تصميم يوسف أيمن- المنصة
هذه الآلام ستظل تتعاظم إذا لم يتدخل أحد ويصلح الأمور

رسائل من خلف القضبان: بماذا تخبرنا قصاصات أوراق المعتقلين؟

منشور الثلاثاء 21 يناير 2020

كان القلق يستبد بسعاد* بعد أن مرت عدة أشهر دون أن تتلقى أي رسالة من زوجها الذي كان معتقلًا في سجن العقرب شديد الحراسة محرومًا من حقه في الزيارات لأكثر من سنة، عندما تلقت من زوجة معتقل آخر عبر واتساب رسالة مكتوبة بخط اليد من زوجها، هدّأت قليلًا من مخاوفها.

تقول سعاد التي أمضى زوجها نحو سنتين من سنوات اعتقاله الأربع في سجن العقرب إنها كانت تنتظر دومًا الرسائل التي تصل منه للاطمئنان عليه ومعرفة أخباره، وتلبية ما قد يحتاج إليه من أشياء تسمح إدارة السجن بإدخالها من حين إلى آخر، بعد أن حرمتها من رؤيته حتى من خلف عازل زجاجي، منذ أكثر من سنة.

وتضيف للمنصة "أمضى زوجي ما يقارب أربع سنوات كان أغلبها في سجن العقرب فيما كانت الفترات الأخرى في مستشفى ليمان طرة بعدما أعياه المرض في كثير من الأحيان نتيجة الظروف القاسية في السجن سيئ السمعة".

بالنسبة لمن هم خارج السجن، فإن الرسائل الخطيّة باتت نوعًا من الذكريات أو النوستالجيا التي نستحضرها في لحظات الحنين إلى سنوات مضت. لكن الحال يختلف كثيرًا بالنسبة لعائلات السجناء والمحبوسين والمعتقلين، فالرسائل هنا قد تكون وسيلة التواصل الوحيدة مع ذويهم، خاصة في ظل تكرار حرمان كثير من نزلاء السجون من حقهم في الزيارة. 

بحسب لائحة السجون المصرية، فإن من حق أي سجين أن يتمتع بزيارة مرة على الأقل كل شهر، وعادة ما تؤكد الحكومة أن قطاع السجون في وزارة الداخلية يتعامل مع جميع المحبوسين، وفقًا لما تنص عليه القوانين ومبادئ حقوق الإنسان. ولكن الواقع على الأرض مغاير تمامًا.

كثيرًا ما اختبرت سعاد إحساس القلق والخوف عندما كان زوجها محبوسًا احتياطيًا قبل الإفراج عنه العام الماضي، وكثيرًا ما كانت رسالة قصيرة من سطرين أو ثلاثة؛ سببًا كافيًا لتبديد بعض القلق وإزالة بعض المخاوف، ومتنفسًا يمنحها بعض القوة حتى موعد الرسالة التالية. 

تتفاوت الفترات بين الرسالة والأخرى، فتواجد زوجها في العقرب يعني مدة أطول من الانتظار والقلق، أما نقله إلى المستشفى فيجعل الحال أفضل قليلًا، من ناحية استقبالها للرسائل أو الحصول على حق الزيارة.

لكن كيف تحصل على على تلك الرسائل؟ توضح سعاد أن "هناك عدة طرق، فمثلًا عندما كان زوجي ممنوعًا من الزيارة، كان يعطي رسائله إلى أحد زملائه غير الممنوعين منها، الذي يبلغها لذويه أثناء الزيارة وهم بدورهم ينقلوها لي إما بشكل شفهي أو من خلال تصويرها وإرسالها عبر واتساب".

وتتابع "أو من خلال انتهاز أي فرصة كان يتواجد فيها خارج السجن كحضور جلسات تجديد الحبس أو إجراء كشف صحي في المستشفى، لإعطاء رسائله ورسائل باقي المعتقلين إلى المحامين، الذين يتكفلون بإيصالها إلى أصحابها".

