الحساب الشخصي لناصر عبد المنعم- فيسبوك
المخرج ناصر عبد المنعم يحيى جمهوره

مع المسرحي ناصر عبد المنعم| عن المسرح التجريبي والرقابة والنصوص المقتبسة

يتسلح مسرحه بالوعي.. وهو أهم زادٍ يمكن أن يثري التجربة الفنية

منشور الأحد 3 سبتمبر 2023

وسط جُملة الفنون المشكّلة للمشهد الإبداعي المصري الآني، يبدو المسرح على درجة نسبية من التميز، بقدرته على أن يكون صوت الشارع ونبض الناس دون حواجز أو مواربة، فضلًا عن سحره الخاص خارج آليات التعليب وقوانين التنميط، واحتوائه ألوان الطيف الإبداعية مجتمعة.

وفي مسار الحركة المسرحية المعاصرة، يأتي المخرج والمسرحي المصري ناصر عبد المنعم (65 عامًا)، المتوّج بالتكريم في الدورة الثلاثين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي (1-8 سبتمبر 2023)، كواحد من أصحاب التجارب المتحققة والمتفوقة، ليس فقط بسبب حصده للكثير من الجوائز المحلية والعربية المرموقة، وإنما بسبب تسلحه بالوعي، وهو أهم زادٍ يمكن أن يثري التجربة المسرحية، ويكسبها عمقًا وأصالة وحنكة.

منذ اهتمامه المبكر بـ"مسرح الشارع"، مرورًا بمحطاته المسرحية اللافتة، وأحدثها مسرحية "السامر"، من إعداده وإخراجه في الدورة السادسة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي (ديسمبر/كانون الأول 2022)، يبدو مسرح عبد المنعم فاعلًا مؤثرًا، لأن المتعة والتشويق والجماليات فيه ممزوجة بالقيمة، ومشحونة بالأفكار والقضايا التي تمس الجمهور في شأنه العام والخاص وواقعه اليومي بشكل مباشر.

وبالدرجة ذاتها التي يؤمن بها بفعالية المسرح، مثلما يوضح في حواره مع المنصة، فإنه يؤمن بأن حرية التعبير شرط ازدهار هذا الفن، وأنها معركة الإبداع عمومًا.

فن اللحظة الراهنة

 

بالرغم من تحمس المنظرين والنقاد في وقت سابق لـ"زمن الرواية"، و"عصر الصورة"، و"لغة الكاميرا"، يرى عبد المنعم أنه "بالإضافة إلى العراقة والشمول وما إلى ذلك من عناصر تفوق المسرح المشار إليها، فإن المسرح يتمتع عبر تاريخه بحالة سحرية تجعله دائمًا في الواجهة، فهو فن الحضور الآني المباشر، الواصل بين المبدع والمتلقي من غير وسائط، هو الفن الذي يمزج دقات قلب الممثل وأنفاسه الحارة بنبض الجمهور الجمعي".

وتعد تجربة المخرج عبد المنعم المسرحية، بامتدادها وزخمها، حصيلة فنيات جمالية، ورؤية فكرية، ومعايشة للحياة والبشر. وعن كيفية إعداد المسرح ليكون نافذة للإطلال على الشخصية المصرية، لتشريحها، ورصد دقائق مكوناتها، ومعالجة أبرز قضاياها ومشكلاتها، وإعادة قراءة التاريخ المصري بمنظور جديد، وسر اختياره للنوبة والجنوب المصري في أكثر من عمل كمسرح للأحداث، كما في "حكايات ناس النهر"، و"نوبة دوت كوم"، و"ليل الجنوب"، و"الطوق والإسورة"، يشير عبد المنعم إلى أن الخيط الأولي الذي يجري الانطلاق منه لإعداد المسرح بكل عناصره المعروفة والمألوفة والمبتكرة، ليكون مرآة للمجتمع بمكوناته ومقوماته وشخصياته وأحداثه وأزماته، هو الورق، أي النص المكتوب الذي تُستلهم منه الصياغة المسرحية.

ويستطرد موضحًا "لقد وجدتُ ضالتي لدى كتّاب الرواية والقصة والشعر البارزين أكثر من مؤلفي المسرح، على الرغم من صعوبة تحويل هذه الفنون إلى مسرحيات. فالرواية مثلًا تعتمد على السرد، والمسرح يقوم على الفعل والحوار، لكن خصوبة هذه الأعمال وقيمتها الأدبية والإنسانية وصلاحيتها لأكثر من زمان ومكان، هي عوامل مغرية لأي مسرحي لكي يقدم على تحويلها إلى مسرحيات جادّة، تشرّح النسيج المجتمعي والواقع الحي من جهة، وتستلهم التاريخ وتعيد قراءته بمفهوم جديد من جهة أخرى".


