اسكندريلا: رسم شنبات قطّة على وجوه الشهداء.. بأختام إسرائيلية*

منشور الأحد 24 يوليو 2016

حيفا - فلسطين المحتلة 

 

أجزم بأن هتاف "جاييكو الدور" [بالعامّية الفلسطينية : دوركم سيأتي] الذي لا أعلم من أين انبثق في تلك الليلة، كان يختزن عقوداً من التشفّي. تشفّي اليتيم بالمستبدّ. (أو، لنقل، بتعبير ما بعد حداثيّ: تشفّ يشبه ابتسامة سانسا ستارك).

صعقت دورية الشرطة الإسرائيلية يومذاك بالمظاهرة، وانسحبت من وجه هذا الهتاف إلى غير رجعة، فصار الشارع لنا تماما. إلى أن بحّت أصواتنا وكلّت الأقدام، وغفى الطفل ابن السنوات الثلاث الذي كنت أحمله، والذي ملأني إحساسٌ بالغبطة، عندما ورد إلى خاطري أنه سيعيش زمانا غير زماننا، وها هو الآن يلقي بذقنه الصغير على عظام كتفي منهكًا من دون اكتراث. تعبنا، واشتاقت العروق إلى دفعة جديدة من أخبار تؤكّد أن ما حصل قبل ساعة ونصف كان حقيقيا، وبأن حسني مبارك قد تنحّى فعلا. فقفلنا عائدين إلى بيوتنا لنتابع أخبار مصر. لم ينم أحد تلك الليلة.

حدث هذا في 11 شباط، 2011

كنّا، مجموعة من الناشطات والناشطين، الذين انقلبت أولويّات نشاطهم، بفعل الثورتين التونسيّة والمصريّة، إلى مظاهرات تضامن مع الشعوب العربيّة، بعد عقود من تضامن الشعوب العربيّة معنا، اجتمعنا منهكين في أحد المساكن في حيفا، نقوم بتجميع نشرة طلّابية، بالطرائق القديمة، بهدف تحضيرها للتوزيع. وكنّا، على شاشة حاسوب، نتابع نتفا من أخبار ثورة 25 يناير. أنهكتنا أيام طويلة من مظاهرات التضامن الضئيلة، قياسا بحشود ميدان التحرير، على مدار الأيام الماضية.

في واحدة من اللحظات القدريّة، ذلك المساء، صرخ سامر : "تنحّى مبارك!".

كان الأمر عصيّا على التصديق حقا.  انفجرت طقوس الاحتضان الجماعي والصراخ الذي يصعد من الدّم. أول ما قمت بفعله، من دون تفكير، كان مدفوعا بالرغبة في الحديث مع شخص ما من مصر، (وهي رغبة يدفعها ذات العطش إلى التواصل الذي يروّج له مؤيدو زيارة اسكندريلا لرام الله اليوم). ولذا، فقد اتصلت بالصديق نائل الطوخي، الذي لم أفهم شيئا مما يقوله، ولم يفهم أمرا مما قلته. تحدثنا بما يشبه الصراخ، وفيما بعد، توالى انتقال الهاتف إلى أصدقاء آخرين متجمّعين في بقعة ما في القاهرة. تحدّث الصديق، أحمد ناجي كعادته، باعتباره هادم لذّات. وسط ضحكاتنا جميعا.

كنت قد رفعت صوت الهاتف حتّى أٌقصاه، ورفعته ليتسنّى للرفاق سماع صوت آت في بثّ حيّ، من مصر التي انتصرت قبل لحظات، والتي بدت وكأنها تفتح ذراعيها عن آخرهما لنا جميعا.[1]


بعد إعلان التنحي بدقائق انطلقنا إلى الشارع المركزيّ العربي في حيفا. كانت الناس تأتي إلى موقع المظاهرة مدفوعة ببوصلة غريزية، بيوت تتفتّح، وناس يسرون نحو خليّة النحل العصبيّة التي في الشارع، من دون أن ندعوهم. هتافات ضاحكة، بعضها بذيء، من دون تحرّج، وبعضها ساخر.. "يا جمال قول لأبوك.. فلسطين بتقول مبروك"، "بدنا نشرب كاس ستيلّا.. ع المرعوبين برام الله". [2]

