Paris la douce
تمثال داليدا في باريس

في عالم داليدا

منشور الثلاثاء 20 يونيو 2023 - آخر تحديث الثلاثاء 20 يونيو 2023

​يسخر زياد الرحباني في أحد برامجه الإذاعية عام 1976 من المليونيرات وتجار السلاح والسماسرة وأصحاب البنوك والسياسيين الانتهازيين، الذين دمروا لبنان بنهبهم المنظم له. وحين اندلعت الحرب الأهلية، وبعد إطلاق الرصاصة الأولى، كانوا أول الهاربين إلى باريس، ليعيشوا فيها الأجواء المرفهة ذاتها، يرتادون أغلى المطاعم والمقاهي، يسكنون في أفضل الأماكن، ويذهبون للحفلات الموسيقية في أفخم المسارح.

يحكي زياد عن حفل غنائي لداليدا في قاعة الأوليمبيا، حين صعدت لخشبة المسرح، وسألت الحاضرين إن كان من بينهم لبنانيون. ولأن المصريين يرون داليدا مصرية وابنةً لحي شبرا، وينسبها بعض العرب إليهم للسبب ذاته؛ توقع اللبنانيون الحاضرون من تلك الطبقة التي يسخر منها زياد الرحباني، والجالس أغلبهم في الصفوف الأولى، أن المغنية المصرية/الفرنسية/الإيطالية ستُحيي لبنان، وتُحييهم باعتبارهم ضحايا لتلك الحرب، التي اضطروا بسببها لمغادرة البلد. رفعوا أياديهم بفخر، منتظرين التحية، لكنهم فوجئوا برفض داليدا الغناء لهم، واشتراطها أن يغادروا القاعة قبل أن تبدأ حفلتها، قائلة حسب زياد "أنا ما مستعدة غني لناس بلا إحساس، وبلا ذوق، وبلدهم عم يتدمر ويموت".

اضطروا للخروج من القاعة، بينما تراقبهم داليدا من مكانها فوق خشبة المسرح، وبعد أن خرجوا جميعًا مطرودين، غنت. أحبُ أن أتخيلها واقفة، بحضورها وشموخها اللافت، وبوجهها الجاد، أو بابتسامتها الغامضة، تراقبهم، تعلم أنها تنتمي وجدانيًا لبلدهم، أكثر مما ينتمون هم إليه. تفعل فعلتها دون أن تشغل بالها بصداها المحتمل.

داليدا/يولاندا ابنة المهاجرين، المهاجرة داخل رحلة هجرة عائلتها، لم ترفض هجرة ولجوء اللبنانيين، بل رفضت طبقة اجتماعية محددة، أشهرت وعيها بمن هو الجاني والضحية في مشهد حرب أهلية بعيدة عن باريس بآلاف الكيلومترات، وبمن تسبب في اندلاعها.

المجد

بالرغم من تذكرنا، نحن المصريون، لداليدا، باعتبارها الفنانة العالمية الفاتنة التي تخصنا، فإننا نجهل أغلب أغانيها المغناة بعشر لغات مختلفة. نتمسك بأغانٍ قليلة غنتها بالعربية، أغانٍ تبدو كترويجٍ سياحي لمصر، أو على الأقل ارتبطت في أذهاننا بالمناظر السياحية المصاحبة لها حين كانت تُعرض في القنوات التليفزيونية الرسمية خلال حقبة الثمانينيات، مثل حلوة يا بلدي، وأحسن ناس، أو استعادتها لبعض المقاطع من أغاني مشهورة لتمزجها في أغنية احتفالية واحدة.

هذه الأغاني القليلة لداليدا كانت موضة بين الشباب في نهايات الثمانينيات، بعد انتحارها، حين فوجئ أغلبنا وقتها، وبمناسبة الانتحار، أنها كانت فعلًا ناجحة ومشهورة عالميًا، وأنها غنت ومثلت ورقصت كثيرًا، وكانت أول امرأة تحصل على الأسطوانة الماسية عام 1981. وإن كان الفراق والغربة مصير أحدنا، فمن الممكن أن يكون من ذلك النوع الذي يغذي حنينه للوطن البعيد بشريط كاسيت وحيد لداليدا.

