إيستوود وكوبريك.. عبقرية البساطة والتعقيد

منشور الاثنين 3 أبريل 2017

هل سيفهمُ المشاهد ما نُقدمه؟ وكيف سيتأثر به؟ سؤالان يشغلان بال المخرجين وصناع السينما قبل الشروع في أي عمل جديد.

هنا يقف كلينت إيستوود. يُغلِقُ عينيه وتلتحم خيوط جبهته حين يراوده السؤالان السابقان. فكرةٌ بسيطة هي الأساس في أعماله الفنية. لا يرى سواها. تساعدها تفاصيل وتبرزها لكنها لا تُلهي عنها.  بسيطة لدرجة تجعله يتساءل عن إمكانية انفصال المشاهد عمّا يراه من شدة بساطته.

وهناك يَقِف ستانلي كوبريك. يُعدِّل وضع نظارته الطبية، فيما تدورُ الأفكار والتفاصيل في عقله كخيطٍ يحمل كل جوانب القصة. يتشابك ويتعقد بدرجة كبيرة. درجة تدفعه للتساؤل حول قدرة المشاهد على فهم ما سيراه على الشاشة.

وفي المسافة بين الاثنين يوجد كثير من المخرجين السينمائيين. يقفون على مسافات مختلفةٍ. كلٌ بأفكاره وبنظرته للعمل الفني وبتساؤلاته حول الجمهور . وعلى الرغم من اقتراب العديد من المخرجين من أسلوب إيستوود البسيط من ناحية، ومن أسلوب كوبريك المعقد من ناحية أخرى، إلا أن الاثنان احتفظا بموقعهما على طرفي النقيض من العبقرية الفنية.

البساطة 

أقصى اليمين نرى المخرج كلينت إيستوود. يقف على اليمين في حياته كذلك، فمن المعروف عنه انتماؤه للدولة الأمريكية بشدة وتأييده لها على الدوام. ظهر ذلك جليًا في فيلمه American Sniper.

عرفناه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. نجم وسيم اشتهر وقتها بأداء دور رعاة البقر "كاو بوي" ممتطيًا جواده وشاهرًا سلاحه. جمع بعد ذلك بين الإخراج والتمثيل معًا قبل أن يكتفي بالإخراج فقط.

 

ايستوود في فيلم The Good, the Bad and the Ugly 

تميز أسلوب إيستوود في الإخراج بالبساطة الشديدة. بساطة تصل إلى حد العبقرية، إذ يقع أغلب من يَقُم بتبسيط أفكاره في فخ السطحية، إلا أن إيستوود يحافظ على هذا الخيط الرفيع، فَيَمد صورته بتفاصيل كثيرة تُساعِد الفكرة الأساسية وتعطيها طابعها الخاص، دون أن يُحيّر المُشاهِد معه، دون أن يرهقه ويتعبه، يُريدُه أن يتلقى الجرعة التي يعطيه إياها ويصل إلى قلبه مباشرة دون معاناة.

تجلى أسلوب إيستوود في فيلمه Unforgiven الحائز على ثنائية من الأوسكار؛ أفضل فيلم وأفضل مخرج. ويحكي الفيلم قصة رجل اعتاد حمل السلاح وبرع في استخدامه، ثم تركه بسبب زوجته للأبد، قبل أن يعود بعد زمن في مهمةٍ أخيرة.

بدأ الفيلم وانتهى بهذه القصة دون تعقيد، لكنّه لم يمر مرور الكرام على كلِ من شاهده. بصمة إيستوود ظهرت بقوة حتى أن البعض صنّف الفيلم كأفضل أفلام فئة الغرب الأمريكي "Western" على الإطلاق. جاء بعد هذا الفيلم  عدد من الأفلام التي حملت طابعه الخاص قبل أن تخرج رائعته الأخرى Million Dollar Baby للنور.  الفيلم الذي لم يتعامل معه محبو إيستوود على أنه فيلم رياضي، إذ كثَّف الرجل جرعة الدراما فيه.