دورية للشرطة الإسرائيلية وقفت مذهولة من حجم المظاهرة، وبدأ بعضنا بالتحرك نحوها مدفوعا بطاقة الهتاف، ولربّما متأكدا بأن مصر تقف من خلفه منذ الآن. فيما بدأت الدورية بالانسحاب، ونحن نطاردها بهتاف هو في رأيي أبدع هتاف تم اختراعه : جاييكو الدور!، وهو الهتاف المشار إليه أعلاه.


المقدمة الطويلة أعلاه تبدو ذاتية، وبلا علاقة، بل ومغرقة في الإسهاب اللاضروري. لكنّها، تلخّص في رأيي كل ما يمكن قوله حول زيارة فرقة اسكندريلّا إلى رام الله، تحت حراب الاحتلال وظلّ بنادقه، وفي ضيافة ربيبته، السيدة سلطة وطنية. من دون الحاجة إلى إعادة الخوض في محددات التطبيع وتعريفاته، التي يعرفها جيدا أعضاء اسكندريلا، وأبناء الحركة الوطنية المصرية:

إن "حبل المودّة الذي اتوصل"، والذي بموجبه تمّ فتح سفارتين في القاهرة وعمّان، هو ذات الحبل الذي ستسحب من خلاله سلطة أبي مازن سيقان أعضاء اسكندريلّا نحو رام الله. ستمرّ جوازات السفر المصرية (أو بدائل منفصلة عنها، شكلاً) عبر منظومة التصاريح الإسرائيلية بإشراف من وكلاء فلسطينيين، وستدمغ طوابع عليها الشمعدان**، أوراقا تحمل أسماء أولئك الشخصية الرباعية، وأسماء أمهاتهم أيضا (بالاعتذار من جميع النسويين والنسويات.. هذه حقيقة واقعة). سيقول ضابط إسرائيلي مبتسم، بعد موافقته على هذه الأوراق: "نسمح لكم بدخول إسرائيل، وصولاً إلى يهودا والسامرة" وسيتلقون الأوراق صامتين ربما، حتى يوصلوا حبل المودة في أراضي تسيطر عليها - اسميًا- سلطة أبي مازن .

أما أنتم، رسميّا، يا أعضاء اسكندريلّا، فستتوجهون إلى يهودا والسامرة، لتقيموا حفلا فيها، مرورا بإسرائيل، وحين تبحثون عن فلسطين التي غنيتم لها، فإنكم لن تجدوها أصلا. هذه الفلسطين قائمة في عالم موازٍ، الدخول إليه ينبغي أن يكون من بوّابة أخرى تعلمونها جيدا.

ما من فكاك من أن تقوم الفرقة بمساءلة نفسها عن مغزى تجاوزها هذا الأمر: هل يستحقّ أمر التواصل هذا العناء؟


عن أصباغ الوجه

 

كانت ضآلة مظاهراتنا، آنذاك، تشبه ضآلة المطلوب من مجهودات التضامن من الثوريين المصريين اليوم، والذين- كما أحسب- تقف اسكندريلا في قلب جبهتهم: المطلوب هو إعلان مبادئ، لا أكثر. وهو، في حيّزه الأدنى: رفض للاحتلال، من قلب القاهرة. إن أقل ما يُطلب من إسكندريلا اليوم هو ألا تتصرف كما يتصرف الأجانب المتضامنون.

أسوأ ما تفتّق عنه عقل وفود التضامن الأجنبية، خلال سنوات أوسلو الثلاث والعشرين الأخيرة، هو الحفلات التي يقيمها الشباب البيض المتحمسون لرسم الابتسامات، ليس على وجوه المقهورين، بل على وجه القهر، ليصير محتملاً.

