.

عندما يظهر الحب في قلب تشاندلر تجاه مونيكا تتغير الحياة؛ هكذا ببساطة.

لم ير تشاندلر مونيكا بعيون المحب من قبل، بل لم تربطهما علاقة وثيقة داخل الشلة، لكن التغيير في قلبيهما يحدث على مهل، خطوة خطوة، دون أن يشعرا، حتى يصبح تغييرًا جذريًا. يستشعر  للمرة الأولى في حياته لذة أن تكون شخصًا محاطًا بالحب والرغبة، فتجد دافعًا لتفكر في مستقبلك كشخصين معًا.

تتغير نظرته إلى نفسه نوعًا، ويتصالح مع كثير من ذكرياته السيئة، ويتقبل كل ما كان يرفضه من قبل: علاقة طويلة الأمد، والزواج، والأطفال. تزيد سخريته عمقًا ولذة معًا، ليدرك شيئًا مهمًا جدًا، أن كل الخوف الذي كبله طوال حياته ما كان إلا وحشًا خياليًا في دماغه هو فقط.