أهرامات السودان .. لماذا نحتفي بـ"الأشياء الصغيرة"

منشور الخميس 23 مارس 2017

مثلت الأهرامات "عقدة نفسية" أمام غالبية من حكموا مصر. وربما طرح هؤلاء الحكام المحدثين علي أنفسهم سؤالاً حول "ما هي الأثار التي سيتركونها على جغرافيا مصر في مقابل هذه الأهرامات؟"

تلقف مستخدمون مصريون للشبكات الاجتماعية صور الشيخة موزة والدة حاكم قطر خلال زيارتها للأهرامات البجراوية في السودان، ووجدوا فيها فرصة لإذكاء الخصومة السياسية بين مصر وقطر، متخذين من تلك الزيارة دافعًا للسخرية من أهرامات "مملكة كوش"، حد الادعاء بأن حاكم قطر قد ابتنى تلك الأهرامات ليمتع والدته بزيارة بديل للأهرامات المصرية.

 

الشيخة موزة المسند خلال زيارتها لأهرامات مروي 

ما خرج به السودانيون من حملة السخرية تلك، أن المصريين لا يعرفون ما هي الأهرامات البحرية "البجراوية".  فـ"مروي" هي العاصمة الثالثة لمملكة كوش بعد "كرمة" و"ناباتا". فكما تعددت عواصم المملكة المصرية القديمة مع مرور الزمن، تعددت عواصم "كوش" المملكة التي امتدت زمنيًا من القرن الثامن وحتى القرن الرابع الميلادي. كما تمدت جغرافيًا حتى صارت في أوجها أكبر الممالك الإفريقية ووصلت لشواطئ البحر المتوسط، وتعد واحدة من أقدم ممالك إفريقيا.

                                            

حدود وامتدادات مملكة كوش النوبية السودانية

 واستنادا إلى هذه العواصم الثلاث، يقسم تاريخ مملكة كوش إلى ثلاث فترات زمنية. الأولي؛ وتعرف بحضارة كوش المبكرة، تطورت حول منطقة كرمة التي تقع أعلى الجندل الثاني، في النوبة العليا. ونشأت حوالي 2400 قبل الميلاد، وأصبحت عاصمة مملكة كوش بحلول عام 2000 قبل الميلاد. ويوجد حتى الآن بعض آثار هذه الحضارة المبكرة في كرمة، من معابد، ومعدات الصناعات والصهر المتقنة، والمساكن، والمدافن الملكية.

 أما الفترة الثانية والأكثر ازدهارًا، كانت حول مدينة ناباتا "نبتة".  بدأت خلال القرن الثامن والسابع قبل الميلاد، حيث شهدت كوش نهضة غير عادية، ففي حوالي 730 قبل الميلاد، قام بيعنخي (المعروف أيضا باسم بيي) ملك ناباتا، بتوحيد وادي النيل من البحر الأبيض المتوسط حتى مروي (كبوشية)، مؤسسًا واحدة من أكبر ممالك القارة الأفريقية. وأصبح هو وخلفاؤه يشكلون أسرة مصر الخامسة والعشرين والتي تسمى أيضا "بالفراعنة السود" أو الأسرة النوبية وتعرف بـ"أسرة كوش".

انتهت الأسرة الخامسة والعشرين وانتهى حكمها لمصر بعدما هُزم آخر ملوكها أمام الغزو الأشوري، وتم إجلاء الكوشيين عن مصر في حوالي 653 ق.م، وأسس بسماتيك الأول الأسرة المصرية السادسة والعشرين بينما استمرت مملكة كوش في السودان بعد التراجع من مصر لنحو ألف عام.

                                     

فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين 

 ومن الأسرة السادسة والعشرين قرر بسماتيك الثاني (595 -589 قبل الميلاد) محاربة الكوشيين، ووصلت قواته إلى العاصمة الكوشية ناباتا بعد سلسلة من المعارك العنيفة عام 591 قبل الميلاد. مدمرًا في طريقه التماثيل الملكية التي أقيمت لهم بالمعابد المصرية. وفي أعقاب هذه الحملة، استعاد ملوك الكوش السيطرة على النوبة -مملكة ناباتا، لكنهم لم يمددوا قوتهم ابعد من الجندل الثاني –شمال السودان.