بعد استنشاقهم حصتهم من الغاز المسيل للدموع تحت غراس الزيتون في اشتباكات القرى المحاصرة بالجدار في يومهم التضامني الأول، يجتمع هؤلاء ثم يقررون أن يحققوا نقلة نوعية في تضامنهم. وهكذا تجري الأمور عادة: تأتي كريستينا وتصبغ أنفها بالأحمر، وتقوم بحركات مضحكة لأطفال تتراكم على وجوههم طبقات الغبار والعرق والغاز المسيل، ومستعدون للضحك، ثم يأتي أولاف ويصوّر الأطفال وهم يضحكون، وبعدها، تقوم آن برسم وجوه قطط بشنبات طويلة، على ملامح الأطفال.

ينهي كريستينا وأولاف وآن عملهم الملحمي التضامني، يتنهدون بفخر، ثم يحزمون حقائبهم وينطلقون إلى مطار بن غوريون "نحو عالم أفضل". فيما تظل الأصباغ على وجوه الأطفال لثلاثة أيام على أقل تقدير.


لم تكن مظاهراتنا، في 2011، والمظاهرات التي تلتها فيما بعد، في أحداث محمد محمود، وهي المظاهرات التي عدنا فيها إلى شارع "بازل" أمام سفارة كامب ديفيد*** لنهتف: "شعب مصر يا حبيب.. سدّ الوكر بتل أبيب"، تصل حدّ كونها قطرة مما يتخلّق في مصر الجديدة المنبثقة. وأكاد أجزم أن أحدا لم يسمع عنها هنالك. لكن الداعي لانطلاقها كان إحساسنا بأننا جزء عضوي من هذه الكتلة العظيمة والكبرى.. كان التزاما مبدأيا يوميا بمساندة مصر، رغم معرفتنا بأن انطلاق المظاهرات هنا أو عدمه، لم يكن ليؤثر بمقدار أنملة على مجريات الحدث الذي غيّر وجه التاريخ في القاهرة، والعالم. لكن هذه المظاهرات، على ضآلتها، تستحق أن لا تُكافأ بتعزيز شرعيّة الوكر القائم في شارع بازل 54، في تل أبيب. 


المطلوب اليوم، من إسكندريلّا، هو التضامن، من دون حاجة لتقليد أولاف وكريستينا، ومن دون حاجة لرسم شنبات قطط على وجه رام الله لإعلان هذا التضامن (عبر خرقه بالمناسبة).

ألا تعلمون بأن من يحفظ أغانيكم عن ظهر قلب، في السجون وفي الاشتباك، لن يكلف نفسه عناء حضور "مهرجانكم" هذا؟ أمّا من سيحضره -وهم آلاف مؤلفة بالطبع- فهم سيستمعون إليكم أو إلى محمّد عسّاف،  دافعين لثمن البطاقة، ومدفوعون بطاقة تلوين الوجوه بالأصباغ، والجدار بالرسومات، وغسل الدمّ بفعل "التضامن" الذي لا تقف بقع أمام جبروته الناصع.. الناصع تقريبا، لأن هذا البياض سيكون أيضا مذيلا بختم إسرائيلي، ولو على الطرف. 

المطلوب من إسكندريلّا أن تنمّي هذا السعي إلى الاشتباك، في قلوبنا، للتوجه لكسر الجدران، لا للالتفاف عليها، أو التفكير في طرائق تساعدنا على احتمال وجودها. وهو ما تفعله حقّا بأغانيها التي نحفظها جيدا من يوتيوب، من دون حاجة لحضورهم المضرّج بالأختام الإسرائيلية. والمطلوب من إسكندريلّا: أن لا تلوّث هذه المحبة الصافية التي في قلوب الفلسطينيين تجاهها وتجاه مصر، عبر خرق واحد من الإجماعات القليلة التي نسند ظهرها إلينا في الاشتباك اليومي مع الاحتلال، وفي النقض اليومي لرسميّة السلطة ربيبة الاحتلال، وفي الوعيد الذي نطلقه في هتافاتنا، فلا يبدو منطقيّا لسلطة العسكر في مصر، من قلب ثقب صغير ولا يعني أحدا على وجه هذا الكوكب، إسمه فلسطين.

