البابا قبل إلقاء عظته الأسبوعية أمس

قراءة في عظة البابا: هل يهيئ البطريرك الأقباط لقبول الإعلان عن قاتل إبيفانيوس؟

منشور الخميس 9 أغسطس 2018

 

قال مصدر أمني على صلة بالتحقيق في جريمة قتل الأنبا إبيفانيوس في تصريح خاص لـ"المنصة" إن محاولات عدة جرت لإفاقة الراهب فلتاؤس المقاري كان أولها أمس الأول الثلاثاء ولم تمن بنجاح، وتكررت محاولات إفاقته حتى استعاد وعيه اليوم الخميس، ولكنه لم يخضع للاستجواب بعد لسوء حالته الصحية.

المصدر نفسه قال إن الشكوك تدور حول الراهبين فلتاؤس المقاري والراهب المشلوح وائل سعد "أشعياء المقاري"، رافضًا الكشف عن دوافع جهات التحقيق للشك فيهما.

أتت تصريحات المصدر الأمني بعد يوم واحد من عظة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، التي أطل فيها على الأقباط مساء أمس الأربعاء بوجه جامد وملامح محايدة في البداية، لم تلبث أن لانت في عظة حاول فيها تهيئة الأقباط لقبول أخبار قد لا تسرهم، تتصل بحياة الرهبنة في الكنيسة كما سنكشف في قراءتنا التالية. 

مساء أمس ألقى البابا عظته الأسبوعية الثانية منذ اكتشاف جثمان الأنبا إبيفانيوس، صباح الأحد 29 يوليو/ تموز الماضي. في عظته التي سبقتها، والتي جاءت بعد يوم واحد من دفن الأنبا إبيفانيوس، اكتفى البابا بنعي رئيس دير القديس مقاريوس الكبير بوادي النطرون (دير اﻷنبا مقار)، وواصل عظته التي ألقاها بعنوان "المسيح فخر الرسل.. مقدمة قانون الايمان"، دون أن يتعرض لتفاصيل جريمة قتل اﻷنبا إبيفانيوس؛ أما في عظة الأمس التي ألقاها من الكاتدرائية المرقسية في العباسية بعنوان "الحياة الرهبانية والحياة الديرية"، بدا البابا مهمومًا بإيصال رسائل بعينها لعموم الأقباط، تستهدف طمأنتهم إزاء ما يحدث في كنيستهم العريقة. 

استمرت العظة 63 دقيقة كاملة، بمعدل يزيد 23 دقيقة على متوسط عظاته الأسبوعية، التي لا تتخطى 40 دقيقة عادة.

الطمأنة واستدعاء نموذج "يهوذا"، ومحاربة الفكر المتشدد والتأكيد على غنى الحياة الرهبانية، وأهمية التوبة وتجاوز الخطايا، والتحذير من الانسياق وراء الشائعات؛ كانت أهم الرسائل التي حاول البابا تواضروس إرسالها من خلال عظته.

رسائل الطمأنة

 

الإعلان عن مقتل الأنبا إبيفانيوس ثم ما تردد عن محاولة انتحار الراهب فلتاؤس المقاري، وشائعات كثيرة يرددها البعض بيقين عن كون القاتل من داخل الكنيسة، وربما من داخل دير الأنبا مقار نفسه؛ كل هذا سرى بين جموع الأقباط في مصر والمهجر ليبعث تخوفات حول وجود انشقاقات عنيفة في الكنيسة المصرية البالغ عمرها ما يقرب من 2000 عام، لم تخل من السجالات الدينية التي وصلت حد القتل خلال تاريخ المسيحية المبكر. وهو تاريخ صار بعيدًا مع استقرار الكنيسة لأكثر من 1600 عام دون انشقاقات تذكر.

 

هذه المخاوف بدا أنها تشغل البابا، ليهتم بإرسال رسائل طمأنة خلال عظته مساء أمس. فبجانب ملامحه الهادئة وابتسامته الحانية بين الفينة والأخرى، كان البابا حازمًا حين يقول للأقباط "لا تهتزوا".

كرر البابا كلمته تلك في أكثر من موضع في العظة فتارة يقول " لا تهتزوا يااخوتي" ومرة أخرى يرددها" لا تهتزوا أبدا، فالله ضابط الكل".

