لقطة من فيلم الموت في القرية - إنتاج 1974- شوجي تيراياما 

شوجي تيراياما: اليابان التي لا يعرفها أحد.. سحلية مختبئة في زجاجة كوكاكولا

منشور الثلاثاء 5 يوليو 2016

"عندما فكرت في [فيلم] الق بكتبك بعيدًا ولنخرج إلى الشارع، كان هدفي هو تحويل المدينة إلى كتاب، عبر التخلي عن الكتب المطبوعة والتجول في الشارع، وبذلك يكون للكتاب معنى أكبر وأوسع"- شوجي تيراياما

مثل كتابة اقتباسات من بورخيس وماياكوفسكي على الحوائط، ذلك الفن (الجرافيتي) الذي يتابعه ويحبه التقدميون، ويراه المحافظون تشويهًا ويعدونه افتعالاً للأزمات. كذلك أفلام المخرج الياباني شوجي تيراياما Shūji Terayama، المولود في بلدة هيروساكي عام 1935؛ الذي جسد في أفلامه رؤى من أزمنة قديمة شكلتها حصيلة إدراكه لمخلفات النهضة اليابانية. تلك الرؤى، حاول تيراياما تجسيدها عبر عدة أوجه؛ فهو شاعر، مخرج مسرحي، روائي وصانع أفلام. بل عمل كذلك في عدة مهن مختلفة في وسائل الإعلام، كمُعلق ومُقدم تلفزيوني.

كانت هذه خاتمة هيداكي ساسكي بطل فيلم" الق بكتبك بعيدًا، ولنخرج إلى الشارع - 1971". عندما أفسح له تيراياما المجال أمام الكاميرا ليختم الفيلم كما بدأه؛ بلقطة يواجه فيها جمهور السينما مباشرة. وبين اللقطتين 42 يومًا استغرقها تصوير الفيلم.

في هاتين اللقطتين تبرز القدرة على استعارة تلك الخاصية المسرحية على شاشة السينما. ومثلما كان ساسكي بطل الفيلم يبحث عن عمل لوالده؛ فإن تيراياما فقد والده في عمر الـ11 عامًا في حرب المحيط الهاديء بأندونيسيا (خلال الحرب العالمية الثانية).

تجريبية تيراياما.. الكلمات لا تكفي 

 

يحاول شوجّي تيراياما أن ينقل صورة ورسائل واضحة لمحبي ذلك العالم السينمائي الخاص، الذي توحد معه كثيرون، هو منهم. لكن الأهم من ذلك في تجربة هذا الأديب الذي لجأ للفن السابع كي يفصِّل مفردات عالمه؛ هو تمرده على الأساليب التقنية السائدة في حجم اللقطة والسرد المُنظم. بل أنه يحاول في كل مرة أن يقوم بعمل توليفات مختلفة في مشاهده المتتابعة، وفق ميزان قد لا يُعجب المعتادين على السينما الهوليوودية، أو حتى الموجة الجديدة في السينما الفرنسية. إنه أحد المبدعين اليابانيين المثيرين للجدل، والأكثر انتاجًا خلال القرن الماضي. وأحد أصحاب النظرة التشاؤمية والتجريدية من الجانب النظري الأدبي، ومن الجانب الفني كذلك.

جاء تيراياما بسؤال مُعقد: "هل الكلمات كافية لتخبركم بما في داخلي؟" لذا كان لا بد من إيجاد وسيلة أخرى. كان تيراياما -إلى جانب كتابة الشعر والدراما المسرحية- مصورًا فوتوغرافيا. ولكن الصورة مهما كانت براعتها وحدتها؛ فهي محدودة الصدى والمجال والقدرة على التعليق.

سؤال آخر يعبر فيه المخرج الياباني عن موقف سياسي واضح: "هل تستحق بلدي كل هذا العناء؟ هل تستحق أن أموت من أجلها وهى مثل السحلية في زجاجة الكوكاكولا" تعبيرًا عن تصالح اليابان مع الهيمنة الأمريكية*.

