تصميم: أريج - بإذن خاص للمنصة

بين السماء والطارق

"التدوير" مسرحية تُنكر العدالة 

منشور الثلاثاء 4 أكتوبر 2022

صباح يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 تلقت رشا محيي الدين، وهي مُعلمة ثلاثينية تسكن في كفر الشيخ، مكالمةً هاتفيةً من محامٍ يخبرها بظهور شقيقها بعد "اختفاء قسري" رابعٍ تعرّض له امتد لثلاثين يومًا، وأنه يُعرض الآن على النيابة متهمًا بقضية جديدة. أسرعت رشا إلى مقر النيابة فوجدت أخاها وربتت على كتفه وقالت له "لا تقلق. خير إن شاء الله، ربنا موجود".

في الأثناء حضر وكيل النيابة واستدعى محمود إلى غرفة التحقيق، وانتظرت رشا بالقرب منها، خرج المحامي وأخبرها أن القضية هذه المرة بها "مضبوطات" عبارة عن كتيب بعنوان "فتنة التكفير والحاكمية". وأضاف أنَّ من وضع له الكتاب لم يقرأ صفحاته التي تواجه تكفير الحاكم، أي "أن عنوان الكتاب شيء ومحتواه شيء آخر ليس له علاقة بالعنوان"، بحسب ما نقلت رشا عن المحامي.

محمود محيي الدين ضابط عسكري متقاعد، نال ترقياته سريعًا حتى وصل إلى عقيد. أوفده الجيش في مطلع الألفية الثالثة ضمن بعثات إلى الولايات المتحدة والصين، وتقاعد عام 2010. لا توجد له سوابق قضائية، ولم يتعرض للاستدعاء من قبل أي جهة عسكرية قبل بدء مسلسل احتجازه في عام 2019، بحسب شقيقته.  

كانت هذه المرة الرابعة التي يواجه فيها محمود اتهامات مماثلة منذ احتجازه لأول مرة بعد أن "جالس ستة أشخاص تربطه بأحدهم صداقة، وعبروا جميعهم عن رأيهم في الشأن العام، واعتقلوا أيضا، وقضوا 4 أشهر باستثناء من سجل الجلسة وأبلغ الأمن عنهم، قضى 4 أيام فقط"، وفق شقيقته رشا.

محمود مرتديًا زيه العسكري

أمضى محمود، الذي يبلغ عمره 49 عامًا، أكثر من عامين ونصف العام خلف القضبان، على ذمة أربع تهم، من ضمنها الانضمام إلى جماعة تكفيرية، حصل خلالها على قرارات إخلاء سبيل من محكمة جنايات كفر الشيخ.

لكنَّ هذه القرارات لم تكن كافيةً لإطلاق سراحه، بل أضيفت له تهمة أخرى، هي الانضمام إلى داعش، عقّدت مسألة الإفراج، في "إنكار واضح للعدالة"، بحسب تعبير مدير مشروع الإصلاح القضائي والتشريعي في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، محمد عبيد. أثناء فترات إخفائه بين قرارات الإفراج عنه والتحقيق معه على ذمة قضية جديدة، لا تتمكن عائلة محمود ولا فريق دفاعه من التواصل معه أو معرفة مكان احتجازه.

بعد صدور قرار إخلاء سبيل محمود، أتت قوة شُرطيَّة إلى محبسه ونقلته إلى معسكر قوات الأمن بالمدينة. ظلَّ محتجزًا داخله، وبعد عدة أسابيع عادت به القوة إلى النيابة متهمًا في قضيةٍ جديدةٍ برقمٍ جديد.

تقول رشا "بعد صدور إخلاء السبيل الثاني، توجهت إلى مركز الشرطة، أنهيت الإجراءات الإدارية وانتظرت محمود، طُلب مني الانصراف والعودة في اليوم التالي، ولكن الأمن الوطني سبقني في المساء وأخذه، تكرر الأمر في القضيتين الثالثة والرابعة".

