الخوف والوجوم لايزالا مسيطران على بعض الأسرة النازحة- خاص للمنصة- تصوير: مصطفى بهجت

البيوت وجهاز البنات.. مسيحيو العريش النازحون يبكون شقا العُمر

منشور السبت 4 مارس 2017

أسبوع بالتمام والكمال، مرّ على بدء نزوح مواطني العريش المسيحيين منذ الخميس 2 مارس/ آذار الجاري، مدفوعين بخوف من الموت وأمل في النجاة لاحت لهم في محافظات، أقربها الإسماعيلية، التي بلغ عدد النازحين إليها، حتى يوم الثلاثاء الماضي، 133 أسرة، وفقًا لبيان رسمي صادر عن الكنيسة.

قبل سبعة أيام، كان تفكير الفارّين في الممتلكات والمقتنيات، رفاهية لا يقدرون على تبعاتها،  أما بعد تلّمُسِهم شيئًا من الأمان بعد ذلك؛ صارت الرفاهية بالنسبة لهم هي الانصياع لنصائح "الاستجمام" التي أسداها لهم البعض، وتجاهُل ما تركوه خلفهم، من بيوت وأراضي، وضعوا فيها "شقا العمر"، كما حكوا في قلق وخوف لـ"المنصّة".

موت وخراب ديار

في ساحة كنيسة الأنبا أنطونيوس بمدينة المستقبل، وقف ذو الجلباب الصعيدي يتلّفت للقاهريين المحيطين به، ويبادر بمحادثة كل من يطمئن عليه منهم، قائلًا "اسألني وأنا اجاوبك".

قبل شهر واحد، كان هذا العجوز شحاته حنا، مستقرًا في بيت يملكه بالعريش، مدينته منذ 32 سنة، حيث يعمل بائع مفروشات "حصير وسجاد"، إلى أن قرر الفرار من التكفيريين تاركًا بيته وبضاعته "أنا طالع من البلد- بأمانة- بجلابيتي"؛ وصار بعد ما سمعه من أهوال، راغبًا عن العودة "مش راجع، أنا اتقَطَرْت (تعرّض للتتبع) مرة واتنين وتلاتة، وكنت هتضرب، وربنا ينجيني".

لجأ "شحاته" إلى السلطات الأمنية، حتى انتابه اليأس "ما الشرطة والجيش بتنضرب معانا، وماحدش جايينا"، كما حكي عن الردود الرسمية على استغاثاته وأقرانه "نبلّغ، يقولولنا احمي نفسك. طيب أنا معايا حاجة نحمي نفسي؟! أنا يحميني ربنا. لو فيه سلاح هيقبضوا عليك (السُلطات) من عشية، ويلقحوك في السجن. نحمي نفسي بإيه؟ واحد جاييني بطلقة نطلعله بعصاية ولا بطوبة؟!".

 

شحاته حنا، أحد نازحي العريش- تصوير مصطفى بهجت

غياب الأمن- كشعور وإجراءات- فعل أهوالًا، يحكيها شحاته "كنا قاعدين ورا البيبان كده، الواحد مستني الساعة بتاعته، يا يموت يا يصبح الصبح عليه، 11 يوم بالهيئة دي، أنا مانعستش لحد اللحظة دي، حتى هنا نوم تخطيف".

في سبيل الحياة، ترك الرجل ما عمّره في سنوات "بيت أبويا بعته في الصعيد، وكلّفت بيه في العريش، أرض 150 متر في السُمرات وبيت 130 متر، كل ده راح مننا. إيه اللي استفدناه من العريش؟! عَمّر شمال سينا، رُحنا نعَمّر شمال سينا، اتطينت على دماغنا في النهاية. فين التأمين؟ دي قدرة وعناية ربنا اللي طلّعتني".

ورغم الخسائر، يبادر البائع، الذي يعول ابنه المريض، بإعلان تنازله عما يملك، في سبيل أمنهما "إحنا عايزين مكان من الدولة، ولو عايزين أملاكي اللي في العريش، أنا اتنازل للدولة، بس ادوني شقة هنا".

قبل 3 أعوام تقريبًا، رحل أهالي الشريط الحدودي بمدينة رفح بشمال سيناء، عن منازلهم، امتثالاً لتحركات رسمية من الدولة، بدواعي الحفاظ على الأمن القومي في المحافظة المُضطربة، وحينها أعلنت الحكومة صرف تعويضات عن ممتلكاتهم.

لكن في حالة العريش الحالية، فبدأ تحرك الحكومة بزيارات من مسؤولين لأماكن استقبال الأسر النازحة، وشهد ذلك وعودًا بتقديم الدعم المادي والتعويضات، فضلًا عن الرعاية الصحية، وتلا ذلك تحركات فردية ومنفصلة من مديريات التضامن في بعض المحافظات مثل الإسماعيلية والغربية.