في محاولاته لطرح إجابات لتلك التساؤلات، استخدم تيراياما في أفلامه وأعماله المسرحية التجريبية -على مسرح تينجو ساجيكي Tenjō Sajiki الذي قام بإنشائه- البنية الهشة للعاصمة طوكيو، التي تعتبر وطنًا لمجمعات التسوق، ومجرد موقع جذب سياحي. وطنًا للتحديث السطحي والابتذال؛ بدلًا من إعادة البناء.

هناك أمور فريدة من نوعها في أسلوب تيراياما السينمائي، أبرزها؛ أنه لا يعترف بالبناء الاعتيادي الذي يجعل الصورة مثل اللوح المتراصة، ولا يخلُد لنزعة الفن التشكيلي في اختياره للقطات والمشاهد. ففي فيلمه "الق بالكتب بعيدًا ولنخرج إلى الشارع" نجد أنه يلقي تمامًا بالكتب الأكاديمية المتعلقة بهذا الفن بعيدًا. بؤرة ومركز الاهتمام عنده في بعض المشاهد ملغيان تمامًا. قد يركض بالكاميرا خلف بطله، قد يجعل الكاميرا أيضًا تشعر بـ"دوخة" وتسقط. لا أهمية للمادة، بل إنه يلعب بالصورة كما لو أنه شاعر يلعب بكلماته المتمردة.

 

في أحد مشاهد فيلمه "باسترول هايد آند سيك - لعبة الغميضة (استغماية)"، الذي كان ربما أقل تجريبية ورمزية من أفلامه الأخرى؛ نجد فتاة يبدو عليها ملامح الهذيان والدهشة عند هضاب صفراء بلون باهت، وهي تروح وتجيء وتدور حول وردة حمراء وجدتها في تلك الصحراء. هنا ينتقل كل الاهتمام للشيء، للزهرة، وينصرف عن الفتاة ذات الحركة القلقة. لا أهمية لتفسير الرمزيات، لكن الأهم هو تسليط الضوء على كيفية استخدام "الرسام" لألوانه. لم يكن يرسم؛ لكنه كان مصورًا إبداعيًا، ووجد في الفيلم ملاذًا له مع انتقالات لطيفة تحكمها فواصل شعرية.

 

حصيلة الذكريات؟

 في هذا الفيلم الذي أُنتج عام 1974، كان شوجي أكثر قربًا لجماهيره، وربما أكسبه هذا العمل صوتًا "حماسيًا" ابتعد قليلًا عن حاسته ونمطه التجريبي المعتاد.

يُفتتح الفيلم الذي يُدعى باسم آخر هو "الموت في القرية"، بأطفال يلعبون الاستغماية (الغمُيضة) مع نعيق الغربان في مقبرة، تجسيدًا لويلات عانتها اليابان من الحروب المتتابعة، كل هذا بالأبيض والأسود. ثم ينتقل لليابان "الملونة"، التي تحتفظ بتقاليدها القديمة في القرية. لكن الصبي يريد أن يهرب نحو المدينة.

 استخدم المخرج الكثير من الرموز الميثولوجية -الخرافات القديمة- وربطها بالأساس الجديد الذي ارتكز عليه المجتمع الصناعي. ليبيّن حياة تلك القرية التي تمضي بلا انتظار؟ في تلك النوعيات الخاصة من الأعمال السينمائية لا تنتظر قصة أو ترابطًا. فمثلًا هل يستطيع الزوج إصلاح الساعة؟ لماذا يستمر الشاب في تتبع زوجة الجار حتى وهى نائمة في الحديقة؟ لم تستمر النساء العجائز في الحديث عن هوية الطفل الذي ولدته فتاة شابة دون زواج؟ أتكون مجرد مجموعة من الذكريات في عقل الشاب؟ أكان تيراياما يُجسد نفسه هنا؟

 

"لا تقرأ هذه الجرائد، اقرأ فقط الكتب الساخرة التي اشتريتها لك"، تقول الأم لابنها الذي يحدثها عن قضية نشرتها إحدى الصحف عن الختان: "لا تفكر في مثل هذه الأشياء، فكر فقط في عملك"، فيذهب ليُكلم أباه -المتوفي- عبر إحدى الكاهنات والتي تأمره بالطاعة، لكن الولد يقول: "لكي أرى أفضل علّي أن أشق أجفاني".

