جلوبال فيليدج
عمل فني للتعليق على احتمالات تورط بن سلمان في مقتل خاشقجي

مقتل خاشقجي: دور أمريكا في الرعب السعودي

منشور الخميس 1 نوفمبر 2018

هيو إيكن

مترجم عن "نيويورك ريفيو أوف بوكس"

في ربيع 2012، قمت بزيارة طويلة إلى المملكة العربية السعودية لكتابة تقارير صحفية عن آثار الربيع العربي هناك. كانت مملكة النفط شديدة المحافظة تشن ثورة مضادة قوية، ولكن الانتفاضات أمدت الاصلاحيين عبر المنطقة بطاقة جديدة. وكنت متطلعا لأن أرى كيف رأى السعوديون أنفسهم مستقبل بلادهم.

كان جمال خاشقجي بين العديدين الذين تحدثت إليهم، وكان حينها صحفيًا ذا صلات جيدة بشكل غير اعتيادي، وصاحب رؤية متفائلة عنيدة. والتقيت أيضا برجل الدين اﻹصلاحي البارز سلمان العودة، صاحب الـ 14 مليون متابع على تويتر؛ والأمير الوليد بن طلال، الملياردير المستثمر المحب للغرب؛ وهتون الفاسي، وهي مؤرخة عبقرية رأت في النساء المتحررات في الجزيرة العربية قبل الإسلام نموذجًا يحتذى للتغيير في مجتمعها؛ ومحمد فهد القحطاني، أستاذ الاقتصاد الذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة؛ ووليد أبو الخير، محام من جدة؛ والمدونة الشابة إيمان فهد النفجان.

رجال ونساء، شباب وكهول، متدينون بإخلاص وعلمانيون، ينتمون لأوجه مختلفة من الحياة السعودية. بعضهم، مثل خاشقجي، كانوا في قلب المؤسسة الحاكمة؛ وآخرون رأوا أنفسهم كمعارضين حقيقيين. وما جمع بين معظمهم هو الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي والسياسي- والاعتقاد في أن الولايات المتحدة ستدعمهم في مسعاهم. لكنها لم تفعل.

في الأعوام التالية لزيارتي، كل واحد من هؤلاء كان إما قد احتجز أو خضع للمحاكمة أو طورد إلى المنفى، أو ما هو أسوأ. فقد ألقي القبض على إيمان النفجان وهتون الفاسي لدفاعهما عن حقوق المرأة. وكان اﻷمير الوليد بين رجال اﻷعمال السعوديين الذين أرغموا على التنازل عن مبالغ طائلة للحكومة، بعد احتجازهم لشهور في فندق ريتز كارلتون في الرياض في الشتاء الماضي. وينفذ كل من القحطاني وأبو الخير أحكاما طويلة بالسجن؛ وربما يواجه العودة عقوبة الإعدام. وحتى هذا الشهر لم تثر أي من قضاياهم انزعاجا يذكر لدى الحكومة الأمريكية.

 

كم تغير الأمر مع ما يصفه مسؤولو المخابرات التركية اﻵن بالطريقة الداعشية في تعذيب وقطع رأس خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول في الثاني من أكتوبر/ تشرين أول الماضي. وسط موجة استثنائية من الامتعاض والغضب، أعلن دبلوماسيون أمريكيون مخضرمون وقوع خرق أساسي للعلاقات الأمريكية-السعودية، ودعا نواب إلى توقيع عقوبات، ويقاطع رؤساء مجالس إدارات شركات السعودية. وصرح السناتور ليندسي جراهام قائلا "إني أرغب في أن نفعل بالسعودية كل ما فعلناه ببوتين".

ولكن الاغتيال الوقح لم يحدث في الفراغ. وإن كان "يغير-اللعبة" كما يراه كثيرون، فقد كان أيضا اﻷحدث والأكثر تطرفا بين أفعال نظام قمعي، يمارس قمعه بمظلة من الحصانة الافتراضية، بينما يحتفظ بعلاقات وثيقة يحسد عليها مع واشنطن. لقد قام السعوديون بما قاموا به ﻷنهم ظنوا أن بإمكانهم اﻹفلات به.