داليدا

تقف داليدا مرتبكة عند مدخل البيت، نفس الارتباك لا يفارق وجهها بينما تتطلع لحيها القديم من شرفة ما كان بيتها. لا نعرف إن كان بكائها حنينًا لزمن مضى في ذلك البيت، أم حنينًا لأبويها الإيطاليين، أم أنها كانت تتذكر قسوة وعنف ذلك الأب، اللذين اكتسبهما بعد أن قضى عامًا في معسكر اعتقال لمجرد أنه إيطالي، مع بداية الحرب العالمية الثانية، فيموت بعد خروجه منه بأعوام قليلة، لتبدأ هي لحظتها رحلة الفن والشهرة.

عام 1955، وبعد فوز داليدا بلقب ملكة جمال مصر، تظهر في دورٍ صغير في واحد من أكثر الأفلام ركاكة في زمنه، سيجارة وكاس إخراج نيازي مصطفى. تظهر باسمها الأصلي، يولاندا، لتلعب الدور النمطي نفسه المفروض على الكثيرات خلال عقود من تاريخ السينما المصرية؛ الفاتنة الشريرة التي تحاول إغواء رئيسها في العمل، لتدمر علاقته بزوجته والحياة السعيدة التي يعيشانها معًا. وهي في تلك الحالة ممرضة تحاول أن تغوي الطبيب الذي تعمل معه.

وبالرغم من تلك النمطية في دور هامشي، فإن سحرها يتبدى في لحظات قليلة، ليس فقط بسبب جسدها ووجهها مبهري الجمال، بل أيضًا بصوتها، مُغنيةً بالإيطالية، وراقصةً قليلًا مع ألحان أغنيتها.

تنتظر داليدا ثلاثين سنة كي تكسر النمطية الساذجة، لتقدم ما ليس مقبولًا جماهيريًا في فيلم اليوم السادس

في "سيجارة وكاس" تلعب داليدا دور الغريبة، قبل أن تصبح غريبة فعلًا، بملامحها الأوروبية ولهجتها، في مواجهة عالم الشرق بامتياز، المجسد في الراقصة سامية جمال التي تلعب دور زوجة الطبيب. يعود الزوج لزوجته وابنتهما، يعود للنقاء، يبتعد عن الفتنة، لتلقى يولاندا الفاتنة جزائها على يد امرأتين مصريتين؛ علقة في الحمام، وإلقائها في البانيو.

تنتظر داليدا ثلاثين سنة كي تكسر تلك النمطية الساذجة، لتقدم ما ليس مقبولًا جماهيريًا في فيلم اليوم السادس ليوسف شاهين، أن تكون الجدة/صِدّيقة، الفلاحة الهاربة من أهلها وقريتها للمدينة، بلهجة غير مصرية تمامًا. فصِدّيقة، بطلة الفيلم، مثل داليدا التي تجسد دورها، مهاجرة، غريبة داخل الغربة.

يبدأ الفيلم بعودتها للقاهرة بعد زيارة خاطفة للقرية، لوداع أختها التي ماتت بالكوليرا. تحكي أن أهلها لم يعرفوها، ودفنوا أختها ليلًا. لكن في رواية أندريه شديد المقتبس عنها الفيلم، صِدّيقة/أم حسن (يسمونها أم حسن بالرغم من أنها جدة الصبي حسن وليست أمه)، لا تحكي عن تلك الزيارة باقتضاب مثلما يحدث في الفيلم، بل أن الفصل الأول من الرواية مخصص لهذه الزيارة؛ تعود للقرية التي هجرتها قبل أن تُدفن أختها سرًا وليلًا، ويُذكّرها ابن اختها بأنها ليست من هنا، وأنها لم تنتم إليهم أبدًا. وهي العبارة التي ستتذكرها صِدّيقة لاحقًا.

