شعراء على هامش الأغنية المصرية

منشور الأربعاء 1 نوفمبر 2017

أكتب عن ثلاثة شعراء مهمشين في الأغنية المصرية، رغم أن ما تركوه على قلته كان ذا وزن، في كل من فن الشعر العامي، وفى الغناء المصري

في ظل كثرة شعراء الأغنية المصرية في فترة الثمانينيات والتسعينيات، وتفرغ أغلبهم الكامل لكتابة الأغنية، حتى فرض الكثير منهم وجوده داخل سوق الأغنية فأصبحوا نجومًا، ظهر بنفس الوقت شعراء لفترة قصيرة ثم اختفوا، لكنهم تركوا علامة في الغناء بكلماتهم الشعرية، وذلك لموهبتهم في كتابة قصيدة العامية، حتى أن قراءة أغانيهم فقط تثير الإعجاب، وكما يقال دائمًا "إن أردت معرفة حقيقة جمال الكلمات، فلتقرأها قبل أن تسمعها ملحنة"؛ حيث أن الألحان كثيرًا ما تضفى جمالًا وتأثيرًا على الكلمات، ولكن ليس دائمًا ما ينصف اللحن الكلمات، فأحيانًا يكون اللحن غير معبر عنها، ويجعلها لا تظهر في جمالها الشعرى، أو يخفي معناها.

أكتب هنا عن ثلاثة شعراء مهمشين في الأغنية المصرية، رغم أن ما تركوه على قلته كان ذا وزن، سواء في فن الشعر العامي، أو في الغناء المصري، وهم هاني شحاتة، وهاني زكي، وحسن رياض.

الشاعر هاني شحاتة

هاني شحاتة من مواليد الإسكندرية، تخرج من كلية الهندسة، لكنه ملك موهبة كتابة الشعر العامي، وقد أبدع في كتابته لاستطاعته إدخال لغة وكلمات جديدة على الشعر العامي الغنائي المسيطر وقتها. فتعاون معه الملحن فاروق الشرنوبي لإعجابه بهذه الكلمات، حتى أنه أكثر من أظهر أعمال شحاتة، وذلك عبر صوت الفنان السكندري أيضًا، إيمان البحر درويش، الذي اعتبر شحاتة أحد كتابه الأساسيين، فغنى له "قلب الطير"، و"مكتوب لي أغني لك"، و"حلم التمني". 

ياللي الدهب شعرك مفرود على ضهرك

لو امتلك مهرك، حيقيد لي قنديلك.

يا صابحة متعطرة، من حلفا للقنطرة،

أنا اللي دمعي اشترى، أغلى مناديلك.

يُذَكّر مجرد سماع عبارة "بشرة خير"، هذه الأيام، بأغنية حسين الجاسمي، التي انتشرت منذ سنوات، وقت الانتخابات، بما بها من موسيقى راقصة، ومن كلمات تدعو للوحدة وطنية. لكن الغريب أنها كانت عنوان أغنية من كلمات هاني شحاتة. ليس المقصود أن "بشرة خير" الجاسمي أخفت "بشرة خير" إيمان البحر، التى كتبها شحاتة، ولكن لم يتوقع أي منهما أو جمهورهما، ظهور أغنية وطنية بنفس الاسم، تذكر من يعرفونها بها. لكن الأغنية لم  تكن ذات نجاح مسموع من البداية، ربما لأن ألبوم إيمان نفسه احتوى على أغنيتين هما الأكثر نجاحًا جماهيريًا في تاريخه، وهما "نفسى"، و"ضميني"، هكذا يكون تفضيل الذوق العام للأغنية العاطفية الرومانسية، أو التركيز إعلاميًا على أغنيات دون أخرى. نعود لبشرة الخير الأولى، حيث بقراءتها فقط تجد عذوبة في الكلمات تدخل القلب فتأسره. وهي كلمات تناسب وجها الحبيبة والوطن في الوقت ذاته. لو أردتها لحبيبة صلحت، "مانتيش جمالك زي الغير، مانتيش رموشك جراحة". ولو أردتها للوطن وجدتها تقول: "من صغري، بتشيلي في همي".

على الرغم من عذوبة وقوة لحن فاروق الشرنوبي في التعبير عن الكلمات، والتوزيع ليحيى الموجي، ما يجعل الأغنية ناجحة بالمقاييس الفنية، إلا إنها لم تصل إعلاميًا وقت صدورها.