حقًا، حتى في الحين الذي ضجت فيه واشنطن بالصخب حول خطط ولي العهد الكبيرة  لمستقبل بلاده، كان الأمير الشاب يقضي بقسوة على المساحة المحدودة أصلا للنقد والمعارضة في المملكة. وليس فقط المعارضون، بل أكاديميون مشاهير وأمراء، وحتى نساء جرؤوا على الحديث عن حقوقهم، تعرض كل هؤلاء لقمع شديد- داخل البلاد وخارجها. ففي مايو/ أيار، قُبض في أبو ظبي على لُجيْن الهذلول، وهي مدافعة سعودية عن حقوق المرأة في الثامنة والعشرين من عمرها، ووضعت على طائرة، ورحلت إلى المملكة السعودية، حيث سجنت.

 

الناشطة السعودية لجين الهذلول - المصدر: حسابها على تويتر 

بالنسبة للعديد من المراقبين الغربيين، تشير واقعة خاشقجي إلى الطبيعة الشاذة للقادة في الرياض وواشنطن. فعلى جانب؛ لدينا ولي العهد محمد بن سلمان البالغ من العمر 33 سنة، ويشار إليه عادة بـMBS، المتهور عديم الخبرة والسلطوي الذي يهيمن على النظام السعودي بلا منازع؛ وعلى الجانب اﻵخر هناك الرئيس ترامب، غول عقارات متبجح وهو يعجب بالرجال الأقوياء، ولا يكاد يهتم بحقوق اﻹنسان، وقد منح بن سلمان دعما غير محدود.

في تقرير لها صدر عقب مقتل خاشقجي، تقول مجموعة التنبؤ الاستخباراتي الجيوسياسية ستراتفور "إن ثقة السعودية المتزايدة مستمدة من الغطاء السياسي الذي توفره لها علاقتها الخاصة مع الإدارة الأمريكية الحالية"

وإذا وضعنا القيادة الحالية جانبًا، فليس ثمة جديد فعليًا في هذه العلاقة الخاصة. فقد حافظت إدارة جورج دبليو بوش على علاقات وثيقة مع الرياض، رغم تورط 15 سعوديًا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والتأثير الطاغي للإسلاموية الممولة سعوديًا على الحركات الجهادية حول العالم. وكانت إدارة أوباما أكثر اعتناءً بمغازلة السعوديين. فوفق دراسة لخدمة البحث التابعة للكونجرس، أتمت الولايات المتحدة بين عامي 2010 و2015 صفقات سلاح مع المملكة بلغت رقمًا قياسيًا قدره 111 مليار دولار. وغض البصر عن التدخل السعودي بقمع المتظاهرين السلميين في جارتها البحرين، وتجاهل دعم السعودية للانقلاب العسكري على أول حكومة مصرية منتخبة ديموقراطيًا.

كما أن صعود محمد بن سلمان ووالده الملك سلمان إلى السلطة كان في أثناء حكم أوباما. وجدير بالذكر أن إدارة أوباما لم يرف لها جفن عندما شن محمد بن سلمان حملة القصف الجوي السعودية الكارثية على اليمن في مارس/ أذار 2015، فيما يبدو دون استشارة البيت الأبيض. قتل الهجوم الوحشي الذي تقوده السعودية والمدعوم بمبيعات السلاح اﻷمريكية المستمرة عشرات اﻵلاف من المدنيين (في اليمن)، ودفع بملايين الأطفال إلى حافة الموت جوعا، خالقًا الكارثة اﻹنسانية الأسوأ بالعالم. وقد أصدر محققو اﻷمم المتحدة في أغسطس/ آب الماضي تقريرا يتهم السعوديين وأطرافًا أخرى في الصراع بجرائم حرب محتملة. وحتى في الوقت الذي كانت فيه هذه الحقائق تتكشف، رفض مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون (حزب ترامب) قرارًا بوقف الدعم العسكري الأمريكي في موازنة الدفاع للعام القادم.

أمل وخذلان

أثناء إعدادي للتقارير الصحفية في المملكة عقب الربيع العربي، عرفت عن كثب ما تعنيه الشراكة السعودية-اﻷمريكية غير القابلة للاهتزاز لمواطني المملكة السعودية. ففي ذلك الحين، منحت إدارة أوباما دعمها للثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا، وأمل كثير ممن قابلتهم من السعوديين، أن تحوز جهودهم اﻹصلاحية شديدة التواضع دعما مماثلا.