رشا محيي الدين تروي تفاصيل قصة شقيقها محمود


محمود محيي الدين واحدٌ من بين 1764 مصريًا تعرضوا للاحتجاز ولم يُفرج عنهم، رغم براءة بعضهم وحصول البعض الآخر على قرارات إخلاء سبيل في الفترة من 2018 إلى 2021. في هذا التحقيق نسلط الضوء على خمس حالات تكشف سعي النيابة العامة ونيابة أمن الدولة إلى تحقيق الإدانة بدلًا من البحث عن الحقيقة واتخاذ الإجراءات الكاشفة عنها، فيما بات يعرف بـ "تدوير السجناء"، وهو إجراء يخالف الدستور والقانون.

تُظهِر الحالات الخمس اتباع الأمن نمطين رئيسيين لـ "تقنين" تدوير السجناء إجرائيًا: الأول؛ إخفاء الشخص لفترة بعد إخلاء سبيله من القضية السابقة ثم عمل محضر ضبط جديد بتاريخ جديد باعتبار أنه تم بالفعل إطلاق سراحه والقبض عليه مجددًا. 

والثاني، توجيه اتهام للشخص بعقد اجتماعات وتكوين تنظيمات مع محتجزين آخرين، والتواصل مع جهات خارج البلاد من داخل السجن بغرض ارتكاب جريمة إرهابية.

 

تدوير السجناء هو نظام أوجدته السلطات المصرية لعدم الإفراج عن السجناء السياسيين لديها، والتي ترغب في بقائهم محبوسين رغم انتهاء فترة حبسهم، فتصدر قرارات بإخلاء السبيل لهؤلاء المعتقلين دون أن يتم ذلك الإخلاء فعليًا، ويحتجز المُخلى سبيله فترة داخل أحد المقرات الأمنية ليظهر مجددًا على ذمة قضية جديدة، بذات الاتهامات، وربما تغيرت قليلا إلا أنها تبقى في ذات الإطار.

يؤدي هذا النظام إلى انتهاك العديد من الحقوق، مثل الحق في الحرية، ومعايير المحاكمة العادلة، وافتراض البراءة، وحظر التجريم المزدوج. 


 كوميتي فور جستس - جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان في سويسرا

"مسلسل التدوير" بلسان من عايشوه

حالة محمود واحدة من بين الحالات الخمس التي يوثقها هذا التحقيق؛ ثلاثة بشهاداتٍ من ذويهم، وحالتان على لسان المفرج عنهما، إلى جانب وثائق رسمية. جميع الحالات نُسِبت إليها اتهامات الانضمام وتكوين جماعة إرهابية داخل السجن أو خارجه، والسعي إلى زعزعة الاستقرار، وصولًا لإسقاط الدولة. وعند تدويرهم أعُيد استخدام ذات التهم السابقة.

ومن خلال الحالات الموثقة، نجد أنَّ كثيرًا من هذه الاتهامات لا تتعلق بوقائع محددة، ولا يُسند للمتهمين بموجبها ارتكاب أفعال بعينها.

عبد الله الحداد يتحدث عن وقائع تدوير شقيقه جهاد


عبد الملك (اسم مستعار) يوثق تجربته مع التدوير


سولافة مجدي تروي قصة تدويرها


شبهات تزوير مذكرات التوقيف

بالتدقيق في وثائق القضايا الخمس، نجد تباينًا بين تواريخ الاحتجاز الفعلية وما تحرره الشرطة والأمن الوطني في محاضرهم. محمود مثلًا، احتجز بتاريخ 7 أكتوبر 2019، بينما أورد محضر الشرطة تاريخًا آخر لاحتجازه وهو 20 نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام.

محضر تحريات الأمن الوطني بشأن محمود محيي الدين

يتكرر الأمر مع الحالات الأخرى. ليس فقط تباين التواريخ، بل أيضًا حيثيات الاحتجاز، التي لا تُذكر في المحاضر بالصورة التي نُفذت بها على أرض الواقع، بشهادة محتجزين ومحامين. وهو أمر وثقته بدورها منظمة العفو الدولية.

رشا محيي الدين تروي تفاصيل ليلة احتجاز شقيقها محمود


فوجئ محمود بأن الأمن جاء لأجله، ونقله إلى مكان لم يكن معلومًا لعائلته ولا محاميه على مدار 44 يومًا. "عرفنا بعد هذه الأيام أنه كان في مقر الأمن الوطني"، تقول شقيقته رشا عن وقائع اختفائه القسري الأول.