أما تفاعله مع قضايا النوبة والجنوب المصري من خلال أعمال روائيين جنوبيين من أمثال يحيى الطاهر عبد الله، وحجاج أدول، وإدريس علي وغيرهم، فمنبعه "الرغبة في تفادي الثيمات والأنماط المسرحية المكررة التي كانت منتشرة وسائدة حتى ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت المسرحيات بموضوعاتها ومعالجاتها تدور في دوائر من الملل والرتابة والرؤية المركزية، في حين كنت أرغب في مخالفة المألوف، وكسر القولبة، والتفاعل مع الهامشي والعادي، وخوض القضايا الشائكة والأزمات الحقيقية للإنسان، وتفجير المسكوت عنه من معاناة البشر، كقضايا الأقليات مثلًا، وحقوق المرأة المهدرة، والثقافة الذكورية السائدة في أقصى صعيد مصر، ومشكلات المهجّرين من أبناء النوبة في أعقاب بناء السد العالي، وغيرها من التفريعات والخيوط التي تناقشها هذه المسرحيات بجرأة في قوالب فنية. وربما كان يصعب الخوض فيها بشكل مباشر من خلال الإعلام مثلًا، لكن للفن قدرته على استغلال مساحة الحرية المتاحة ليقول كلمته المسموعة والمؤثرة".

الحرية ومواجهة الرقابة

وعن مدى الحرية المتاحة للمبدع المسرحي المصري ليقول كلمته بأمانة دون معوقات رقابية أو إدارية، وتفسيره لعدم اصطدام السلطة بالمسرح إلا في أحوال نادرة، على الرغم من أن فنونًا أخرى قد تتعرض للتضييق والمنع والمصادرة، يرى عبد المنعم أنه "لا شك في أن المسرح، شأنه شأن بقية الفنون والإبداعات، لا يزال يطمح في مساحة أرحب من الحرية وإلغاء كافة أشكال القيود والرقابة، لأنها باتت غير منطقية في عصر السماوات المفتوحة والأفكار العابرة للحدود".

ويقول مستطردًا "بالنسبة لتجربتي المسرحية، بشكل شخصي، لا أتذكر أنني تعرضت في أية مسرحية قدمتها لعوائق رقابية أو إدارية، مهما بلغت درجة الجرأة في المسرحية، وذلك على الرغم من أنني أقدم مسرحياتي كلها على مسارح الدولة الرسمية".

ومن جهة أخرى، وفق عبد المنعم، فإن المسرح، دون غيره "يتيح أشكالًا ووسائل لا حصر لها لبلوغ الحرية المنشودة، بوصفها الشرط الجوهري الذي لا غنى عنه لازدهار المسرح وتطوره. ومن هذه الوسائل اللجوء إلى التاريخ والأقنعة والرموز والأساطير لتحقيق الإسقاط على الواقع بطريقة آمنة، واللعب بالأزمنة والأمكنة للإيحاء بأن اللحظة الحالية مستبعدة خارج العمل المسرحي، وهذا وهم بطبيعة الحال، لأن المسرح هو فن اللحظة الحالية وإن تحرّك في فضاء التاريخ".

البؤس والمرض والخرافة

وبالرجوع إلى "الطوق والإسورة"، التي حصلتْ على جائزتين مرموقتين، هما جائزة "مهرجان المسرح العربي" الأولى كأفضل عمل مسرحي منذ قرابة ثلاثة أعوام، والجائزة الأولى في مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة منذ أكثر من عشرين عامًا، فإنها مسرحية تكاد تشكل كتلة من المشاعر الإنسانية والعلاقات المكثفة عبر أجيال زمنية تتكشف من خلالها ملامح البؤس والمرض والجهل والخرافات في قرى الصعيد التي تعاني كثيرًا ويرحل عنها شبابها هربًا من واقع كابوسي. 