في الرياض أخبرني محمد القحطاني أستاذ علم الاقتصاد عن منظمة حقوق اﻹنسان الرائدة، التي شارك في تأسيسها، وعن جهودهم في توثيق سلسلة من التظاهرات المعروفة بالكاد، والتي وقعت-وقُمعَت بسرعة- داخل المملكة. وعندما سألت إن كان يخشى القبض عليه، أجاب بالنفي.

قال القحطاني "إن منظمتي معروفة. ولو قاموا بأي شيء سيصل الخبر إلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي وسيسبب ذلك لهم الحرج". بعد أسابيع قليلة من لقائي به، اتهم بإشعال الفتنة (تقويض سياسات الدولة)؛ وفي مارس 2013 حكم عليه بالسجن لعشرة أعوام.

في جدة، التقيت بالمحامي الحقوقي وليد أبو الخير، الذي لا يخفي استيائه من غياب أي مساحة سياسية في المملكة. بمبادرة مبتكرة؛ بدأ أبو الخير مجموعة نقاش أسبوعية في بيته. وفي ظل تحرش السلطات المستمر به، تم منعه من السفر إلى الخارج. ولكنه كان قد نشر مؤخرًا مقالا في الواشنطن بوست حول جهوده، وتخيل أن وزارة الخارجية الأمريكية قد تتدخل إذا ما اعتقل. وفي عام 2014، حكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا.

في ذلك الحين، لم يكن خاشفجي يواجه مشاكل مع السلطات. على العكس، كان يعرف كثيرا من المسؤولين السعوديين وكبار أعضاء العائلة المالكة. ولكنه أيضا تطلع إلى أن يرى الملكية تعتنق انفتاحا أكبر، وكان متحمسا بصفة خاصة لـ"العرب"، قناة أخبار عربية كان يخطط لإطلاقها من البحرين بدعم من اﻷمير الوليد (بن طلال). وكما وصفها، كانت القناة ستهدف إلى تقديم بديل ذي قيمة لقناة الجزيرة، متيحة صحافة خبرية صريحة على الطراز الغربي وجدلا مفتوحا، وكانت ستعتمد أيضا على شراكة مع شبكة بلومبرج.

ولكن عندما انطلقت القناة في فبراير 2015، أغلقتها الحكومة البحرينية على الفور، تقريبا، لإذاعتها آراءً لأحد رموز المعارضة. ولم تقم الحكومة اﻷمريكية بأي تحرك للاعتراض على تكميم هذه المبادرة اﻹعلامية الليبرالية الشجاعة، سعودية اﻹدارة.

بعد لقائي بالقحطاني وأبو الخير بوقت قصير، سألت سفير الرئيس أوباما لدى السعودية، جيمس بي سميث، عما إذا كان من الممكن أن تساعد الولايات المتحدة رجالا مثلهم. فأوضح لي أن حقوق اﻹنسان لم تكن واحدة من ركائز العلاقة اﻷمريكية-السعودية. ولم يكن السفير يطرح رأيا جدليًا؛ فمنذ الترسيخ الأسطوري للحلف غير المتوقع بين واشنطن والرياض على يدي الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز، كانت شروطه واضحة: في مقابل سماحية مفتوحة للوصول إلى النفط السعودي، يضمن البلد الديموقراطي المتقدم الذي يقود العالم، أمن الملكية الأكثر رجعية فيه. وتقريبًا لم يكترث الطرفان لأي شيء آخر.

ومع ذلك، لم تستح الولايات المتحدة خلال العقود الأولى من تعاونها مع المملكة المتحدة من استخدام التحالف للترويج للمبادئ الليبرالية. وخلال منتصف الستينات، دفعت إدارات متعاقبة للولايات المتحدة الملكية السعودية نحو القيام بإصلاحات تحديثية، وفي عام 1962، أقنع الرئيس كينيدي المملكة بإلغاء العبودية. وكانت الخارجية اﻷمريكية نشطة للغاية في حث المملكة على الانفتاح السياسي، إلى حد أن الملك فيصل سأل السفير اﻷمريكي حينها هيرمان إيلتس، "هل تريد الولايات المتحدة للسعودية أن تصبح حرما آخر لجامعة بيركلي؟"

انتهى ذلك كله مع ظهور شبح القومية العربية ثم حظر النفط في 1973. فالولايات المتحدة كانت في حاجة إلى شريك موثوق به في الرياض، بغض النظر عن لونه السياسي. ومع الغزو السوفيتي لأفغانستان، أصبحت المؤسسة الدينية السعودية المحافظة للغاية ماكينة ملائمة لإنتاج المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة.

