أحد الرهبان يمنح البركة لمواطن برش مياه مقدسة عليه

الرَحَّالة| ثنائية الدين والجنس في تايلاند: "شعب متدين بطبعه"

منشور السبت 11 فبراير 2017

أكثر ما لَفَت انتباهي في يومي الأول بالعاصمة التايلاندية بانكوك، كانت المعابد البوذية المنتشرة في كل مكان، دعني أقول لك إن بين كل معبد والآخر معبدًا ثالثًا، حتى أن الكثير من الشوارع بها تماثيل صغيرة لبوذا يتعبد أمامها من يشاء. على أحد مقاهي العاصمة شارع "خوا سن" الشهير جلست واضعًا أمامي خريطة بانكوك، لترتيب خط سيري، وأهم المعالم التي سأزورها، كانت صور بوذا الذهبية تملأ كل مكان في الخريطة، في إشارة إلى المعابد المفتوحة أمام السياح، في بلد يتربع على عرش السياحة الجنسية في العالم.

اقرأ أيضًا: الرحّالة | تايلاند.. رحلة مجانية "رحمة ونور" على روح الملك الراحل

تشير التقارير إلى أن السياحة الجنسية وتجارة الجنس بشكل عام تمثل من 10: 14% من الدخل القومي لتايلاند، وهي أرقام تستطيع أن تلحظها في كل مكان سواء في بانكوك أو مدينة بتايا أو غيرهما، من خلال "فتيات الليل" المنتشرات أمام الحانات اللاتي يعملن بها، يدعونك لقضاء بعض الوقت معهن، سواء بشكل مباشر أو تحت ستار المساج، كذلك من خلال الرجال الذين سيقابلونك في كل مكان بالشارع ليعرضوا عليك خدماتهم في توفير فتاة ليل تختارها بنفسك، وليست بالضرورة أن تكون تايلاندية، فالدولة التي تتربع على عرش السياحة الجنسية تستقطب أيضًا "فتيات ليل" من جنسيات أخرى، بينها جنسيات عربية.

 

صلاة داخل معبد بوذي

تختلف الحياة في تايلاند، ليلها عن نهارها، اختلاف المعابد عن الحانات، و"فتيات الليل" عن الرهبان. شعب واحد يتغير بين عشية وضحاها، يملأ الحانات ليلًا والمعابد نهارًا، ويبدو كما شعوب أخرى، مهووسًا بالدين والجنس معًا. تستطيع وبكل بساطة وأريحية أن تطلق عليه المقولة الشهيرة، التي نطلقها على المصريين، بأنه "شعب متدين بطبعه"، بنفس التناقض والسخرية إن شئت.

 

رهبان بوذيون في معبد وات بو بالعاصمة التايلاندية

يعتنق 95% من التايلانديين الديانة البوذية، وهو أعلى معدل لانتشار البوذية في العالم. ورغم أن الدستور لا ينص على دين رسمي للدولة، إلا أن الملك يعد "حامي البوذية" في البلاد ورمز وحدتها الوطنية، ويحظى الرهبان البوذيون باحترام بالغ من المواطنين والحكومة التي تمنحهم مزايا خاصة، كما تحظى المعابد البوذية باهتمام رسمي بالغ، من خلال هيئة حكومية تتولى الإشراف عليها.

بين مئات المعابد المنتشرة في العاصمة التايلاندية، لن يكون من الصعب تمييز معبد "وات إنتراويهان" Wat indharavihan بسبب تمثال بوذا الذي يشتهر به، والذي يبلغ طوله 32 مترًا. زرته في يومي الأول ببانكوك، قد لا يكون المعبد الأكبر في العاصمة، إلا أن ألوانه وتماثيل بوذا الذهبية المنتشرة في أرجائه لا تقل جمالًا وروعة عن بقية المعابد، والحقيقة أن التمثال الضخم ليس الوحيد الذي يميز المعبد، فوجود هذا الرجل التايلاندي، الذي يبيع العصافير في قفص صغير به 4 عصافير بـ 100 بات (50 جنيه) للقفص، أحد ما يميز المعبد أيضًا. تشتري الطيور وأنت في رحاب بوذا، وتطلقها لتنال حريتها، تقربًا له، قبل أن يأتي الرجل التايلاندي بعصافير أخرى لبيعها لمن يرغبون في نيل البركة.

 

بائع العصافير في معبد بوذي

للمعابد البوذية قدسيتها في تايلاند، ودخولها يجب أن يتم وفق قواعد معينة، ونصيحتي لك: لا تتجول في تايلاند بالحذاء، لأنك ستضطر إلى خلعه قبل كل مرة ستدخل فيها معبدًا. هم يؤمنون أن المعابد أماكن مقدسة وطاهرة ولا يجوز دخولها بالحذاء الذي يلمس الأرض. كذلك لا يجوز دخولها بساقين أو كتفين مكشوفين، قبل دخولك سيمنحك أحدهم شالًا لتضعه على كتفك، احترامًا للمكان المقدس، الذي يحظر أيضًا على الأشخاص داخلها لمس أشخاص من الجنس الآخر.