بدا شحاته متماسكًا، مُدركًا خسائره المادية، لكن ابن بلده شاهين عادل، الذي كان والده أول ضحايا موجة القتل الأخيرة، لم يطاوعه لسانه للحديث عن خراب الديار، بل عن خسارته الكبرى "كنت راجع من الشُغل وسمعت صوت أمي بتصرخ، إلحق أبوك، ببص لقيته واقع غرقان في دمه".

يصمت شاهين، ثم يكمل بنفس الصوت الهامس، الذي يحمل ذهولًا لم يفارقه "كان فيه ضرب في كل حته، وهو بيبص من الشباك اتقتل" يتوقف الحديث فجأة، ويعاود الرجل احتضان طفلته.

جهاز البنات

على بُعد أمتار من شاهين، داخل أحد محال إقامة النازحين بالإسماعيلية، جلست سيدة- تتحفظ"المنصّة"على ذكر اسمها بناءً على طلبها- في حال أفضل منه، رُبما لأنها نجت بكامل أفراد العائلة، التي لم تعرف غير العريش بلدًا، منذ 20 عامًا، وحتى فارقتها في يوم لا تتذكر السيدة مما كابدته، إذا كان خميسًا أم جمعة.

السيدة وزوجها المريض، اللذين يعولهما أبنائهما الأربعة، بتجارة الخضار، لم تتردد في ترك المدينة، تمهيدًا لرحيل نهائي عنها "سِبت كل حاجتي هناك، ولما الجو يهدى هارجع، لكن علشان ابيعها وأعيش في أي حتة"، وتقطع المخاوفُ حديثها عن الخطط المحتملة "صعبان عليا بيتي اللي بنيته، شقا العيال كله فيه. جبت معايا أوراقه، لكن جهاز بنتي المخطوبة هناك".

تتعزّى المرأة ذات الجذور الصعيدية، بوجود "سلفتها"- (زوجة شقيق زوجها)-  معها، وتناديها لتأخذ دورها في الفضفضة، فتتدفق كلمات السيدة- التي تتحفظ "المنصّة" على ذكر اسمها بناءً على طلبها- "أنا عشت 22 سنة في العريش، ودلوقتي سيبتها بجلابيتي. بيتنا اللي بقالنا 20 سنة بنجهّز فيه، و3 حتت (قطع) أراضي، وابني سايب شقته متجهزة، كل ده سيبناه، حتى جهاز البنات التلاتة هناك. احنا خايفين نرجع يموتونا".

هان شقا العُمر أمام العُمر نفسه "بدأوا يقتّلوا مسيحيين في البيوت؛ فخفنا على العيال" تقول السيدة الصعيدية، دون لوم أحد "مش مقصرين معانا الشرطة ولا الكنيسة، أصل بيضربوهم برضو"، وكل ما تصبو إليه الآن هو لحظة العودة "نفسي ارجع بلدي العريش، ده عيالي راحوها وهما صغيرين، ومنهم 3 مولودين فيها".

مرارة الخُذلان

لكن "سمير. ش"، وجّه تهمة التقصير، صراحة، لرعاة الكنيسة في العريش، والذين شكّلوا قبل أيام، وفدًا لزيارة النازحين قسريًا في الإسماعيلية، طالبهم بالعودة؛ "إحنا لجأنا للآباء قبل ما نيجي بـ3 أو 4 أيام، لما لقينا المواضيع بتتطور، والكنيسة قالتلنا (اللي عايز يمشي يمشي، واللي عايز يقعد يقعد)، دلوقتي جايين ليه وبيقولولنا ارجعوا؟ فيه آباء قالت لنا ماينفعش كدا واللي عايز ممكن يرجع، قلتلهم تضمنولي أعيش بآمان؟!".

علمت "المنصّة" من بعض النازحين، أنهم حاولوا قبل الرحيل لقاء أسقف شمال سيناء، الأنبا قُزمان، فاشترط مقابلة اثنين منهم فقط، وطالبوه بالحماية، ومساعدات مادية للأسر التي لزم أربابها- غير الموظفين- البيوت خشية القتل، وهو ما وعدهم بتحقيقه، دون استجابة فعلية؛ ما دفعهم للرحيل عن المدينة وترك كل شئ.

وفي تصريحات صحفية اليوم، أكد أسقف شمال سيناء، ما ردده النازحون، بقوله إن "الكنيسة في العريش لم تطلب من الأقباط ترك المدينة، وإن الثلث تقريبًا من مسيحييها ما زالوا موجودين إلى الآن".

"صدقيني أنا سايب بيت 200 متر، دورين، وطلعت بهدومي، يعني شوفتي لما حتى ورق البيت مش واخده. أصل انتي خايفة تموتي، لو كان عليا كنت طلعت حتى بالعفش (الأثاث)، ماطلعتش بحاجة" يقول سمير العامل في "طايفة المعمار" ثم يشير لملابسه المُمَزقّة "ده حتي هدومي دي بتاعة الشغل، مش هدوم نضيفة يعني".