جانب من نشاطات رسم السماء على الجدار. والماء في الكؤوس الفارغة

ليس المطلوب من اسكندريلا، اليوم، الالتفاف على واحد من بقايا الجدران التي نسند إليها ظهرنا، وهو جدار المقاطعة، لكي تأتي فتصبغ وجوهنا بالألوان، ومن ثم تطلق على التطبيع لقب تواصل: إن تواصلنا مع مصر، وتواصل مصر الثوريّة معنا، قائم، في قنوات أعمق، وأكثر تدفّقا وحيويّة، من فعل الزيارة الذي ينتهك حقنا في رفض سيطرة الاحتلال على المعابر المؤدية إلى أرضنا المعتقلة، باعتباره فعل اعتداء على وجودنا. والزيارة، بالمناسبة، وبالاعتذار من ارتباك العبارة، وللتوضيح: فعل خيانة لقلوبنا.

أي تواصل تريدون خلقه؟ العلاقة بيننا وبينكم لم تنقطع، على مرّ عقود من الانتهاك، بل تصاعدت وتعمّقت. بل وإنني أكاد أجزم بأن عدد من يحفظون، عن ظهر قلب أغاني الشيخ إمام، وعدلي فخري. أو قصائد أمل دنقل وأمين حدّاد، في فلسطين، أكثر منه في مصر. أثناء السادات وقبله، وأثناء مبارك وبعده. فأي تواصل ستحققونه بمروركم من بوابات الاحتلال؟

نحن ننظر إلى اشتباكنا مع الاحتلال وبوّاباته وحرّاسها، بصفته معركة شاملة، لا بصفته حق اجتهاد شخصي. وفي ظل غياب قيادة ملتزمة، فلسطينيا، وفي ظل ذوبان البرنامج فإن الأمر يصير أصعب. بضعة ثوابت بقيت في ظل هذا الخراب الكبير، من ضمنها رفض التعامل مع إسرائيل والاعتراف بسلطتها على الأرض والمعابر والبشر.

إن اسكندريلّا تضرب عبر زيارتها لرام الله، بالذات، صفوف من يقف مع مصر والثورة المصرية في فلسطين، وتحقق اختراقا مؤلما لدعاة التداعي على قصاع الأمر الواقع، فيما يشبه التسليم  بأزليّة حسني مبارك قبل تاريخ 11 فبراير/ شباط 2011، وبحجة تسكين الشوق بأساليب واقعيّة. متناسية أن كل شوق يسكن بالتطبيع، لا يعوّل عليه.


[1] واحد من المشاريع التي راجت في تلك الأيام كان الاتصال برقم مصري، يتم اختياره عرضيّا، والتحدث مع من يرفع سماعة الهاتف لنقول له: نحن، في فلسطين، معكم في مصر. مجهود آخر عبثي، لكنّه كان يجسد هذا الشوق للتواصل ولإعلان التضامن. والرغبة بفعل أمر ما، رغم المحددات والقيود الحقيقية جدا

[2] في إشارة إلى العصابة التي تحكم رام الله لا بسطوة السلاح الوطني، بل بسطوة التوازنات التي يخلقها الاحتلال وأوسلو وكامب ديفيد، وهي ذات العصابة التي ستضمن لاسكندريلّا، دخولا آمنا وغير ملوّث بالأختام الإسرائيلية.

رفضت سلطات الاحتلال الإسرايلية السماح لاثنين من أعضاء فريق اسكندريلا بالدخول للمشاركة في مهرجان فلسطين 2016 المقام في رام الله مطلع أغسطس/ آب المقبل

**- الشمعدان يمثل رمز ختم الدخول والمغادرة في المنافذ الحدودية التي تسيطر عليها وتديرها سلطات الاحتلال الإسرائيلية. 

***- شارع بازل: حيث السفارة المصرية لدى الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة  

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.