تصميم: المنصة

حروب أهلية وتضخم واستقطاب سياسي: ضرورة التغيير في السودان

منشور الاثنين 24 ديسمبر 2018

 

السودان ينتفض. لقد قرأ الناس هذه الجملة القصيرة عدة مرات في السنوات القليلة الماضية، لكن الحقيقة هي أن السودان لم يتوقف قط عن الانتفاض منذ انقلاب يونيو/ حزيران 1989 الذي جلب حزب الجبهة الإسلامية القومية الحاكم (لاحقا حزب المؤتمر الوطني) والرئيس الحالي عمر البشير إلى السلطة. 

لم يتوقف النضال السياسي ضد دكتاتورية نظام البشير الإسلامي يومًا واحدًا. واصل النظام في استخدام جهازه الأمني الاستبدادي لقمع النضال ضده، مما أدى إلى تأجيج الحرب الأهلية في الجنوب إلى أن انتهت بانفصال جنوب السودان باعتباره الحل المتبقي الوحيد، وأدت نفس السياسات الخرقاء لحزب المؤتمر الوطني إلى اشعال حرب أخرى في جنوب البلاد الجديد، بالإضافة إلى الحرب الأهلية المشتعلة في دارفور. 

شهدت هذه الحروب الأهلية أسوأ أنواع العنف ضد المدنيين، والتي شملت استخدام العنف الجنسي على أوسع نطاق في دارفور، القصف الجوي العشوائي لقرى المدنيين، وتشريد الملايين من المواطنين السودانيين، وقائمة طويلة جدًا من جرائم الحرب التي قادت البشير إلى ان يصبح معروفا بكونه أول رئيس دولة على سدة السلطة يكون مطلوبًا للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

بالإضافة إلى جرائم الحرب هذه، شهدت المناطق الحضرية في السودان مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان. جهاز المخابرات والأمن الوطني الشبيه بالجستابو والذي يتحكم فيه حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أصبح أداة سياسية مرعبة للإرهاب السياسي يستخدمه نظام البشير لاختطاف واعتقال معارضيه لأجل غير محدود فضلًا عن تعذيبهم وقتلهم، مع تمتع أفراد هذا الجهاز بسلطات ضخمة وحصانة قانونية كاملة لأفراده. وكما هو متوقع رافق ذلك انتشار غير مسبوق للفساد في السودان في ظل الغياب الكامل لسيادة القانون.

بالقفز سريعًا إلى عام 2018، أخذ المتظاهرون شوارع المدن السودانية وهم يمتلكون رؤية واضحة لأسباب معاناتهم. بدأت الاحتجاجات في مدينة عطبرة، المعروفة بتاريخها العمالي، في 19 ديسمبر/ كانون الأول، ثم امتدت إلى مدن القضارف والنهود وبورسودان التي كان من المفترض أن تستقبل زيارة رئاسية من البشير في نفس اليوم. 

في اليوم التالي اتسعت رقعة الاحتجاجات إلى دنقلا وبربر وسنار والأبيض ثم العاصمة الخرطوم. شهد اليوم الثالث انتشار الاحتجاجات في كل مكان تقريبا في السودان. كان المحتجون يركزون بشكل كبير على من هم السبب وراء معاناتهم. في معظم المدن التي شهدت مظاهرات، سار المواطنون بشكل تلقائي، جماعي وعفوي، لحرق مباني حزب المؤتمر الوطني الحاكم. لم تكن مراكز ومقار الحزب الحاكم مجرد رموزًا للاستبداد والديكتاتورية فحسب، بل كانت ايضاً رموزًا للفساد الكبير الذي يحاصر السودان.

احتل المحتجون الشوارع، مدفوعين بالظروف المعيشية الصعبة والأزمة الاقتصادية التي يمر بها السودان، حيث بلغ معدل التضخم 66.82% مع انهيار كامل لقيمة العملة المحلية وارتفاع حاد في أسعار الضروريات الأساسية والتي تفاقمت بسبب نقص السيولة في البنوك والسوق. ومع ذلك، كان هذا مجرد عَرَضٍ لأزمة سياسية من الدرجة الأولى.

يرتبط الفساد الضارب في أروقة الدولة بشكل مباشر وعضوي بمن هم على قمة هرم السلطة. ومدى الفساد وحجمه يتناسبان بشكل طردي مباشر مع ارتفاع المستوى في التسلسل الهرمي للسلطة. الحالات الضخمة من الفساد الكبير التي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد السوداني ترتبط بالمسؤولين الكبار الذين هم فوق مسائلة القانون في دولة السودان التي يغيب عنها حكم القانون.