للمفارقة، أثبت السعوديون أنه لا يمكن الاستغناء عنهم بنفس القدر في جهود الحرب على اﻹرهاب في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر، حيث أن المتطرفين مثل أسامة بن لادن قد ترعرعوا على أرضها وكانت الولايات المتحدة في حاجة إلى التعاون السعودي لاصطيادهم. وفي نفس الوقت، وفرت المملكة حائطا دفاعيا منيعا في وجه إيران، إضافة إلى سوق لا يكاد يكون له نهاية لصناعة السلاح الأمريكية. في مقابل ذلك كله، كانت واشنطن أكثر من راغبة في أن تشيح بنظرها عندما يتعلق اﻷمر بانتهاكات حقوق اﻹنسان والعصر الجليدي السياسي داخل المملكة.

مع ذلك، فعلى اﻷقل منذ الربيع العربي، كان من الصعب تجاهل كلفة هذه الصفقة مع الشيطان. وكما أخبرني بروس ريديل، وهو مستشار سابق في شؤون الشرق الأوسط لعديد من اﻹدارات الأمريكية، "نحن نمكِّن نظاما يشجع السلطوية (القمع)، وثمة عواقب لذلك".

إن فشل أمريكا في اتخاذ موقف رافض للتعامل دون رحمة مع إصلاحيين مثل القحطاني وأبو الخير، قد وضعنا بشكل متزايد على الجانب الخاطئ للتاريخ. حتى مع وضع موقفنا الأخلاقي في النظام العالمي جانبًا؛ لم يقدم دعم الولايات المتحدة للمغامرات السعودية مثل غزو البحرين أو الحملة في اليمن، شيئا لخدمة المصالح الاستراتيجية اﻷمريكية. ويطرح ريديل في كتابه الأخير "ملوك ورؤساء: المملكة السعودية والولايات المتحدة منذ روزفلت"، أن واشنطن ستبلي بشكل أفضل إذا ما عاملت الملكية السعودية كما تعاملت مع روسيا والصين في المراحل المتأخرة للشيوعي؛ التعامل في مساحات المصالح المشتركة، والضغط في سبيل اﻹصلاح، وفضح انتهاكات حقوق اﻹنسان.

ومع ذلك فكما توضح واقعة خاشقجي بصورة قاتمة، قد أهملت الولايات المتحدة الشؤون الداخلية للمملكة طويلا، إلى حد أنه قد يكون من الصعب اﻵن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وكما صرح الدبلوماسي اﻷمريكي السابق جيرالد إم فايرشتاين للنيويورك تايمز في اﻷسبوع الماضي "السعوديون أقل اهتماما بآراء الولايات المتحدة من أي وقت مضى". وأضاف أن اﻷمر لم يكن مسألة متعلقة بالبيت اﻷبيض في عهد ترامب؛ فالمملكة لم تعد تعتقد أنها في حاجة إلى موافقة الإدارة الأمريكية على أفعالها.

رغم ذلك، يبدو الرئيس ترامب حريصا على السماح لمحمد بن سلمان باﻹفلات، بينما يوشك ولي العهد على تجنب تحمل المسؤولية. مستخدما كل شيء بداية من نظرية "القتلة المارقين" وحتى المقارنات المحيرة ببريت كافانو، أظهر الرئيس رغبته الواضحة في حماية صفقات السلاح اﻷمريكية (مع السعودية) ووقاية القيادة السعودية. واﻵن وقد ربط تقرير للنيويورك تايمز بشكل مؤكد جريمة اسطنبول بالدائرة اللصيقة بمحمد بن سلمان-مع قدر متزايد من الأدلة على الجريمة نفسها-فإن الرهان يبدو خاسرًا بشكل متزايد.

ولكن مع كون سياسة الرئيس تجاه إيران على المحك، فحتى الكونجرس الغاضب قد لا يكون متحمسا لاتخاذ أية خطوات جذرية تجاه الرياض. وإذا ما كانت هذه هي الحال، فربما يمر الاغتيال البربري لخاشقجي كنوع مختلف من تغيير-اللعبة؛ هو ليس نهاية العلاقة اﻷمريكية-السعودية وإنما اللحظة التي انفضحت فيها حقيقتها.