بعد وعد جديد بمغادرة الحكم.. أي "سودان" سيتركه البشير؟

منشور الأحد 21 أغسطس 2016

جدد الرئيس السوداني عمر البشير تعهده بترك الحكم بانتهاء ولايته الحالية عام 2020، مُجددًا نفي اعتزامه الترشح مرة أخرى للجلوس على كرسي الحكم، الذي يحتله منذ انقلاب 30 يونيو 1989. وأضاف البشير في التصريحات التي نقلتها صحف ووكالات أنباء ومواقع إخبارية عدة منذ يوم أمس: أنه يعتزم الابتعاد عن عالم السياسة.

تصريحات "البشير"، الذي أتم في 2016 عامه الثاني بعد السبعين، هي تكرار لتصريحات مشابهة تحمل المضمون نفسه، أدلى بها البشير لصحيفة لوموند الفرنسية في فبراير/ شباط 2015، ثم كررها في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية  "بي بي سي"في إبريل/ نيسان من العام نفسه. وذلك بعد إعلان فوزه بانتخابات الرئاسة التي ترشح فيها وحيدًا، وسط مقاطعة واسعة من الحركات السياسية والحزبية والمسلحة في السودان، وبعزوف جماهيري، ورغم أنه كان لا يحق له الترشح دستوريًا.

انقلاب عسكري ووعود لا تتحقق

شهد السودان، في عام 1985، إزاحة الرئيس جعفر النميري عن الحكم بعد احتجاجات شعبية ضده، انتهت بانقلاب عسكري قاده المشير عبد الرحمن سوار الذهب، الذي حكم البلاد لعام واحد فقط- كفترة انتقالية- سلّم بعدها الحكم إلى حكومة مدنية بقيادة الرئيس أحمد الميرغني، ورئيس الوزراء الصادق المهدي.

لكن البلاد لم تكد تتمتع بحكم مدني عامين متتالين، إلا وفوجئت في العام الثالث، وتحديدًا في 30 يونيو 1989، بخبر بثته إذاعة أم درمان الرسمية، يعلن عن نجاح انقلاب عسكري جديد. لم يكن زعيمه هذه المرّة "سوار الذهب"، بل القائد العسكري عمر البشير، الذي أعلن نفسه بعدها رئيسًا لمجلس الحكم الانتقالي ورئيسًا للوزراء ووزيرًا للدفاع وقائدًا أعلى للقوات المسلحة، قبل أن يعلن لمجلس الحكم الانتقالي في اجتماع مسجل أنه قرر أن يكون رئيسًا للبلاد.

 

صارت الدولة تحت حكم عسكري تقوده حكومة "الإنقاذ الوطني"، بدعم ديني من الجبهة الإسلامية القومية (الإخوان المسلمون في السودان)، ولم يحد الرئيس عن درب الشريعة الإسلامية، المُحْتَكَم إليها منذ عام 1983، بموجب قرار من الرئيس الأسبق جعفر النميري فرضها به على كامل البلاد، حتى الجنوب ذي الأغلبية المسيحية. ووقتها كان الجنوب يخوض بالفعل صراعًا طائفيًا رافضًا للتمييز العرقي والديني، الذي تمارسه ضده حكومة الخرطوم، حيث تتركز الأغلبية المسلمة شمالاً.

لم يلتفت النظام الجديد، الذي يقوده عسكري، كان مسؤولاً عن العمليات التي تستهدف "متمردي" الجنوب لذلك الصراع الأهلي، أو لما تتطلبه التركيبة الطائفية والعرقية في البلاد من حساسية خاصة في الحكم، إذ فرض عام 1991 زيًا موحدًا على مواطناته، تقع من تخالفه، أيًا كانت ديانتها، تحت طائلة المادة 152 من قانون العقوبات الصادر في العام نفسه، والذي يتضمن أحكامًا ضد شرب الخمر ولعب القُمار. وهو ما كان بمثابة إنذارٍ مبكرٍ بما ستشهده السودان في سنوات لاحقة من تضييق على الحريات السياسية والشخصية معًا.

 

احتجاجات نسوية على عقوبة الجلد بسبب ارتداء البنطال

وعلى الرغم من استحداث عدة قوانينجديدة في عهده؛ إلا أن البلاد لم تحتكم إلى أية دساتير منذ نجاح الانقلاب، إذ عطّل البشير الدستور السابق على عهده، ولجأ إلى إصدار مراسيم دستورية، حتى كان العام 1998 الذي شهد وضع أول دستور للبلاد، استمر العمل به بالتوازي مع تجدد ولايات "البشير"- الذي يصف نفسه الآن بأنه "ليس ديكتاتورًا"-، عبر انتخابات دأبت قوى المعارضة السياسية على مقاطعتها، واعتاد الشعب أن يرى البشير أحد مرشحيها، مخالفًا ما يعلنه من عزمه عدم الترشح، وآخرها انتخابات 2010 التي تعهد البشير قبلها بعدم الترشح وترك الحكم، لكنه كرر ترشحه وأعلن فوزه، ثم ترشح مرة أخرى عام 2015.

