سقراط.. عاشق الكرة والثورة وأنطونيو جرامشي

منشور الاثنين 29 يناير 2018

"انتصاراتي السياسية أهم عندي من انتصاراتي كلاعب محترف، لأن المباراة تنتهي بعد 90 دقيقة، لكن الحياة تستمر بعدها" -- سقراط

"إذا توقف جسدي عن العمل، فأنا أريد لأفكاري أن تستمر في التدفق، مثل الرياح، مثل العاطفة، التي تسمح للفرح والألم بتقاسم نفس المساحة، والتي تجعلنا نفهم أن الدموع، ينبغي أن تكون بذورًا لتحقيق السعادة." كانت تلك آخر كلماته المصاحبة لدموعه عند وداعه لملعب باكامبو، معقل نادي كورنثيانز.

في فبراير/شباط عام 1954، وفي مدينة بيليم بولاية بارا في شمال البرازيل، ابتهج العامل رايموندو فييرا باستقبال مولوده اﻷول، وﻷنه كان مهتما بالفلسفة فقد أسمى ابنه سقراط،  أو كما يُنطق بااللاتينية "سُقراطيس"، والذي أصبح فيما بعد، واحدًا من أبرز نجوم كرة القدم، ليس فقط في البرازيل، بل في العالم كله.

إنه لاعب وسط فريق كورنثيانز والمنتخب البرازيلي، وجه سقراط شكره لوالده بعد أن أصبح يافعًا على اسمه غير الاعتيادي، والده أتى من عائلة فقيرة شجعته على القراءة، ورغم عدم حصوله على أي مؤهل تعليمي، إلا أنه نجح في إنشاء مكتبة خاصة يُمكن لسقراط الصغير أن يذهب إليها، ويقرأ بها.

لاعب الريجيستا الراقص، عاشق الحرية والثورة

لدى سقراط مسيرة عظيمة مع الأندية التي لعب لها، بدايته كانت مذهلة مع بوتافوجو في عمر العشرين، حيث كان الهداف الأول في البطولة البرازيلية خلال 4 سنوات مع هذا النادي، كانت لديه قدرة عظيمة على اللعب في موقع هجومي متقدم، أو بمركز الجناح، وكذلك في مركز لاعب الوسط (الريجيستا) الذي يُنظم أداء وتمركز اللاعبين، وكان عبقريًا حتى في هذا الأمر، بل يعتبر واحدًا ممن أسسوا هذا الدور في كرة القدم الحديثة، لكن أهم الأندية التي لعب لها كان كورنثيانز، أول فريق للعمال في البرازيل، حيث أنه قد تم إنشاءه من قبل قطاع من المهاجرين في ساوباولو، في الوقت الذي كانت فيه كرة القدم لعبة ثانوية في البرازيل، تلعب فقط من خلال البريطانيين، وللعمال الذين يعملون لدى شركات الاستثمار البريطانية.

 

 كان اهتمام سقراط الأكبر بالقضايا الاجتماعية، وليس فقط كرة القدم، كان يصل فقط يوم الأحد للانضمام لرفاقه في فريق بوتافوجو بسبب أنه كان يدرس الطب، أصبح معبود الجماهير في كورنثيانز، بعيدًا عن نحافته الواضحة وذقنه الكثيفة التي كانت تذكرهم بتشي جيفارا، لكن ذلك لم يكن على سبيل الموضة ، لأنه كانت لديه خطة واضحة، حيث يشارك اللاعبين في قرارات النادي، حيث يتم استجواب المسؤولين حول مداخيل النادي، تسويق القميص، الجوائز المادية التي يحصل عليها النادي من فوزه بالبطولات، ثم أصبح اللاعب الذي يمثل الشعب في المنتخب البرازيلي في كأس العالم 1982، كان مثل المُبشِر الشيوعي.