عمل شحاتة مع بعض الملحنين الآخرين في عدة أغاني، منهم صلاح الشرنوبي، وحمدي صديق، وأحمد الحجار. وغنى له كل من سميرة سعيد، وخالد جيوشي، ورانيا، وإيهاب توفيق، أغنية واحدة لكل منهم. بينما كان لعلي الحجار أربع أغنيات، منها "لحظة غروب"، و"يا موجة يا زرقا". اتسمت بعض هذه الأغاني بالكتابة العاطفية، كالجاري بسوق الأغنية المصرية، لكن يظل هناك ما هو مختلف فى تشبيهات شحاتة، وصوره الشعرية:

لحظة غروب،

أول حقيقة قابلتها بعد الهروب.

والموج يدوب،

بيشد قرص الشمس، ويشد القلوب.

وأنا قلبي عاشق، أنا،

والطريق، مليان ذنوب.

تاهت ملامحك بين إيديه،

بتزفها،

وعينيه بتسرق حلم من قلبي البريء.

والطرحة تطوي ذكريات وتلفها،

وأنا بانطوي، جوا الألم.

لم يناسب الجو العام للأغنية ظهورًا أكثر لهاني شحاتة كشاعر، لكن صديقه إيمان البحر استمر في التعاون معه، حتى بعد اتجاهه للأغنية الدينية. فغنى من كلماته أغنيات فى ألبوم "المسحراتي"، كـ "الحج"، و"الصلاة"، وفى ألبوم "بحر الحياة"، كـ "الحمد لله"، و"ارضى بحالك". كما كتب للإذاعة أشعارًا لمسلسل "واحة الغروب"، وللتلفزيون تتر "لعبة الأيام"، مع الموسيقار ياسر عبد الرحمن. لكن وجود هاني شحاتة الأكبر إلى الآن هو متحقق كناقد فني، فظهر فى لقاءات قليلة يتحدث عن شعراء كبيرم التونسي. وبعد غياب سنوات طوال، ظهرت له أغنية بعد الثورة هي "الوطن"، فى ألبوم "إصحى يا ناير" لعلى الحجار.

الشاعر هاني زكي

اختار هاني زكي أن يكون طبيبًا، وكان الشعر هوايته. لكن اكتشاف هاني شنودة له، وإعجابه الشديد بكلماته، جعله يظهر من خلال أغنيات كان أغلبها من ألحان شنودة، من خلال فرقة المصريين. وعرفه وقتها صلاح جاهين، وغار منه؛ حيث كتب أغنيات كانت من أجمل أغانيهم. في حين أن الفريق كان قوام أغنياته الأساسي من الشاعرين جاهين وعمر بطيشة. ففي ألبوم "ابدأ من جديد"، كان لهاني زكي النصيب الأكبر، بأغنيات "ابدأ من جديد"، و"هزني"، و"لما ابتدينا نغني"، و"لما كان البحر أزرق".

لما كان البحر أزرق،

والنجوم لسه ف مكانها.

وطيور بتحلم، فوق الشجر كل يوم.

لما كان ممكن أصدق،

إن السعادة كلمة واحدة.

ما كنتش أقدر أقرا ما بين السطور.

وبعدها شارك بأغنيتين في ألبوم "حظ العدالة" للمصريين. بينما تجربته الأخرى كانت مع عمرو دياب، من خلال شنودة أيضًا، في أول ألبومين له. فكتب أغنيتين هما، "الزمن"، و"أحضان الجبل" في ألبوم "يا طريق"، وكتب "غني من قلبك"، التي حمل الألبوم اسمها، وكانت بلحن عزمي الكيلاني، الشاب البورسعيدي، القادم مع عمرو، بتشجيع من شنودة.

يتخطى زكي، في هذه الأغنيات، الكلمات العاطفية المعتادة، ليتجه للغناء عن الزمن أو المكان، (كالجبل)، يجسدهما كما يراهما في مخيلته، أو يدخل داخل النفس البشرية، يهزها كطبيب نفسي، ليبحث داخلها عن التمرد، وتكسير أصنام المجتمع، كما في أغنية "هزني". وتتضح لغة هاني زكي الشعرية في كتابته شعر العامية أقرب لعامية نثرية، لا يفكر كثيرًا فى السجع، والشكل الشعري التقليدي. وأكثر ما يعبر بحرية عما يريد، في صورة جمالية، في الوصف ذاته، كما كتب "في أحضان الجبل"، التي يفتقد سماعها تكوين الصورة الكاملة لما يقول، وتحتاج لقراءتها حتى تتخيل المشهد الشعري السينمائي.