أما الفترة الثالثة والتي بدأت خلال القرن الرابع قبل الميلاد حين قرر الملوك النوبيون -وربما نتيجة لتهديد الجيوش الشمالية- نقل مركزهم السياسي إلى مروي، جنوب الجندل الخامس، وهي منطقة واقعة بين نهر عطبرة والنيل الأزرق، وتقع ضمن شبكة من الطرق التجارية عبر البحر الأحمر. وهكذا اصبحت مروي عاصمة إمبراطورية نوبية مزدهرة.

الأهرامات الصغيرة

أهرامات كوش في مروي 

تعود الأهرامات مثار السخرية لهذه الحضارة التي يصفها البعض بأنها مثلت همزة الوصل بين أبناء النيل، واستطاعت أن تمزج بين الحضارات الفرعونية والأفريقية.

أقام ملوك كوش حوالي ثلاثة مائة هرم بالسودان ومائة أخرى فى مصر. إلا أن المقارنة التي أجراها الساخرون كانت تحديدا بين الأهرامات البحرية بمروي وأهرامات الجيزة.

هناك اختلافين رئيسين على الأقل بين أهرامات مصر وأهرامات السودان. الفرق الأول أن أهرامات السودان خلدت جانبا إلى جنب ذكرى ملكات وملوك، بينما خلدت الأهرامات المصرية ذكرى الذكور من الملوك فقط. علي سبيل المثال الهرم 21 بالأهرامات البحراوية هو للملكة أماني ريناس الشهيرة بـ (الكنداكة) وهي زوجة الملك تريتكاس الذي خلفته هي في الحكم. وأطلق لقب الكنداكة على عدة ملكات وليس على أماني ريناس وحدها. ويرجح أنه يعني الملكة الأم أو الأم العظيمة. أما الفرق الثاني فهو الحجم، فالأهرامات المصرية ضخمة، في حين أن الاهرامات السودانية صغيرة الحجم. ويتراوح ارتفاع أهرامات مروي بين 6 أمتار حتى 30 مترًا، ولا يتجاوز عرض قاعدة الهرم ثمانية أمتار.

لم ترتكز المقارنة التي أجراها الساخرون علي حسن العمارة ولا روعة الفن، وإنما خصت ضخامة حجم الأهرامات المصرية مقارنة بالسودانية.

                                     

حارس ومواطن سوداني يتطلعان إلى أحد أهرامات مروي

غواية الضخامة

مثلت أهرامات الجيزة مشروعًا عملاقًا ترك علامة فارقة في جغرافيا مصر عبر العصور، كما ترك مرجعًا في المخيلة الجمعية عما تعنيه مصر. وأتصور أن أهرامات الجيزة مثلت أيضا هاجسًا أساسيًا لكل من تولى حكم مصر. فهذا الأثر الجغرافي الكبير الذي تركه الملوك القدامى مثل "عقدة نفسية" أمام غالبية الحكام اللاحقين الذين حكموا مصر. وربما طرح غالبية هؤلاء الحكام المحدثين علي أنفسهم سؤالاً حول "ما هي الأثار التي سيتركونها على جغرافيا مصر في مقابل هذه الأهرامات؟"

فالمقارنة الشهيرة بين حجم الردم المستخدم في جسم السد العالي وحجم الهرم الأكبر ليست بالمقارنة العفوية، حيث تحرص وسائل الإعلام المصرية منذ عهد عبد الناصر على الإشارة لكون حجم الردم المستخدم في بناء السد العالي يزيد 17 مرة عن حجم الهرم الأكبر.