عصر يوم 20 نوفمبر 2019 افتتح أحمد علي ضابط بالأمن الوطني، محضر توقيف محمود بالإشارة إلى صدور إذن من النيابة بالقبض عليه وتفتيش مسكنه، فتوجه على رأس قوة أمنية إلى مسكنه وطرق الباب ففتح له. عرّف نفسه وطبيعة المأمورية المكلف بها فسمح له محمود بالتفتيش، وعند انتهائه لم يعثر على أشياء تخالف القانون، إلا أنه أوقف محمود لعرضه على النيابة.

ظهر اليوم التالي، دعا عمرو الطويط، وكيل النيابة، محمود إلى غرفة التحقيق وتلا عليه ما كتبه ضابط الأمن. كذَّب محمود رواية الأمن الوطني، وأخبر النيابة أن اعتقاله الفعلي وقع قبل 45 يومًا، وليس اليوم السابق، وأنه حدث بعد أن حطم الأمن باب مسكنه.

مقتطف من محضر جلسة تحقيق النيابة مع محمود محيي الدين في 21 نوفمبر 2019


اكتفى الطويط بتسجيل أقوال محمود حول "إخفائه قسرًا" لمدة 45 يومًا دون التحقق من صحة ادعائه، ورفع أوراق الجلسة إلى مديره المباشر معتز العوضي، رئيس النيابة الكلية، لاتخاذ اللازم. لم يلتفت رئيس النيابة لأقوال محمود وقرر حبسه 15 يومًا على أن يراعى التجديد، وأعاد الأوراق إلى وكيل النيابة لاستكمال التحقيق. 

وبعد دقائق فُتح محضر جلسة أخرى اقتصرت على قرار الطويط استدعاء/ حضور النقيب أحمد علي لجلسة التحقيق التالية. 

بالعودة إلى دور وكيل النيابة العامة، فإن عليه أن يحقق مع المتهم بشأن الوقائع المنسوبة إليه، لا أن يعتمد فقط على ما يرده من تحريات، بحسب أحمد مفرح، المدير التنفيذي لجمعية كوميتي فور جستس.

وضع وكيل النيابة العامة في مصر واختصاصاته لا مثيل له في العالم، ترتيب مصر في النزاهة وطهارة واستقلال القضاء المصري يقع بين الدول العشر الأولى على مستوى العالم، بجانب أن مصر سبقت العالم كله في وضع القيم والتقاليد القضائية

- النائب العام المستشار حمادة الصاوي، خلال كلمته في حفل أداء دفعة جديدة من معاوني النيابة اليمين القانونية، ديسمبر/ كانون الثاني 2021 

تُظهِر محاضر جلسات التحقيق التالية تخلف ضابط الأمن أحمد علي عن الحضور بدون سبب، فقرر الطويط استعجال حضوره مرة تلو أخرى. يفسر "مفرح" سلوك الضابط "هو لا يعمل على إظهار أي نوع من أنواع الجدية لأنه يعلم بأن هذه الأوراق ليست لها قيمة"، بحسب قوله. 

وفي الوقت ذاته استقر رئيسا النيابة الكلية، أحمد المنوفي ومحمد فايد، على تجديد حبس محمود، فلجأ ذووه للطعن. وفي الأول من فبراير/ شباط 2020 قُبل الطعن وصدر قرار بإخلاء سبيل محمود بكفالة 5 آلاف جنيه. لكن القرار لم ينفذ، خلافًا للمادة (421) من التعليمات العامة للنيابات التي تلزم أعضاءها بـ "الإشراف على تنفيذ أوامر الإفراج عن المتهمين وإذا لم يرد من الشرطة أو السجون في مدى عشرة أيام من تاريخ صدور القرار بالإفراج ما يفيد تنفيذه فيجب الاستعلام في الحال". 

ادعى علي السعيد، ضابط في الأمن الوطني، أن معاودة محمود الدعوة إلى الأفكار التكفيرية عقب إخلاء سبيله، كانت سببًا في طلب إذن النيابة لتفتيش مسكنه واحتجازه مجددًا، علمًا بأنه لم يخرج من الاحتجاز بالأساس. 

وفي اليوم التالي، رفض محمود في جلسة التحقيق التهمة الموكلة إليه، ونفى مزاعم تفتيش منزله كونه أصلًا قيد الاحتجاز. 