على الرغم من التشوه الهيكلي للاقتصاد السوداني الموروث منذ الاستقلال، والذي يُنظر إليه في اعتماد الاقتصاد على التصدير بدلاً من الإنتاج، والذي تفاقم بسبب المرض الهولندي: " تزايد الاعتماد على تصدير مورد طبيعي واحد مع إهمال بقية القطاعات الاقتصادية " خلال سنوات من تصدير النفط ب إلى الممتدة بين 1998-2011، والصدمة الكبيرة التي ضربت الاقتصاد السوداني بعد استقلال دولة جنوب السودان الغنية بالنفط، فإن الأزمة الاقتصادية الحالية مختلفة. 

لقد خلقت مظاهر عدم اليقين الاقتصادي والسياسية هذه عصابات متعطشة للمال لدى أولئك الذين يحتكرون سلطة غير محدودة في السودان، حيث يسعون إلى جمع أكبر قدر ممكن من الأصول والأموال من أجل حماية والحفاظ على امتيازاتهم في حالة حدوث أي تغيير.

النقص الحالي في السيولة تفاقم بشكل كبير بسبب المضاربات في أسعار صرف العملات الأجنبية وتخزين العملة والذي اشتكى منه علانية رئيس الوزراء الحالي معتز موسى. أصبح من الواضح أن الأزمة سياسية بطبيعتها.

الفساد في القطاع المصرفي، القروض الائتمانية المزيفة والمنح الاستثمارية الممنوحة إلى كبار أعضاء الحزب الحاكم دون ضمانات كافية ودون عوائد على الانتاج، وغيرها من الممارسات الفاسدة، أدت إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي من قبل المواطنين. وتفاقم فقدان الثقة في النظام المصرفي بواسطة القرارات قصيرة النظر التي اتخذتها الحكومة لمعالجة مشكلة السيولة عن طريق وضع سقف منخفض جدًا للسحب من الحسابات المصرفية الشخصية، سقف مبالغ لا تكفي للوفاء بالتزامات الحياة اليومية في ظل الارتفاع السريع للأسعار، وهو ما دفع الناس لتخزين الأموال في منازلهم بدلا من البنوك، ما فاقم بدوره أزمة شح السيولة وأثار ممارسة الفاسدين في المضاربة على العملات.

هؤلاء الفاسدين من القطط السمان هم من المتنفذين في الدولة الذين لا يمكن المساس بهم، بما فيهم أفراد العائلة الرئاسية (التي تشمل رئيس الوزراء نفسه هو ابن عمة الرئيس)، ويستخدم كبار أعضاء الحزب الحاكم والمسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى هذه الممارسات لتعزيز وضعهم الاجتماعي وحماية أنفسهم في ظل التقلبات السياسية، ولكنهم يتجاهلون حقيقة أنهم نفسهم هم سبب تدهور الوضع وتزايد احتمالات التغيير بسبب تفاقم معاناة الشعب.

أصبحت أدوات وشعارات مكافحة الفساد جزءًا من معركة تصفية الحسابات الشخصية بين سادة النظام، ولم تنعكس بأي طريقة إيجابية على الاقتصاد السوداني، وهذا ما جعل من تصريحات رئيس الوزراء الجديد وتغريداته (ومعتز موسى مغرم بتويتر على الأسلوب الدونالد- ترامبي)، إلى مهزلة سخيفة، وهو يحاول الإيحاء بامتلاك حلول اقتصادية لمشكلة يعلم الجميع أنها سياسية بطبيعتها.

من ناحية أخرى، فإن النظام لا يساعد نفسه بأي وسيلة من خلال تعنت في التعامل مع الجوانب الأخرى من الأزمة السياسية في السودان، حيث يستمر حزب المؤتمر الوطني الحاكم في التلاعب بجميع الفرص المتاحة لحلول سياسية لإنهاء الحرب الأهلية في مناطقها الثلاثة المضطربة في السودان؛ دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ويرفض السماح ولو بحد أدنى من الانفتاح الذي يساعد على الحد من الاستقطاب السياسي في البلاد. 

ينجح النظام في ذلك بمساعدة وضعه الجديد مع الوسطاء الدوليين الذين يستعملونه في خدمة مصالحهم المختلفة في المنطقة، فضلًا عن ضعف القوى السياسية المعارضة التي استثمر النظام في تدميرها على مدار سنوات حكمه. ولكن حزب المؤتمر الوطني يحفر قبره بيده باستخدام هذا المنهج؛ فهذه الحروب الأهلية وهذا الاستقطاب السياسي بالإضافة إلى عدم وجود مساحات ديمقراطية، يبقونه رهينة دائمة للاستقواء بالقوى الأجنبية التي تستخدمه لأداء المهام التي تريد، ولكن تقدم له الدعم فقط بالقدر الذي يحافظ على بقائه كرهينة.

الطغاة يقرأون من كتاب واحد لا يعلمهم درسا بسيطا؛ وهو أن الضامن الوحيد لأي حاكم هو شعبه، وليس القوى الأجنبية، مهما كانت درجة خدمته لهم.