ومع "الحرمان القاسي من تلقي المحتجزين زيارات عائلية"، بحسب وصف منظمة العفو الدولية في تقرير أصدرته العام الماضي، اكتسبت هذه الرسائل أهمية أكبر.

حصلت المنصة على عدد من رسائل السجناء إلى ذويهم. رسائل تخبرنا كيف يمكن أن تتحول بعض الأشياء العادية إلى ضرورة ملحة، وكيف تتعاظم بعض التفاصيل الإنسانية مع فقد الحرية؛ فأيًا كان سبب تواجد السجين خلف القضبان، يبقى إنسانًا يتمنى بعض الأمور البسيطة؛ أكلة يشتاق لها أو دواءً يحتاج إليه، أو رسالة إلى الأحباب الذين غابوا ولم تغب ذكرياتهم.

رسائل من طرة شديد الحراسة أو سجن تحقيق طرة أو مستشفى ليمان طرة، وعنبر المعتقلين بقصر العيني، وغيرها من السجون. رسائل لا تعرف أصحابها أو اتهاماتهم أو مدة حبسهم، فتحاول أن تستشف القصص من بين تلك الكلمات القليلة.

حميمية يقتلها الخوف

يمنحنا إبراهيم أحمد وهو نجل أحد المحكوم عليهم بالسجن المؤبد في إحدى القضايا، مزيدًا من التفاصيل المتعلقة بكيفية الحصول على الرسائل. 

يوضح إبراهيم أكثر في حديثه مع المنصة "نحصل على الرسائل مثلًا عن طريق واتساب. فيه جروبات (مجموعات) لكل سجن خاص بأسر المعتقلين فيه، وأيضا نرسل أجوبتنا أو رسائلنا لمعرفة أخباره من خلال بعض الأسر الأخرى ممن نعرفها جيدًا ويتواجد ذويهم مع والدي في نفس المكان".

خلال الآونة الماضية ومنذ انتقال والده إلى سجن ليمان طرة أصبحت الزيارات أكثر سهولة وتحدث بشكل طبيعي، ولكنه يشير إلى أن الوضع يختلف من سجن إلى آخر، فقبلها ولمدة ست سنوات تنقل فيها والده بين ثلاثة سجون هي القناطر ووادي النطرون والاستقبال، اختلفت المعاملة بحسب السجن. 

يشرح أكثر "كان سجن ليمان 430 بوادي النطرون الأسوأ من بين السجون الأخرى إذ أنه شديد الحراسة وذهب والدي إليه بتذكرة (شديد الخطورة)، كان بيكون فيه ترخيم (تشديد) خلال الزيارات ويجلس أمناء شرطة معنا، إضافة إلى قصر مدة الزيارة، ومنع العديد من الأشياء من الدخول".

وفقًا لإبراهيم، فإن إدخال طلبات السجناء أثناء الزيارة لا يخضع لقواعد محددة، وأنه "ساعات لا يُسمح بدخول أشياء رغم أنها أشياء عادية كشامبو أو فرشة أسنان، أما ماكينة الحلاقة فلا تدخل في أغلب الأوقات، فيما قد تدخل أشياء أخرى مُنعت في وقت سابق كالورق للدراسة مثلا، ثم يمنعونه مرة أخرى رغم تقديمنا ما يثبت أنه لدراسة ماجستير. لا يوجد وضع ثابت بل أهواء تتحكم في ذلك".

تظهر الحاجة الماسة للرسائل بعدما باتت في كثير من الأحيان وسيطًا أكثر أريحية في تبادل الحديث والطلبات. يوضح إبراهيم أن بعض الرسائل من والده أثرت فيه ويتذكر جيدًا ما جاء فيها، لكنه فضّل عدم الخوض في تفاصيلها لأنها "حاجات شخصية وأسرية نُفضّل أن تكون لنا نحن فقط".