كانت قرارات البابا والمجمع المقدس بإعادة تنظيم حياة الرهبنة، من بين ما أثار القلق لدى الأقباط حول وجود خلل في التنظيم على الوضع الذي كان عليه. ربما كان هذا ما دفع البابا لطمأنة الأقباط بخصوص حياة الرهبانية في الكنيسة ورسوخها كبيت للإيمان. دعم البابا رسائل طمأنته باستدعاء قصص من تاريخ الحياة الرهبانية وحسن سير الرهبان علي مر التاريخ. 

يحكي بابا الإسكندرية عن تاريخ الرهبنة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ويدعم حكيه بابتسامة حانية، يذكرهم أن أول راهب في العالم من بني سويف وهو أنطونيوس الكبير وهو أب جميع الرهبان.

 

الأب أنطونيوس الكبير مؤسس الرهبنة في البرية المقدسة بوادي النطرون 

استمر البابا في طمأنة الحضور وجموع الأقباط من خلال استدعاء تاريخ الكنيسة وتاريخ الرهبانية والاستطراد في الحكي عن تاريخ الأباء الرهبان، ونشأة حركة الرهبنة كملاذ لبقاء وصمود الإيمان القبطي المسيحي عقب عصر الاستشهاد. يجمع البابا تواضروس إرث الكنيسة من عراقة تاريخ الرهبنة ومميزاتها ليضعها بين يدي الأقباط ويؤكد "الحياة الرهبانية عامرة وستظل".

ويذكِّر البابا الأقباط؛ "لا تنسوا أن الأديرة في تاريخ مصر كانت تحفظ من المجاعات، نقرأ في تاريخ دير الأنبا شنودة رئيس المتوحدين أنه كان يفتح الدير للناس أيام المجاعات، والأنبا باسيليوس الكبير في القسطنطينية كان يفتح الدير من أجل اللاجئين". مذكرًا بأن مؤسس علم الوراثة هو الراهب النمساوي أغسطينوس مندل، "فالتاريخ الرهباني منير ومفرح ومصدر فخر أن هذه البذرة بدأت من مصر".

ثم وجه البابا رسالة أكثر مباشرة تتصل بما يتردد عن احتمال تورط رهبان في مقتل الأنبا إبيفانيوس أو ارتكاب خطية قتل النفس، وما يثيره هذا من مخاوف في نفوس الأقباط قائلاً "لا تنظر إلي ضعفات أشخاص. لو شخص أخطأ أو اثنين، أو حتى عشرة ليست هذه القضية؛ الكيان نفسه (الرهبنة) كيان نقي والنظام نفسه تم اختباره عبر القرون... ولا يوجد إنسان معصوم من الخطية (الخطأ)". مذكرًا الأقباط بأن هناك مئات الرهبان يعيشون في سلام وملتزمين بحياة ونذور الرهبنة، مظهرًا احترامه للرهبان في قوله "أحيانا أذهب للدير لأتعلم من كلمة يقولونها وأنال بركتهم".

يعود ليبث الثقة في نفوس الأقباط وهو يقول "اعرفوا قيمة الأديرة القبطية في حياتنا المصرية فهي واحات صلاة من أجل العالم وحارسة للحدود المصرية بصلواتها المستمرة".

 

راهبان في أحد الأديرة المصرية

استحضار يهوذا

تهدئة الذعر القبطي من وجود خلل في حياة الرهبنة نتاج ما يتردد عن تورط راهب في مقتل الأنبا إبيفانيوس، ظل مسيطرًا على العظة. استدعى البابا نموذج يهوذا الإسخريوطي تلميذ المسيح وحوارييه الذي خانه وأسلمه لأعدائه الرومان، ليقول للأقباط غير مرة إن وجود الذئب وسط الحملان أمر وارد، وأن بين تلاميذ المسيح نفسه من كان خائنًا، رغم أن المسيح اختار تلاميذه بعناية. 

يختار البابا قصة يهوذا الذي كان مقربًا من المسيح وكأنه يريد أن يسقط ما في هذه القصة على ماحدث في الدير، وكأنه يريد أن يقول إن الفاعل قد يكون من داخل الدير، ثم يقول لهم بعدها لا تهتزوا، في محاولة منه لتهيئتهم للأمر حال حدوثه.