يقول شوجّي -الذي عاصر الغارات الجوية الأمريكية على مدينة ميساوا حيث كان يعيش مع أقاربه- على لسان الشاب الذي يُجسد دور مخرج الفيلم: "أشعر أنني كلما اعتمدت على صباي في هذا العمل، وكلما أردت أن أشرح؛ أزداد غموضًا. إنه أمر أشبه بحجر الرحى الذي استمر في الالتفاف حوله".

في أعمال أخرى كان من المهم أن يعود شوجي ليتحرر من ذاته، ويصطدم بمجتمعه من الداخل، لصالح ما يخلقه كصانع أفلام أو "كفنان"، بدلاً من أن يستمر في الالتفاف والدوران حول حجر الرحى. في أول فيلم قصير يخرجه "امبراطورية صلصة الطماطم"، استخدم تيراياما أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 5 إلى 10 سنوات، ليحكي من خلالهم قصة ثورة ضد سيطرة الكبار. واعتمد في هذه الأعمال المبكرة على الارتجال مع ممثليه.

في "الق بكتبك بعيدًا" يترك شوجي المجال لبطله لكي يُخاطب نفسه. شاب أحب الملاكمة وكرة القدم، ولم ينجح في أيهما. يتحدث في افتتاحية العمل مع صوت واضح لشريط الفيلم الذي يدور، يبعث برسالة إلى من يسألون عن الدافع في عمل أفلام عن القذارة، المدمنون، الشوارع والأزقة التي ضرب فيها الزمن كل قتامته، عن المهمشين، والعجائز وأصحاب الصوت المستبعد.

"التلعثم هو أيدولوجية"؛ مثلما كان أحد شخوص فيلم "الق يكتبك" يتلعثم، فإن اللغة السينمائية لدى شوجي تحمل نفس السمة. فهو ينتقل بأريحية من صورة إلى أخرى. وربما كان هذا العمل الأكثر اكتمالًا له، وتمثيلاً لأسلوبه الخاص. فهناك تفعيل واضح لتقنية التنقلات السريعة ما بين المشاهد، وتجوال حر بين المساحات المختلفة للتصوير والحركة الفوضوية والرسم بالألوان -حرفيًا- على مشاهد ثابتة أو شبه ثابته، باستخدام الحوائط، والأصوات. ما يعجز عن قوله بالكلمات يُقال هنا بهذه الأدوات البصرية والصوتية المختلفة

ما يهم حقًا هو أن تتلقى أنت هذا العمل وتشاهده كمتشرد. أن تمتزج حقًا مع تلك الدوائر التي يدور العمل بين شخوصها، وتتبنى لا مبالاتها المطلقة بالزمن الذي يمضي، والشخوص التي يسرد عنها البطل بصوته وهو غير عابئ إلا بالوصف السطحي: "أبي مجرم حرب، أختي عاهرة تكره الرجال، بيتي مثل زريبة الخنازير".

 

مسرح مثير للقلق

 

 

 

أعاد شوجي تيراما تقديم أوبرا- مسرحية "معجزة الماندرين" المجرية لبيلا بارتوك، لينقد من خلالها النظام الاجتماعي/ الأسرى الياباني، على مسرحه الذي أنشأه في منتصف الستينيات.

وهو عمل عن فتاة تغوي المارة من أجل المال، في بلدة كان أغلبها من الصعاليك، وحين يأتي أحد التجار الصينين الأثرياء، يهاجمه الصعاليك ويجردوه من أمواله والأشياء الثمينة التي لديه. ومع ذلك يستمر الصيني في التمسك بالفتاة، ويستمر الصعاليك في مهاجمته، بينما يستمر هو بالتحديق فيها بينما ينزف ويموت متأثرًا بجراحه.