استخدم سقراط ما اكتسبه من معرفة، من خلال الفلسفة اليونانية، والتراث اللغوي الشيوعي، حتى خلال قيادته لفريق كرة قدم مكون من 11 لاعبًا، فنقلًا عن أحد رفاقه في فريق كورنثيانز، قال لهم في خطاب تحفيزي قبل إحدى المباريات الحاسمة على لقب البطولة البرازيلية "قدرتنا على التخيل، هى سر الطاقة التخريبية لدينا."

ويقول "في عام 1964 كنت في الخدمة العسكرية، ورأيت والدي وهو يحرق كتابه عن البلاشفة، وهنا بدأ اهتمامي بالسياسة، وكان اهتمامي بالكرة محض صدفة، كنت طفلًا في بلد ديكتاتورية، لذا فإن أعيني كانت تذهب للاهتمام بالمظالم الاجتماعية في بلدي، وكان عليّ أنا وبعض أصدقائي أن نختبىء ونركض من الشرطة، ومن هنا كان علي أن أكون جيدًا في لعب الكرة كذلك".

كرة القدم، تتعلق بالحياة

عندما انتقل إلى كورنثيانز في عام 1978، أصابه الضجر من طريقة معاملة مديري النادي للاعبين، وهو الذي جعله يرى صورة المظالم السياسية والاجتماعية في كرة القدم، وخلال فترة لعبه مع كورنثيانز أنشأ سقراط حركة ديموقراطية ليُخلص البرازيل من الديكاتورية القبيحة، وأيضًا لأجل التخلص من التعامل السىء مع لاعبي كرة القدم، وكان داعمًا لوجود حركة ديمقراطية واسعة في الشارع البرازيلي.

قال سقراط عن ذلك "النادي كان يريد التحكم الكامل بلاعبيه، بينما كنا نشعر بأن اللاعبين عليهم أن يكونوا مستقلين وأن لا يعاملوا مثل الأطفال، لم نعترض فقط على المشاكل البسيطة، بل على الصورة السياسية الأكبر".

فاز كورنثيانز ببطولة مقاطعة ساوباولو في 1982، وتمت طباعة كلمة "الديمقراطية" على قمصان اللاعبين "كان هذا أعظم فريق لعبت معه، لأن كان به أشياء أعظم من الأمور الرياضية، وبشكل شخصي كانت انتصاراتي السياسية أهم عندي من انتصاراتي كلاعب محترف، لأن المباراة تنتهي بعد 90 دقيقة، لكن الحياة تستمر بعدها."

في 1984، تكلم سقراط بحضور مليون ونصف المليون شخص في مؤتمر سياسي شعبي، وتفاعل معه الحاضرين عندما قال أن الكونجرس يجب أن يتحرك لضمان شفافية ونزاهة انتخابات الرئاسة، ودعا الحاضرين للتصويت وإسقاط الحكم الديكتاتوري العسكري، ووقتها رفض عروضًا للعب في إيطاليا وبقى في البرازيل، ولكن بعد ذلك لم تأتي هذه الجهود وقتها بنتائج فورية، وقرر بعدها أن يذهب للعب مع فيورنتينا الإيطالي لمدة موسم واحد. 

الضجر في فرينزي

 

وعندما كان في إيطاليا وبالتحديد في مقاطعة فرينزي، المعروفة بتاريخها الطويل مع الفنون، لم يعبأ سقراط كثيرًا بالنظر للسيارات والبيوت الفخمة، كان يريد أن يتعلم من الكتب الإيطالية، وعندما تم سؤاله عن اللاعب الذي يحترمه في إيطاليا أكثر من غيره، وإن كان ماتزولا لاعب إنتر أو ريفيرا لاعب ميلان قال "أنا لا أعرفهم، أنا هنا لقراءة ما كتبه أنطونيو جرامشي بلغته الأصلية، وكذلك جورجيو بوكا ، ولكي أدرس تاريخ الحركة العاملة في إيطاليا".