"ممنوع لمس الجنس الآخر"، هكذا تحذرك لافتات توضع على أبواب المعابد، في الدولة التي تتربع على عرش السياحة الجنسية في العالم. كذلك تحمل اللافتات عدد من الأمور المحظور فعلها في المعبد، بينها منع الدخول بملابس معينة كالتي تكشف الكتفين والساقين، وطلب الدخول بالشال ليغطي الجسد، كذلك تحذر اللافتات من استخدام الرموز البوذية في "التاتو، والبارات"، لأنه يعني عدم "احترام بوذا".

 

لافتة تشرح المحظورات داخل المعابد البوذية

الجلوس أمام تمثال بوذا في قدس الأقداس له تقاليده التي تعبر عن مدى احترام التايلانديين لبوذا، إذا لا يجوز أن توضع القدم في مواجهته، وإنما يجلس الشخص على كلتا قدميه، في مواجهة التمثال، بينما القدمين في مواجهة الباب. وكما يصلي المسلمون ركعتين تحية للمسجد فور دخوله، يسجد البوذيون التايلانديون ثلاثًا أمام التمثال فور دخولهم غرفة قدس الأقداس.

قدسية الرهبان تُكتسب فيما يبدو من قدسية بوذا نفسه، في معبد "وات بو" Wat Pho، وفيما كنت منشغلًا بمشاهدة هذا التمثال الذهبي الضخم، دخل عدد من الرهبان بملابسهم البرتقالية، من باب مخصص لهم، ليعتلوا منصة حمراء على يسار القاعة، مرتفعة عما سواها، ومخصصة لهم أيضًا، قبل أن يجلسون جلستهم التقليدية ويسجدون ثلاثًا. حاولت الاقتراب منهم لالتقاط أكثر من صورة إلا أن رجل الأمن طلب مني الابتعاد بلطف، فيما كان يتعامل معهم باحترام بالغ أثناء خروجهم لنيل البركات.

 

أحد الرهبان يمنح البركة لمواطن برش مياه مقدسة عليه

نيل البركات من الرهبان، لم يكن تصرفًا فرديًا من فرد أمن، وإنما إيمان كامل لدى شعب الدولة الأكبر في السياحة الجنسية على مستوى العالم. على نفس المنصة المرتفعة، المخصصة لصلوات الرهبان، في معبد آخر، جلس راهب بوذي عجوز، بزيه البرتقالي التقليدي ورأسه المحلوق كبقية زملائه، بجواره إناء فخاري به ماء يعتبرونه مقدسًا لقراءة صلوات معينة عليه، وإناء آخر ذهبي به أموال، وبعض الأعواد الخشبية.

في خشوع تام، يجلس الشخص أمام الراهب، الذي يضع العيدان الخشبية في المياه، ثم يرش بها على الشخص وهو يتمتم بكلمات تايلاندية، قبل أن يمد له طالب البركة يده، ويأتي الراهب ليضع إسورة من خيوط بيضاء حول معصمه الأيمن لجلب الحظ الجيد والقوة، قبل أن يضع الشخص ما شاء له من أموال في الإناء الذهبي. ورغم أنني لا أؤمن بهذه الأمور، إلا أنني اضطررت لخلع هذه الإسورة بعد أسبوع من تجربتها، ومعاناتي مما اعتقدت أنه حظ سيء يلاحقني.

 

التصدق داخل المعابد البوذية

التصدق لصالح المعابد البوذية سلوك ديني يمارسه المواطنون التايلانديون بشكل دائم، من خلال صناديق توضع داخل المعابد، كصناديق النذور، يضع فيها المواطن ما شاء من أموال، كذلك يتصدق البعض بوضع العملات المعدنية في أوان نحاسية.

في معبد بوذا المتكيء، أكبر وأقدم معبد بوذي في تايلاند، والذي تصل مساحته إلى 80 ألف متر، ويضم 1000 تمثال لبوذا، أكبرهم هو التمثال الذي يجلس فيه بوذا متكئًا، والذي يصل طوله إلى 46 مترًا، يدور حوله المواطنون حتى إذا هموا بالخروج توجه بعضهم إلى مكتب يجلس عليه شخصان يضعان عملات معدنية بقيمة 20 بات في كل طبق، بينما يضع الشخص 20 بات ورقية في صندوق ويأخذ طَبقًا ويسير في طابور إلى جانب أوان نحاسية، يضع في كل إناء بات واحد، حتى ينتهي من الـ 20، وهي أموال لصالح المعابد وأعمالها.

 

في معبد بوذا المتكئ

صلوات وصدقات ومعابد وحانات وخمور وجنس لمن يدفع، هكذا تسير الحياة في تايلاند، بين نهار تتعثر فيه بالمعابد في كل مكان، وشعب متدين يرتل الصلوات أمام تماثيل بوذا بعد ثلاث سجدات تحية، وليل تختفي فيه المعابد وتظهر الحانات، بين الحانة والأخرى عشر حانات، ومئات من "فتيات الليل"، وشعب ليل يختلف تمامًا عن شعب النهار، وملايين من السياح يأتون من كل حدب وصوب ليتوجون تايلاند ملكة على عرش السياحة الجنسية في العالم.

 

كافة الصور من تصوير أحمد بلال، وخاصة بالمنصة