في يوم والشمس طالعة، بألوانها البريئة، ولمستها الدهب.

همسك إيدك، وهاخدك لبيت ابيض صغير، في أحضان الجبل.

البيت دا فيه اتولدت، على بابه كبرت،

واتعلمت إني أغني أول غنوة دافية، زي شمسنا،

زي قلوب الصبايا، اللي في حينا.

والألوان البريئة، على أبواب بيوتنا،

على الجدران بتحكي، إن الكون إتولد.

هاجر هاني زكي مبكرًا إلى أمريكا. وأصبح من كبار الأطباء النفسيين هناك. ولم يسع للاستمرار في كتابة الأغنيات. يكتفى بالكتابة لنفسه. ولم يفكر أي من الفنانين في التعامل معه، سوى شنودة، الذي عاد بفرقته يغنى في الحفلات، وغنى له، بعد الثورة، أغنية "فتحتي بابك، حرة يا مصر". ولم يظهر زكي سوى في حوار صحفي منذ سنوات بعد الثورة، يحلل فيه الأثر النفسي لها على المصريين.

الشاعر حسن رياض

يعمل حسن رياض كموظف بالدولة، لكن داخله شاعر حر. ظهر في العديد من الأغنيات في بداية الثمانينيات. فكانت أغنياته هى "إحنا بنعشق بعض"، لأحمد منيب، و"حود"، لمحمد فؤاد، و"مشاوير"، لمحمد رؤوف. لكن أغنياته الأشهر كانت مع على الحجار. في أغنية "من غير ما تتكلمي". و تعاونه مع منير في أغنية "برج حمام"، و"النواصي". ومع عصام كاريكا في "عبد الرحيم القناوي"، و"يا فاطمة". بينما ندرت له أغان أخرى باختفاء مطربيها، كـ"أسمراني" لعاطف متولي، و"بتاخدنى عيونك" لطارق فؤاد، وغيرهما.

يهوى حسن رياض اللعب بالكلمات ذات نفس الحروف، لكنها مختلفة النطق والمعنى، وكذلك استخدام السجع في أبياته، كما في أغنية "حود" لفؤاد. أو كما يقول فى أبياته (ضحاك/فاضحاك/ فاض حاك).

شوفت الوش إزاي ضحّاك؟ شوفت عينيك إزاي فاضحاك؟ شوفت الغِل إزاي فاض، حاك، الأحاسيس بعضٌ من بعض؟ حيثُ الدنيا دنيئة ودنيا، حيثُ الناس حِللٌ ألمونيا،

حيثُ الناس بعضٌ من بعض.

كذلك يتميز رياض في كتابته للشعر باللهجة الصعيدية، فكثيرًا ما تظهر نداءاته للخال والعم. ويظهر تأثير المجتمع الصعيدي، بعاداته وتقاليده في قصصه، كـ "الخيالة"، و"شيكولاتة"، التي تعاون فيهما مع الفنان مدحت الخولي، والمطربة أمل وهبي. أيضًا "النواصى" التي كتبت بها مقاطع لم تسعها أغنية لمنير، وظهرت بها مقاطع معينة من نفس القصيدة.

العمر عدى والحزن عادة. الخطوة مَدّة، وأنا كل ما ده، ألقاها سَدّة، ألقاها سادة. وألقى الفرح عاصي. فين العم الواصي؟ فين الخال الواصي؟ رمشه عدى مزع لي توبي،

وفاتني على النواصي.

رمشه، يا با، غمز لي غمزة، قلت أنا في الوصل همزة. ف الوصال، أبو زيد، وحمزة، وماعرفتش خلاصي. فين العم الواصي؟ فين الخال الواصي؟ رمشه عدى مزع لي توبي،

وفاتني على النواصي.

توقف حسن رياض لفترة طويلة بسبب اختيارات السوق، وعدم الملائمة، التي تبعد الموهوبين، (كسابقي الذكر، الذين لم تسعهم فترة سوى فترة الثمانينيات تقريبًا)، فظلت كلماته حبيسة، يكتبها لكن لم يعد هناك من يغنيها، إلا القليل، كقصيدته "اللي اشترى منك"، حيث لحنها وغناها الفنان المستقل حسن زكي، وكانت من أجمل قصائده.