كما أعلن سقراط وهو في فرينزي، عن عدم إعجابه بسياسة الإعلام الإيطالي في تعامله مع نجوم كرة القدم، وفي هذا الوقت، كانت البطولة الإيطالية تضم أبرز نجوم كرة القدم في العالم "لاعب كرة القدم في إيطاليا يُعامل مثل نجم الروك، يُحظر أن تلمسه، لم يكن الأمر في إيطاليا وقتها مثلما كان في البرازيل، ففي البرازيل أنت على اتصال دائم بجماهير ناديك وهذا ما لم يُعجبني هنا، الجماهير تُعاني من قبضة الأمن، ولا يُمكنك أن تظهر في الشارع أو في واقع الناس بسهولة في ظل تواجد الشرطة."

كان قدوم النجم البرازيلي سقراط لفيورنتينا شيئًا كبيرًا ومفاجئًا لجماهير الفيولا، في تشكيلة ضمت باساريلا وجينتيلي في الدفاع، أنتونيوني في الوسط ومعه سقراط إضافة لبيرتوني، ولكن الفريق البنفسجي لم يجد الاستمرارية المُقنعة في هذا الموسم، وفقد الكثير من النقاط خارج ميدانه، وربما السبب في ذلك هو عدم وجود خط هجوم بنفس مستوى خطي الوسط والدفاع في تشكيلة الفريق هذا العام. العام الوحيد لسقراط في أوروبا سجل فيه 6 أهداف بقميص الفيولا. كان يملك رؤية هائلة للملعب، ولكن إل دوتوري -الدكتور بالإيطالية- لم يتأقلم بالدرجة المتوقعة في السيري آ. ربما كان يحتاج لعامٍ آخر أو يزيد في الكرة الإيطالية، لكن كانت لديه الرغبة والحنين للعودة للوطن وارتداء قميص فلامينجو. وبرغم أن النصف الأخير من البطولة مع المدرب "كارنيفالي" الذي جاء بديلًًا لدي سيستي كان ممتازًا بالنسبة لسقراط، وأحرز خلال هذه الفترة عدة أهداف حاسمة، لكن رغبة سقراط في العودة للبرازيل كانت أقوى.

 

بعد عودته، لعب لفرق فلامينجو، سانتوس وبوتافوجو حتى عام 1989، وحينها قرر اعتزال لعب كرة القدم، بعد مسيرة هائلة انتجت 292 هدفًا في 640 مباراة على مستوى الأندية، و22 هدفًا في 60 مباراة مع المنتخب البرازيلي. كما حقق لاعب الوسط مُتعدد المراكز 9 بطولات مع الأندية التي لعب لها. ورغم أن منتخب البرازيل كان يملك العديد من النجوم في سنوات الثمانينات، إلا أنه أخفق في الفوز بكأس العالم 1982، بعد خسارته الشهيرة والمفاجئة أمام إيطاليا، كما أخفق في الفوز ببطولة كوبا أميركا مع البرازيل، فحقق المركز الثالث في عام 1979 والمركز الثاني (الوصيف) في 1983.

تم اختياره ضمن أفضل 100 لاعب كرة قدم في القرن العشرين، حيث جاء في المركز الحادي والستين في ترتيب مجلة "وورلد سوكر" البريطانية، وكذلك ضمن أفضل 100 لاعب حسب الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، كما فاز بلقب أفضل لاعب في قارة أمريكا الجنوبية عام 1983.

 

قمامة بيليه

في سنواته الأخيرة، رفض سقراط أن يدعم النجم البرازيلي الأشهر بيليه في حملته لكي يصبح سفيرًا لكرة القدم في البلاد لأنه لم يكن يحبه بسبب "اتجاهه للأمور التجارية وكل هذه القمامة" - على حد وصفه-، كما رفض سقراط دعوة من العقيد الليبي معمر القذافي لكي يترشح لرئاسة البرازيل حيث قال "أنا سياسي"، عمل سقراط في الطب الرياضي في بلدته بعد أن ترك مجال تدريب كرة القدم في عام 1999، ومات في 11 ديسمبر 2011 عن 57 عامًا بعد تدهور حالته الصحية في مستشفى ألبيرت آينشتاين في ساو باولو.