 

https://www.youtube.com/embed/T9m1Ysa2Zfs

كذلك أعاد تيرياما تقديم أوبرا "قلعة بلوبيرد". وبلوبيرد هو سيد القلعة، الذي قد يُمثل الأب في بعض الروايات أوالزوج لثلاثة نساء -طبقًا للعمل الأصلي الذي كتبه شارل بيرو في 1697، ترجمها وقدمها شوجي تراياما بشكلٍ مختلف تمامًا، وربما مُنَاقِض، لما قُدمت عليه من قبل. تراياما لم يهتم بطرح صورة القيود الذكورية؛ بل على العكس، طرح المسرحية المستمدة من الحكاية التراثية "ذي اللحية الزرقاء"، بصورة تُمثل غياب الحماية الذكورية و غياب القمع.

 فهنا الفتاة "جوديث" التي تأمل في الزواج من بلوبيرد، تجده غائبًا وغير موجود، ثم تبحث عن شقيقها المفقود منذ عدة سنوات وتعرف في النهاية أنه قد مات. تخطو الفتاة إلى المسرح لتلعب دورًا مرسومًا كإحدى زوجات بلوبيرد لإرضاء خيالها. وتموت عندما تهب الحياة لطفلها وتصبح أمًا. تأبى الفتاة أن تكون زوجة منعّمة تحت وصاية زوج/ أب مسيطر، ويحصدها الموت في الطريق لحلمها بأن تصبح أمًا عاملة ومسيطرة على ابنها، مع زيجة سعيدة.

الاتجاه التخريبي في الفن الياباني بعد تيراياما

 

 

تاكوما ناكاهيرا

ترك شوجي تيراياما أثرًا عميقًا في أوساط المثقفين "السينمائيين والمسرحيين" في اليابان، خاصة في نهايات القرن الماضي، مع الرسام تادانوري يوكو على المسرح الثوري تينجي ساييكي، مطلقًا اتجاه جديدًا أثار القلق عند التقليديين، مما قد يفسر قلة الترجمات للمسرحيات التي كتبها.

 يقول الفوتوغرافي تاكوما ناكاهيرا الذي توفي في ديسمبر من عام 2015: "عملت مع شوجي، وكنت أسعى لاختبار قدرتي على التقاط صور تُحرض على التفكير النقدي. كانت هناك فكرة عن القيام بمزج ما بين السينما والتصوير والهندسة المعمارية والخطاب النقدي. كان هناك الكثير من الرجعية والعنف في الدولة الرأسمالية بعد الاضطرابات التي حدثت في جميع أنحاء العالم عام 1968، وكان ينبغي علينا توثيق ذلك. لكن بالنسبة لي؛ لم أقم فقط بالتقاط الصور لغرض الاستفزاز؛ بل باعتبار هذا العمل محاولة تجريبية لصياغة نمط جديد في التصوير الفوتوغرافي".

تيراياما الذي تُوفِّي في العاصمة طوكيو 1983، واجهت أعماله رفضًا كبيرًا سواء في حياته أو بعدها انقضائها من قبل أصحاب النزعة المحافظة، على الصعيدين السياسي والثقافي. 

ومع ذلك كان من الصعب إعادة تجربة شوجي خارج اليابان، لما تتضمنه أعماله من خصوصية كبيرة لمعطيات عصره، وارتباطها بالحضارة اليابانية والبناء الثقافي المحلي. وينطبق الأمر نفسه على مخرجين آخرين مثل ماساكي كوباياشي الذي توفى عام 1996، وعالج موضوعات مشابهة لتيراياما، لكن بنمط إعادة إنتاج الماضي. بينما لامس تيراياما الواقع "الحاضر، الآن"، واصطدم به. وليس هناك دليل على ذلك أدق من قيام تيراياما في فكرة فانتازية تمامًا بإعادة بطل فيلم "الموت في القرية" للقاء ومواجهة نفسه في الماضي وهو طفل، في إلغاء تام لفكرة الزمن، وفي تجسيد قوي للأزمة الذاتية/ الوطنية في أعماله .


(*) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور "اليابان وألمانيا وإيطاليا"، يستمر التواجد العسكري الأمريكي في اليابان بقوة خاصة. وظلت اليابان تابعة "للكتلة الغربية" التي تقودها الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، التي انتهت في مطلع التسعينات. وأخرج تيراياما أفلامه خلال تلك الفترة التي كانت فيها اليابان تابعة للولايات المتحدة.