يحفل فيلم يوسف شاهين برجال منكسرين، فاشلين في تقرير مصائرهم بمعزل عن النساء. بينما هناك أربع نساء أقوى من كل الرجال؛ صِدّيقة هي الأولى، والثانية زينات هانم/شويكار الممثلة المتقدمة في العمر، المستغِلّة جنسيًا للشباب الجامعي الساكنين في بيتها، تستمتع بهم وتتحكم في حياتهم. وعلى الرغم من رطانتهم الوطنية لا يجرؤون على مواجهتها. وهناك صاحبة المقهى، صاحبة "البيزنس" في الحارة، المتحكمة في كل الرجال، بما فيهم أبيها. وهناك أيضًا الأميرة الأرستقراطية التي تخطف الجنود الإنجليز، لتضاجعهم ثم تقتلهم.

حين ننتبه للفرق بين صور الذكور والنساء في الفيلم، ننسبه تلقائيًا لكاتبة الرواية كونها امرأة. لكن هذه النماذج النسائية لا تظهر في رواية أندريه شديد، فهي شخصيات أضافها شاهين. وحتى صِدّيقة/أم حسن تظهر ضعيفة في الرواية، مغلوبة على أمرها، يقيدها بسلسلة القرداتي أوكازيون، يتجول بها في الشوارع، ليساوي بينها وبين رفيقه القرد، وتسقط في نهاية الرواية ميتة في القارب بعد أن يموت حفيدها بالكوليرا.

لكن في الفيلم، تواجه صِدّيقة جميع الرجال، وتحاول صفع عوكا/أوكازيون، تتحداه، ولا يقدر عليها رجل. تحاول الانتحار حين يموت حسن، لكنها تُفيق، تصل للإسكندرية كي تبدأ حياة جديدة، غربة جديدة، رغم الموت والوحدة.

الانتحار

هل أوحت شخصية داليدا الحقيقية لشاهين بملامح صِدّيقة المختلفة في الفيلم عن الرواية؟ هل أوحت له بهذه النماذج النسائية الحاضرة بقوتها في مواجهة ذكور أصابتهم الشروخ؟ لن نعرف. ربما. لكن بتأمُل داليدا وهي تغني، وفي الفيديوهات السياحية المصرية، وفي الفيلم، بعينيها، بالحول الطفيف الموجود بهما وكان سبب تعرضها للتنمر في صغرها، نستطيع أن نشعر بقوتها، فنكرر كلمة "ربما".

لكن القوة ليست مُطلقة، ولا يتم تعريفها بوجهٍ وحيد. انتحرت داليدا بعد فيلم اليوم السادس بشهور، بعد أن لعبت بطولة فيلم يتمحور حول الموت والسفر هربًا، وحيدة في شقتها في باريس يوم 3 مايو/أيار من عام 1987. تاركةً ثلاث رسائل، الأولى لأخيها أورلاندو، والثانية لعشيقها فرانسوا نودي، ولم يُكشف عن مضمون الرسالتين أبدًا. لكن الرسالة الثالثة، المعروف مضمونها، كانت موجهة إلينا جميعًا "الحياة لم تعد محتملة.. سامحوني".

تقول الحكاية المنتشرة إن داليدا قضت اليوم السابق لانتحارها وحيدة في شقتها، كان برنامجها المفترض مشاهدة عرض مسرحي، ثم العشاء مع حبيبها فرانسوا. لكنه ألغى عشاءه معها، ضايقها، فبقت في المنزل وحيدة. تناولت أقراصًا مهدئة مع كأس ويسكي.

داليدا شابة

تنحو تفسيرات انتحارها، بالإضافة للاكتئاب المزمن، لعشقها اليائس لرجل. والبعض يُرجع انتحارها للعنة غامضة، لانتحار بعض عشاقها السابقين، فكان عليها أن تلحق بهم. ربما نعلم يومًا كل دوافع انتحارها في سن الرابعة والخمسين، ودور الذكور فيه.

يبقى من داليدا أغانيها، وحضورها الغامض والساحر، وفنها كراقصة وموديل وممثلة ومنتجة ومقدمة برامج تليفزيونية، ومجدها كمغنية. ويبقى أيضًا تمثال تكريمي لها في وسط باريس، في أحد الميادين الصغيرة المسمى باسمها، تمثال برونزي داكن، تغير لونه تمامًا في منطقة النهدين، تقشر، اكتسب لونًا ذهبيًا، من كثرة ما لمسته كفوف ذكور يتصورون أنفسهم مرحين بملامستهم صدر داليدا بعد موتها.