وقتها؛ ورغم أن دستور 2005 يقضي بمنع ترشح الرئيس لأكثر من فترتين رئاسيتين؛ إلا أن البشير ترشح للمرة السادسة منذ استيلائه على الحكم، وهي المرة الثالثة منذ إقرار دستور 2005. وبالطبع تكرر إعلان فوزه للمرة السادسة. وبهذا؛ سيبلغ مجموع سنوات حكمه بحلول عام 2020، 31 عامًا.

بلد مُنقسم ورئيس مُلاَحق وشعب يتمرد

لم يُشعل "البشير" الحرب الأهلية في السودان، فهي كانت موجودة بالفعل قبل انقلابه العسكري بست سنوات، لكن هذا لا ينفي أنه كان أحد عوامل إذكاء نيرانها، عبر قرارات ساهمت في تأجيج الاحتجاجات ضده.

ربما يكون أول تلك القرارات إعلان حكومة الخرطوم عام 1992 "الجهاد" ضد "المُرتّدين"، وهو المعني الذي أكده عام 2002، وكرره نائبة السابق علي عثمان طه ووصم به المعارضين، ليصل النزاع العرقي في البلاد حد الاستفتاء على انفصال الجنوب في يناير/ كانون ثان 2011، وتنفيذه فيالتاسع من يوليو/ تموز من نفس العام، ما أدى لعواقب اقتصادية وخيمة، كان منها فقدان الحكومة نسبة 75% من عوائد أحد أهم مواردها، النفط.

انشطر السودان بموجب الاستفتاء، على الرغم من محاولة لوقف الاقتتال الأهلي بعد عقدين من اندلاعه، بتوقيع اتفاق السلام عام 2005 بين حكومة "الخرطوم" وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان وزعيمها جون جرانج، الذي شغل منصب نائب رئيس الجمهورية -بموجب اتفاق السلام والدستور الجديد- لمدة 3 أسابيع فقط، قبل أن يلقى مصرعه في حادث تحطم المروحية التي كانت عائدة به للبلاد، بعد لقائه بالرئيس الأوغندي يوري موسيفيني.

 

الاحتفال باستقلال جنوب السودان

"قواتكم المُسَلّحة انخرطت في الثورة من أجل التغيير، بعد معاناة بدت في تدهور كل شيء، لدرجة أصابت حياتكم بالشلل"، خاطب البشير الشعب السوداني عام 1989 بتلك العبارات، لتبرير أسباب إزاحة حكم "الميرغني" وحكومته المدنية، التي رماها البشير بـ"الفشل" في دعم الجيش، خلال قتاله مع "متمردي" الجنوب.

لكن أوضاع السودان لم تتحسن كثيرًا، إذ يعاني من بنية تحتية شبه مُنهارة، تنم عن سوء حالتها أنباء مُكررة حول القتل والتدمير الذي يتكرر سنويًا في موعد فيضان النيل، وهو موعد ثابت ومعروف مسبقًا. أما على الصعيد الاقتصادي، فهو بلد يُصنفه البنك الدولي في خانة الدول "المُثقلة بالديون". إذ بلغت قيمة الدين الخارجي المُستحق في نهاية عام 2013، مبلغ 45.1 مليار دولار.

انتهى صراع "البشير" مع الجنوب بالانفصال، ولكن استمر الصراع العرقي ضد القبائل الصحراوية المسلمة في ولاية دارفور غرب البلاد. بدأ الصراع عام 2003 بسبب خلافات قبلية بين ذوي الأصول العربية "الجنجاويد" وغير العربية "الزغاوة" و"الفور" و"المساليت"، ساند البشير فيها الجنجاويد وساعد في تسليحهم ليرتكبوا جرائم قتل واغتصاب وتشويه عنصرية، دفعت المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرتي اعتقال ضد البشير لقيامه بجرائم ضد الإنسانية. تمهيدًا لمحاكمته بتهمة مساندة أحد طرفي الصراع في أعمال عنف، شملت "القتل، والحرق، والنهب، والاغتصاب"، وأدت لمقتل ونزوح (تشريد) الآلاف.

بعد أعوام تقاطعت فيها الصراعات، ينتهي "البشير" اليوم إلى تكرار إعلان اعتزامه اعتزال السياسة، والتي حاول قطاع من الشعب إزاحته عنها بمظاهرات بلغت أشدها عام 2012، حين رُفِع الدعم الحكومي عن الوقود، واستمرت في 2013، الذي شهد أيضًا انتظام عدد من معارضيه تحت مسمى "تمرد"، الذي استعاروه من الحركة المصرية المعارضة للرئيس الإخواني محمد مرسي. لكن قبضة "البشير" الحديدية ظلت عصية أمام محاولات التغيير.