مع ذلك فإن أغلب الرسائل التي حصلت عليها المنصة تُظهر استخدام أسلوب مباشر وواضح دون الكثير من البلاغة أو الأدبيات، ولهذا أسبابه.


حميمية يغيّبها الخوف

تتسبب الرقابة الأمنية في الخوف من إظهار المشاعر أو الحكي عن تفاصيل الحياة الخاصة، حسبما أوضح للمنصة معتقل سابق رفض ذكر اسمه قائلًا: "ساعات بنبقى عارفين أن الرسايل دي ممكن تقع في إيدين أمين أو شاويش ممكن يستغلها لابتزازنا مثلا أو في إبلاغ رؤسائه، وساعتها هنقع في مشكلة أكبر".


لكن رغم ذلك لم يحاول البعض منع نفسه من إظهار القليل مما يحس به ببساطة. فهنا معتقل ينهال على زوجته بكلمات الحب، وآخر ينادي زوجته بـ "جميلتي"، و"حبيبتي"، بينما يتحدث ثالث عن انتظار اللقاء "بشوق المحب لمحبه".

 

تُظهر أغلب الرسائل السابقة اكتفاء المعتقلين بالإبلاغ عن حالتهم واحتياجاتهم، لكن بالتأكيد الرسائل المكتوبة لا تتوقف عند هذا الحد، فنحو قبل شهر كشفت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا عن أوضاع سجناء العقرب المتأزمة "عبر رسائل مسربة تمت كتابتها بوسائل بدائية على مدار سبعة أشهر في محاولة لنقل معاناتهم"، وهي ضمن تسريبات للمعتقلين بين الحين والآخر.

وفي شهادة بعض المعتقلين في التقرير وصفوا هيئة السجن والزنازين التي يتم احتجازهم بها "سور كبير تحيطه أبراج حراسة وداخل هذا السور 4 عنابر كل عنبر على شكل حرف (H) كل ضلع من أضلاعه يسمى وينج وكل وينج به 21 غرفة + غرفة الشاويش + حمام + مطبخ + غرفة أخرى وتحت كل (H) بدروم بطوله وعرضه تجري فيه مواسير الصرف وهو ممتلئ على آخره بمياه الصرف وتعيش فيه الفئران بكثافة، وهو مرتع للبعوض، وأحيانا تخرج منه الثعابين".

وأضاف التقرير أنه هناك زنازين في العقرب تم تصميمها لتكون أكثر سوءا من مثيلاتها؛ التأديب والعزل والإعدام والعنصر، وهي زنازين ضيقة للغاية حوائطها مطلية باللون الأسود القاتم، لا إضاءة بها مطلقا، لا مياه، لا شمس، لا تهوية، لا مراوح أو شفاطات حتى الفتحة الموجودة بالباب (النظارة) لاستلام التعيين (طعام السجن) تُغلق بقفل من الحديد من الخارج ولا تفتح إلا لإدخال التعيين.

وأوضح التقرير أن معتقلي العقرب محرومون من التريض منذ الرابع من أبريل/ نيسان 2017  وهو ما أدى لانتشار الإصابة بالربو والجرب والسل بين المعتقلين. 

يتوافق ذلك مع إحدى الرسائل التي حصلنا عليها ويطالب فيها المعتقل أهله بغلي ملابسه بسبب الجرب.

ومع اقتراب الذكرى التاسعة لثورة 25 يناير، تفرض السلطات -كعادتها مع كل ذكرى- تضييقًا واسعًا على السجناء، وتتوسع في منع الزيارات. حينها، ستكون ورقة صغيرة بكلمات يصعب تبينها، الوسيلة الوحيدة لإدخال بعض الطمأنينة على قلوب حنّت فرضخت لأقل القليل مما يفرضه الواقع.


* جميع الأسماء في هذا التقرير هي أسماء مستعارة لحماية المصادر.