لقد ظل المؤتمر الوطني والجنرال البشير في السلطة لمدة 30 عامًا اعتمادًا على قوة الأجهزة الأمنية وميليشياتهم العسكرية التي يستعملونها لقمع حركة المعارضة. ولم يترددوا في تسليح هذه المليشيات وتموينها وإنشاء ميليشيات جديدة مكرسة لحماية سلطتهم، ووجهوا ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى إلى إنفاقها على ما يسمى عمومًا بالقطاعات السيادية والأمنية. 

نفقات سخية تستهلك أقل قليلًا من ثلث الموازنة العامة. وقد أدى هذا الإحجام عن توجيه الميزانية العامة إلى قطاعات الخدمات الاجتماعية إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية على المجموعات الأكثر فقرا، التي تواجه الآن مصيرها منفردة في معركة أسطورية مع تدابير بدون وجود أي شبكة حماية اجتماعية أو أي خدمات من القطاع العام. هؤلاء الناس هم الذين يأخذون الشوارع الآن، مدفوعين بإرادتهم في الحياة، مدركين أنهم لن يخسروا أي شيء لأن حزب المؤتمر الوطني لم يترك لهم شيئًا يخسرونه، لكن كل شيء ليكسبوه، حريتهم وأمنهم وحياتهم الكريمة.

ولكن لا يزال النظام لا يفهم ذلك، ويستمر في الاعتماد على إجراءاته الأمنية لمعالجة الأزمة. وتجاوز عدد القتلى 22 شخصًا خمسة أيام من الاحتجاج. حيث يتم استخدام الذخيرة الحية بكثافة في مدن مختلفة من البلاد. 

سيناريو احتجاجات سبتمبر / أيلول 2013 مرجح للتكرار، عندما قامت قوات الأمن بقتل أكثر من 200 متظاهر في الشوارع كانوا يتظاهرون لأسباب مشابهة. واحتفل سادة حزب المؤتمر الوطني، الذين يبدو أنهم لم يتعلموا شيئًا من هذه المجزرة، بما اعتبروه نجاحًا في إخماد المظاهرات. 

لم تنجح الحلول الأمنية ولن تنجح في ذلك أبدًا. ومع ذلك، ومع الارهاق السياسي الوطني الواسع، يظهر سيناريو مروع آخر؛ انقلاب داخلي داخل حزب المؤتمر الوطني. رئيس جهاز الأمن والمخابرات، صلاح قوش، الذي عاد إلى منصبه في بداية هذا العام بعد الطرد المهين في عام 2012 والذي وصل إلى درجة اعتقاله واتهامه بالتخطيط للانقلاب، ألقى باللوم علانية على الحكومة "بسوء ادارتها" للأزمة الاقتصادية وكيفية تعاملها مع الاحتجاجات.

طموح قوش لوراثة البشير ليس سرًا وكان السبب وراء طرده في عام 2011، ولكنه ليس الوحيد الذي لديه مثل هذه الطموحات، فهناك أيضًا الحرس القديم من الإسلاميين الذين ينظرون إلى العرش، والاضطرابات داخل الجيش أيضا تخلق احتمالات لانقلاب عسكري يستلم فيه الجيش السلطة.

ما هو مرعب في جميع هذه السيناريوهات هو أنها لن تقدم أي حلول، بل ستحافظ على نفس طبيعة السلطة الفاسدة مع بعض التغييرات السطحية في التسلسل الهرمي. وستستمر معاناة الناس باستبدال ديكتاتور جديد بآخر قديم مرهق. ناهيك عن أكثر الاحتمالات المرعبة لحمام دم في الخرطوم نتيجة للصراع بين الميليشيات العديدة لحزب المؤتمر الوطني. 

قوات الدعم السريع، وقوات الأمن والجيش، التي تتوزع ولاءاتها بين أجنحة الإسلاميين المختلفة والتي ستختار جانبًا في هذا السيناريو. الناس والمواطنون العاديون سيكونون كذلك جزءًا من هذا الصدام. أولئك الذين يضحون بحياتهم في الشوارع الآن لن يقبلوا أن يكونوا مراقبين صامتين بينما يتم التلاعب بأحلامهم وتضحياتهم في العدالة والعيش الكريم.

الطريق السلمي الوحيد لإنهاء ذلك هو أن يفهم حزب المؤتمر الوطني ويرى أن اللعبة قد انتهت. لقد حان الوقت لتسليم السلطة إلى تحالف سياسي وطني واسع ومواجهة عواقب ثلاثين سنة من الفساد وسوء الإدارة بدلاً من أخذ البلاد في مثل هذه الطرق الخطرة. ما يحدث الآن في السودان هو مخاض تغيير شامل وكامل، ثورة حقيقية ولدت من معاناة شعب صبور. ويجب أن يكون الهدف الوحيد لأي سياسي عاقل هو العمل على إنهاء هذه المعاناة.