ويبدو على سمير اليأس من العودة لحياة يراها ولّت "صدقيني هنرجع نلاقي بيوتنا مفيش حاجة فيها، ترجعي إيه؟ ومين يعوضني؟ هناك فيه حرامية عارفين بيوتنا مفيهاش حد، ومفيش أمن. تتوقعي إيه انتي؟".

همّ يضحّك ومستقبل مُظلم

لا يختلف "أسامة. ش" عن بقية نازحي العريش، فهو مَن سكن أبوه المدينة منذ عام 1980؛ فسار على خطاه واستقر بها منذ 19 عامًا، ليعول أطفاله الخمسة من عمله كبائع متجول "ببيع تليفونات وخضار، أي حاجة بشتغل فيها"، حتى هجّرته العمليات الأخيرة، ودون تردد "والله ما فكرّنا، أهم حاجة الأمان، الواحد لو هياخد عياله ويطلع يشحت بيهم، بس يشوفهم قدام عينه سُلام، بالدنيا وما فيها".

ترك أسامة منزل بمساحة 200 متر، وآخرين ملكًا لعائلته "سايبين بيوتنا بعفشها (أثاثها)، والواحد بالعافية خرج بكام غيار للعيال الصغيرين، ده الهدوم مالحقناش نعبيها في شنط، بقينا نعبيها في شوايل (أجولة) الخضار، والليلة الأخيرة قبل ما نمشي، بيّتناها في الشارع، لجان شعبية، لدرجة إننا آخر الليل كنا بنعد الثواني علشان يطلع الصبح والعربيات تيجي. وصدقيني، الرجوع هيبقى صعب".

وفي غمرة حزنه ويأسه، ترتسم على شفتي الرجل ابتسامة، حين سُئل عن ممتلكاته  "سِبت البيت لناس مسلمين تبعي كدا وصحابي، قلتلهم البيت أهوه والمفتاح أهوه، والبيت بيتكم واتعاملوا، ده حتى من ضمن الهزار قلت لواحد فيهم، إنت بتورثني شرعًا دلوقتي. هعمل إيه؟ ما هم يضحك وهم يبكي".

أما سامح عادل، فقضى في العريش 35 عامًا، هي عمره. وهناك بدأ تجارته في الأدوات الصحية، التي يقدّر قيمتها بـ800 ألف جنيه، تُمثّل بعضًا من ضريبة رحيله عن بلده، إثر مقتل زوج وابن عمته يوم 21 فبراير/ شباط الماضي.

"حسينا بقى إن الدور جاي علينا، طول الليل مش نايمة، متوقعة إن حد يخبط عليكي" يقول سامح عن دوافع الرحيل، الذي لم يكن مُرتّبًا "تصدقي إن فكرة المَشَيان دي ماكانش معمول حسابها! احنا رحنا عند عمتي في السويس علشان ندفن الشهيدين، لأن ماعندناش مدافن للمسيحيين في العريش، رُحنا على أساس هنرجع تاني، واحنا بندفن سمعنا خبر قتل جديد؛ فقلنا مش هينفع نقعد تاني".

يحكي الرجل العائل لطفلين وأمهما عما خسره "أنا جايب شقة لوحدها بـ550 ألف جنيه، وصارف عليها 250 ألف جنيه تشطيب، بقت مقفولة، وعفشي (الأثاث)، ده غير إن المحل والمخزن مقفولين، لكن مراتي قالتلي ماعنديش استعداد إني اسيبك"، ويتعجب من نظرة البعض للنازحين "فيه بعض حاجات بتزَعّل الواحد برضو، يعني ناس تقولك أنتو هنا مستريحين يا عم، أكلين شاربين نايمين؟".

 

يحاول سامح تجاهل التفكير في مستقبل يراه مُظلمًا- تصوير: مصطفى بهجت

ويضطر سامح، في عزّ أزمته، للرد على الأقاويل "هي الحياة كلها أكل وشرب؟! أنا واحد ليا شغلي، وفلوس بَرّه وعليا فلوس، اللي عليا دي أنا مضمون ادفعها، طيب اللي ليا؟ ناس بقى بتدفع وناس مابتدفعش، اتصل بيهم أقولهم يا جماعة الظروف اللي احنا فيها، معلش جمّعوا من بعض؛ فالناس تقولك الظروف والدنيا، ما هو الناس برضو مغلوبة على أمرها، هما مش شغالين، البلد حالها وقف".

ورغم الأزمة، يتهرّب الرجل من التفكير فيما هو آت "بتفكري في مستقبل مظلم مجهول. والعيال اللي طالعة دي مستقبلها إيه؟ ومهما الدولة تعوضني، بكام؟ وعلشان برضو مانظلمش الدولة، احنا جينا لوحدنا ماحدش قالنا تعالوا، لكن أنا دلوقتي عندي محلّي وزبايني والتُّجار اللي بيشتغلوا معايا، كل ده يتعوض إزاي؟ هروح بلد بقى مش عارف فيها حد، وابدأ حياتي من نقطة الصفر!".