بلا شك إذن، شغلت الأهرامات ذهن الحكام. المشروع الضخم والمشروع العملاق والإعلان عن إنشاء "أكبر أي شيء" يمثل هاجس مسيطر على ذهنية الحكام في مصر. يمكن فقط متابعة أخبار العاصمة الإدارية الجديدة، أو الضجة التي رافقت تفريعة قناة السويس التي صارت "قناة سويس جديدة"، لإدراك مدى سيطرة فكرة "المشروع الضخم" على أذهان حكام مصر حتى الآن.

عقدة "المشروع العملاق" المتوارثة لدى الحكام المصريين مرتبطة بشيء آخر بالغ الأهمية، وهو أن الجغرافيا لا تُخلِّد إلا الملوك والحكام. لا نعرف مثلا أسماء العمال الذين ساهموا في بناء الهرم، ولا الذين حفروا ترع المحمودية والإبراهيمية والقناطر الخيرية، ولا اؤلئك الذين حفروا قناة السويس. كما أننا لا نعرف أسماء من ماتوا أثناء بناء السد أو جراء التهجير الناتج عنه. لكننا نعرف وبفضل مؤرخين محدثين أن قناة المحمودية اودت بحياة 12 ألف شخص، بحسب كتاب عجائب الأثار في التراجم والأخبار للجبرتي.

قضى 12 ألف مصري حتفهم في حفر تلك القناة التي عني بها محمد علي عناية خاصة كواحد من مشاريعه الضخمة، وكان موتهم جراء الجوع والبرد والطاعون. والأمر ينطبق على حفر قناة السويس الذي لقي خلاله 120 ألف مصري حتفهم. كما لا نعرف أحدا ممن بنوا السد العالي غير حراجي القط، فقط لأنه مجرد شخصية افتراضية اخترعها الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ليخلد ذكري أحد العمال عبر سلسلة خطابات من ذاك العامل الخيالي لزوجته.

                                      

حفر قناة السويس 

هذه الاشكالية المرتبطة بذهنية المشروع الكبير هي التي انتقلت إلينا نحن المواطنين من حكامنا، ومن القراءة الرسمية لتاريخنا وجغرافيتنا التي تحتفي بالكبار من "البشر" و "الحجر"، وتخفي أو تمسح، أو بالأحرى تحتقر كل ما هو صغير، بشرًا كان أم حجرًا.

 وكأن المصريين بسخريتهم من هذه الأهرامات التي مثلت لهم "أشياء الصغيرة"؛ هم في الحقيقة يسخرون من ذواتهم ومن أسلافهم العمال والبنائيين الصغار الذين نسيهم التاريخ، ويروجون رؤية الحكام والمسيطرين عما هو جدير بالاحتفاء والاحترام في التاريخ والجغرافيا من البشر والحجر.

في المقابل تأتي الأهرامات السودانية الصغيرة لتقدم شهادة على أن الأشياء الصغيرة ليست فقط جميلة؛ لكنها أيضا قادرة على البقاء لأزمنة طويلة دون تكاليف بيئية وبشرية باهظة. لذلك يبدو لي أنه من المهم أن ندافع عن الأشياء الصغيرة، لأنها تشبهنا ومصممة لتكافئ أحجامنا، نحن الناس العاديين غير المنتمين للكبار.


المصادر

1- منى عبد الفتاح, المرأة السودانية "صدى الكنداكات العرب"، نُشر في 2014/03/08، العدد: 9493، ص 9.

2- محمد كريم, أهرامات مروي في السودان, 1 يناير 2017 . العربي الجديد.

3-أسامة عبد الرحمن النور, نبذة مختصرة عن تاريخ السودان القديم حتى إنهيار الممالك المسـيحية السـودانية, موقع أركماني, مجلة الآثار السودانية.

4- ويليام آدمز " النوبة رواق إفريقيا " ترجمة د . محجوب التجاني 

NUBIA. CORRIDOR TO AFRICA. By William Y. Adams. Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1977.

5- Boddy-Evans, Alistair. "Kingdom of Kush." About.com. N.p., 2012. Web. 25 Sept. 2012.

6- https://www.thoughtco.com/the-kingdom-of-kush-171464

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.