ويحكى الفيلم قصة فتاة وجدت معنى لحياتها من خلال ممارستها للملاكمة، قبل أن تتبدل الأمور رأسًا على عقب بما لم يتخيله المُشاهِد. وفي النهاية يتركنا الرجل مع موسيقى حزينة اعتدنا أن نسمعها في نهاية أفلامه. موسيقى نسمعها ونعيد التفكير في كل أحداث الفيلم، في كل مشاهده وكل تفاصيله.

التعقيد

في أقصى اليسار نجد كوبريك. وقف على اليسار أيضًا في حياته عنيدًا متحررًا من سلطة هوليوود. أفلامه كما يقولون خارج الصندوق. خارج أي نسق وأي شكل متعارف عليه.

وقف أمام الولايات المتحدة متحديًا سواءً بفيلمه Full Metal Jacket الذي تحدث عن حرب فيتنام، أو بما أُثيرَ حول تصويره لمشاهد الهبوط على القمر ورفع علم الولايات المتحدة فوقه، وعودة الحديث عن مدى صحة هذه المشاهد التاريخية التي كُتِبَت في التاريخ الإنساني كبداية لغزو الفضاء.

https://www.youtube.com/embed/KoCucyxz5ZI

تميز اسلوب كوبريك بالتعقيد الشديد. كمٌ هائل من التفاصيل داخل الفيلم لابد أن يكتشفها المُشاهِد وحده دون مساعدة، فبخلاف جودة أفلامه وتفرُّدها من حيث زوايا وأسلوب التصوير، تأتي أفلام الرجل مليئة بالألغاز التي ربما ستظل تبحث عن حلول لها طوال عمرك. هذه الألغاز  لن يحلها لك كوبريك في النهاية مثلما يفعل كريستوفر نولان، بل سيظل عقلك يفكر في أدق التفاصيل التي لن تقوى على متابعتها كلها في المرة الأولى لمشاهدتك الفيلم.

 

ستانلي كوبريك وراء الكاميرا

تجلى أسلوب كوبريك في فيلمه 2001: A Space Odyssey ، الفيلم الحائز على أوسكار أفضل مؤثرات بصرية لما قدمه من تفرد في مشاهد الفضاء في عام 1968، وهو الفيلم الذي تسير على خطاه أغلب أفلام الفضاء حتى يومنا هذا، ليس هذا وحسب، فالفيلم يقدم قطعة فنية منفردة في بدايته هي الأشهر والأغرب في تاريخ كوبريك، إذ بدأ الفيلم بتصوير بداية حياة الإنسان على الأرض في هيئة قردة بدائيين، وإظهار حياتهم وصراعهم وصولاً إلى وقوع جريمة قتل رفع معها القرد البدائي سلاحه -العظام- بين يديه منتصرًا.

 أعقب هذا قفزة مفاجِئة في الفيلم بين هذه الحقبة وبين حقبة التطور التكنولوجي الهائل الذي وصل إليه الانسان من خلال مركبة فضائية دارت فيها باقي الأحداث؛ إلا أن كوبريك لم يكتفِ بذلك بل وضع نهاية غريبة جعلت كل من شاهد الفيلم في حيرة من أمره. 

ومع توالي أفلام كوبريك وألغازه ترسخ في أذهان محبيه أنهم سيبحثون عقب كل فيلم عن حلول لتلك الألغاز مهما طال بهم الوقت. فيما ابتعد من لم ينجذبوا له من البداية أكثر وأكثر.

إيستوود وكوبريك، على اختلافهما، كانا يبحثان عن إجابات للسؤالين السابقين: هل سيفهم؟ وكيف سيتأثر؟ أحدهما -كوبريك- كانت وسيلته السيطرة على عقل المشاهد. أمّا وسيلة إيستوود فكانت النفاذ إلى قلبه.