إن كلنا يعلم، يقول عبد المنعم "أن الأطراف والأقاليم النائية لا تزال تعاني حتى يومنا هذا من التهجير والتغريب والبؤس وانتشار الخرافات وسوء الأوضاع بصفة عامة، وينزح الكثير من سكانها نحو المركز أو بلاد أخرى أملًا في معيشة أفضل، وتسود هذه المناطق عادة الثقافة الذكورية والقوانين الموروثة، وهي أقرب إلى الطبيعة القبلية، ولذلك يبقى عمل الطوق والإسورة شاهدًا على عصره، وعلى عصرنا، وربما أزمنة لاحقة".

أما من جهة العناصر والتقنيات المسرحية "فمع كل خشبة مسرح وكل مرة أقدم فيها هذه المسرحية، أستشعر أنني أقدم عملًا مختلفًا، لأسباب كثيرة، منها تغير الممثلين مثلًا، فهم ليسوا مجرد أدوات، وإنما شخصيات فاعلة تضيف إلى العمل نبضًا إنسانيًّا. كذلك، فإن الأبجديات والآليات المسرحية تتطور وتتغير عبر الزمن".

مسرح الشارع

بدأ عبد المنعم حياته الفنية بـ"مسرح الشارع"، وجاءت أعماله اللاحقة من قلب المشهد الحياتي ونبض العاديين. فهل ينفرد فن المسرح من وجهة نظره بخصائص شعبية تجعله يضطلع، إلى جانب دوره الجمالي، بمسؤوليات أخرى، كالتنوير مثلًا، وإصلاح ما أفسدته السياسة بين الدول، وفضح ومعالجة الأزمات المجتمعية، وإضاءة الطريق للإنسان الراغب في التمرد والتطور والارتقاء، والانفتاح على الفانتازيا والتاريخ، وما نحو ذلك؟

يوضح نعبد المنعم في إجابته أن "المسرح بالفعل هو الشارع، سواء تسمى بهذا المسمى أو لم يتسمَّ به، وإذا كان الجانب الجمالي والإمتاعي متفقًا عليه في سائر الفنون، والجانب الأخلاقي والاجتماعي والتنويري محل اختلاف بين أنصار الفن للمجتمع، وأتباع الفن للفن، فإنه في حالة المسرح هناك إجماع أيضًا على أن المسرح للمجتمع. فبكل المقاييس وسواء شئنا أم أبينا فإن المسرح يحمل رسالة، ويقيم تفاعلًا مباشرًا مع الجمهور، وهو بالتجربة أثبت قدرته على ممارسة فعل التنوير، وتقريب المسافات بين الشعوب والدول، كما أثبت فعاليته في تحفيز الذهن وتطوير الوعي وتنمية الرغبة في التغيير والارتقاء على مستوى الفرد والمجموع، ولم تعد هذه الأطروحات مجرد شعارات وقوالب إنشائية".

ويواصل عبد المنعم بقوله "أتصور أن تطور وعيي بهذه الأمور، هو ذاته تطور أدائي المسرحي وتجربتي الفنية. فمع مرور الزمن وزيادة الخبرة صار الانتقاء أكثر قسوة، والحرص على القيمة المجردة مضاعفًا. وبالطبع لا يعني ذلك التوجه الطرح التلقيني أو الفجاجة الدعائية التي تمارسها بعض المسرحيات بدعوى الإصلاح والتهذيب والتقويم، فهذا ليس مسرحًا من أساسه. فالفن هو القدرة على استثارة الخيال وتحفيز الطاقات والملكات، وطرح الأسئلة الشائكة وليس تقديم إجابات جاهزة عنها".

وإذا كان الدمج بين الفنون البصرية المختلفة من سينما وفيديو وتشكيل وغيرها، والإفراط في تقنيات العرض والإبهار المتطورة، واختزال اللغة المنطوقة لصالح الأداء الحركي ولغة الجسد، وغيرها من العناصر المسرحية الجديدة، باتت سمات لافتة وأبجديات جذب مغايرة تغازل مسرح الشباب في مصر، فإن عبد المنعم يرى أن عناصر التفوق المسرحي المصري مقترنة في جوهرها بحساسية الأداء وليس بالإبهار، قائلًا "بصراحة، لن نستطيع منافسة الغرب في التقنيات، لكن يمكننا تقديم مسرح محلي متميز بخصوصيته وبيئته ولغته التعبيرية المختلفة وموسيقاه وآداء ممثليه وكافة عناصره المقترنة بعوالم وتفاصيل متشابكة غير مألوفة للمشاهد الغربي، ويمكن بالطبع الاستفادة من التقنيات الحديثة، لكن بدون اعتبارها محورًا للتميز، فهذا أمر يصعب تصوره".