وهنا، اكتفى وكيل النيابة بتسجيل أقوال محمود، ورفع الأوراق لرئيس النيابة الذي قرر حبسه 15 يومًا على أن "يُراعى التجديد"، وهو ما أثار انتقادات حقوقية رأت في الأمر "تسترًا".

 مقتطف من محضر جلسة تحقيق النيابة مع محمود محيي الدين 7 أكتوبر 2020


عندما استقرت أسرة محمود على استئناف قرار الحبس فوجئت بحبس محاميه، فاستعانت بزوجته التي تعمل في المحاماة أيضًا، رفضت "غرفة المشورة" في محكمة الجنايات الاستئناف.

لاحقًا أُفرج عن محاميه فتقدم بطلب استئناف، قُبِل الطلب وصدر إخلاء سبيل محمود بكفالة 1000 جنيه، سُددت الكفالة ولكن لم ينفذ القرار، واختفى محمود حتى ظهر في نيابة أمن الدولة بالقاهرة يوم 3 يونيو/ حزيران 2020 متهمًا بالانضمام  إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بحسب شقيقته. 

"التباين في التواريخ" الموثق في حالة محمود ليس أمرًا نادرًا، إذ وثقت منظمة العفو الدولية "تقاعس وكلاء نيابة أمن الدولة بشكل ممنهج عن معالجة تزوير تواريخ القبض على 87 حالة من إجمالي 112 حالة". وقالت المنظمة في تقرير إن "النيابة احتجزت آلاف الأشخاص فترات طويلة لأسباب ملفقة" ما أدى إلى "انتهاك حقوقهم في محاكمة عادلة".

 

تحريات أقرب إلى الخيال

طلب إذن النيابة لضبط شخص ما وتفتيش مسكنه يسبقه إعداد مذكرة التحري، والتي تعد أولى خطوات الاستدلال بشأن الجرائم، وتصف المذكرة زمان ومكان وقوع الجريمة وأركانها.

يشرح أستاذ القانون الجنائي ورئيس مجلس الشعب السابق أحمد فتحي سرور في كتاب "الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية" الهدف من التحريات بالمعنى الدقيق "من الواجبات المفروضة قانونًا على مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم أن يجروا التحريات اللازمة عن الوقائع التي يعلمون بها بأي كيفية كانت، ويجب أن تتضمن هذه التحريات كافة القرائن التي تفيد في معرفة الحقيقة إثباتًا أو نفيًا لواقعة معينة". 

بالنظر إلى تحريات القضية الأولى لمحمود، نجد أن معدها الضابط محمود طاهر نسب إلى محمود قناعته بالأفكار التكفيرية، واستحلال القيام بعمليات عدائية ضد العاملين بالقوات المسلحة والشرطة والقضاء، واستهداف أبناء الطائفة المسيحية ودور عبادتهم واستحلال ممتلكاتهم ودمائهم، واستهداف المنشآت الهامة والحيوية.

التحريات تحدثت عن خلية عنقودية دون أن تذكر أفرادها وماذا خططوا وأين ومتى اجتمعوا وعقدوا لقاءاتهم.

جاء في التحريات أيضًا أن أفراد الخلية خططوا لارتكاب سلسلة من العمليات العدائية ضد ضباط وأفراد القوات المسلحة والشرطة والقضاء والمنشآت الأمنية والحيوية بقصد إحداث حالة من الانفلات الأمني وإثارة حالة من الفزع والرعب فى نفوس المواطنين لتعطيل العمل بالدستور وصولًا لإسقاط الدولة، وأنهم "عقدوا لقاءات تنظيمية في محال إقامتهم لتجنب الرصد الأمني".

لكنَّ التحريات لم تذكر اسم منشأة أو تمركز أو كمين واحد. 

تشير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان أن "سردية تحريات الغالبية من القضايا السياسية أقرب إلى خيال جامح لتصبح كوميديا سوداء تغتال قاعدة العدالة المفترضة وهي احترام جزء من التفكير ومعه جزء من العقل". 

و"تتحدث تحريات بعض القضايا عن تحقيق أهداف جماعة إرهابية دون أن تحددها. تتحدث عن اتصالات من دون توثيق اتصال واحد، وأيضًا اجتماعات دون شيء على الأرض. والأدهى أن هذه الاتهامات تتكرر في تحريات القضايا التي تم التدوير فيها"، بحسب الشبكة.  

ومع تدوير محمود في القضية الرابعة، كرر مُجري التحريات في النيابة، الضابط على السعيد، تهم تحريات القضية الأولى، مضافًا إليها عبارة "معاودة محمود عقب إخلاء سبيله"، في إشارة إلى عودته إلى ممارسة التهم الموكلة إليه.

تحريات القضيتين الأولى والرابعة لمحمود محيي الدين

وبرغم تكرار التهم وخلوها من المعلومات، إلا أن قرارات وكلاء ورؤساء النيابة العامة في كفر الشيخ، استندت إلى تحريات القضيتين الأولى والرابعة، فأعادوا توجيه التهم إليه، وسألوه إذا ما كان لديه شهود نفي. 

ولكن الأصل في المتهم البراءة، والنيابة هي من يقع عليها عبء إثبات وقوع الجريمة من دون أن يلتزم المتهم بتقديم أدلة تثبت براءته، ويترتب على انتهاك هذا الأصل عدم العدالة في أصول المنازعة القضائية. بحسب ما ورد في كتاب "حماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية" لـ ألبرت شافان.

استجواب "وهمي"

على خطى سابقيه، صاغ وكيل النيابة أحمد أبو سبع، سؤاله الأول إلى محمود من أوراق القضايا السابقة، برغم تغير وصف الجماعة المتهم بالانضمام إليها من "تكفيرية" في القضية الأولى إلى أنها "أنشأت على خلاف أحكام القانون" في القضية الرابعة.

تمسكت النيابة بإعادة كتابة غرض الجماعة (تعطيل أحكام الدستور والقانون ومنع مؤسسات الدولة من ممارسة أعمالها)، ووصف محمود بأنه "قيادي تكفيري". اعتبرت رشا محيي الدين، شقيقة محمود، ذلك ذريعة لإبقائه في السجن.

خلت جلسات الاستجواب في القضيتين من عنصرين جوهريين؛ الأول هو المناقشة التفصيلية، بينما الثاني هو المواجهة بالأدلة، وفق ما أظهرته وثائق القضيتين الأولى والرابعة، إذ كان واضحًا من الأسئلة المكررة لمحمود أن الاتهامات كانت معدةً سلفًا.

ويؤكد الدكتور عبد الحميد الشواربي في كتاب "ضمانات المتهم في مرحلة التحقيق" أن غياب أي من العنصرين يعني انهيار ركن هام للاستجواب لا يمكن الاعتراف بوجوده.

مثلًا، في جلسات الاستجواب الخاصة بالقضيتين (الأولى والرابعة)، كانت النيابة تكتفي بسؤال محمود شفيهًا عن التهم المنسوبة إليه، وكان بدوره ينكرها، فتقرر النيابة حبسه على ذمة التحقيق، وهكذا دواليك. 

لا سبيل أمام حالات "التدوير" للوصول إلى محاكمات "عادلة" تضع حدًا لاحتجازهم، أو يحصلوا من خلالها على أحكام تكون كفيلة بالإفراج عنهم بعد قضائها.

ومن بين الذين قاسوا التدوير من لجأ إلى الإضراب عن الطعام، مثل علاء عبد الفتاح الذي يخوض إضرابًا تجاوز يومه الـ 177. آخرون، وضع الموت حدًا لانتظارهم.

خلال الفترة بين 2020 - 2021 توفي أربعة أشخاص داخل مقار الاحتجاز. أحدهم عانى من ورم سرطاني في الرئة، والثاني أصيب بفيروس كورونا، بجانب معاناته من جلطة بالمخ. والثالث تعرض لأزمة قلبية حادة، ولم تُعرف الحالة الصحية للرابع قبل رحيله.   

أما محمود، فهو منشغل الآن بمواجهة أمراض أصابته أثناء الاحتجاز، ولا تملك شقيقته رشا سوى محاولات إدخال الأدوية له، والدعاء بفرج عسى أن يكون قريبًا.


تنشر المنصة هذا التحقيق بالتزامن مع “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) في إطار اتفاق شراكة.