يتبع البابا حديثه هذا بحقيقة أن هناك عبر التاريخ رهبان كثير سقطوا في الخطأ، مضيفا "القصص في التاريخ الرهباني كثيرة والحروب في التاريخ الرهباني أيضا كثيرة".

يحاول البطريرك هنا أن يخلق لهم صورة متوازنة عن الرهبنة والرهبان، وأن هناك من يخطئ وهناك غيره من يسير على خطى الآباء الاوائل، ربما في محاولة لتهيئة الأقباط لأخبار غير مريحة عند إغلاق ملف القضية والإعلان عن هوية القاتل.

ضد التطرف

هاجم البابا التيار المتشدد داخل الكنيسة والممثل في الحرس القديم، والذراع الظاهرة له الممثلة في جماعة "حماة الإيمان" قائلا "إيمان الكنيسة محمي بصاحب الكنيسة وهو المسيح، ولا أحد غيره يحمى الإيمان. فهو ليس سلعة تشتريها وتخزنها". كذلك تحدث البابا عن "أولئك الذين يرتكبون الإثم باسم الدين" وكرر آية من الانجيل تفيد ذلك 5 مرات.

بعد الحكي عن مميزات الحياة الرهبانية وعراقتها وقوتها ونقاوتها في النصف الأول من عظته، بدأ البابا تواضروس الثاني في إطلاق رسائله التحذيرية قائلا "أرجوكم يا أحباء الدنيا هايجة وأغلب الكلام مش صح وكل واحد بيقول حكاية".

وخصص البابا الثلث الأخير من العظة للحديث في قضية مقتل الأنبا إبيفانيوس قائلا "هي جريمة بها مجني عليه (نعرفه جميعا) وجاني حتى اليوم لا نعرفه". بدأ البابا تواضروس هنا في الدخول مع الأقباط إلي منطقة الاتساق مع الذات وتهيئتهم لقبول فكرة محاسبة الجاني "أيا كان"، فقال "الجريمة ليست بها خواطر. وليس من صالح أحد أن يتستر على أي خطأ". وبمزيد من التصالح مع النفس يؤكد "مرة أخرى هناك ضعفات حدثت والبعض تسيَّب وسنعمل على ضبط كل هذا".

يطرق البابا برأسه ويصمت لبرهة ثم يقول : " لهذا أرجوكم لاتهتزوا ولا تنسوا نظرية يهوذا في كل مجتمع". بعد ساعات من عظة البابا قال مصدر أمني لـ "المنصة" إن الإعلان عن "شخصيات المتورطين في قتل الأنبا إبيفانيوس" سيجري الكشف عنها خلال الساعات القادمة. ما يشير إلى وجود أكثر من متورط وأن جهات التحقيق توصلت إليهم بالفعل. وتشير قراءة سريعة في عظة البابا أنه ربما علم من أجهزة التحقيق أن الجناة على صلة بحياة الرهبنة، ما يجعله مدفوعًا لطمأنة الأقباط وتهيئتهم حتى لا يهتز إيمانهم وثقتهم في الرهبنة كمنهج إيماني.  

لم يفت البابا الحديث عن "قصة محاولة انتحار" الراهب فلتاؤس المقاري قائلا "حين نسمع عن واحد ذهب لينتحر فعدو الخير (الشيطان) يعمل داخله، وهكذا فعل يهوذا من قبل وباع سيده وخانه ولكن الضمير بداخل الانسان لايصمت". وحذر البابا الأقباط من اليأس مؤكدا أن الكنيسة المصرية واحدة من أقوى كنائس العالم والإكليروس(رجال الدين) بقلب واحد ويد واحدة وخدمة واحدة.


اقرأ أيضًا: شهادات المستشفى حيث يرقد فلتاؤس المقاري.. فصل جديد في دراما الأنبا مقار

اقرأ أيضًا: القصة وراء تجريد أشعياء المقاري.. كيف يشكل مقتل الأنبا إبيفانيوس بداية لتطهير الرهبنة

اقرأ أيضًا: أزمة الكنيسة المصرية.. مقتل الأنبا إبيفانيوس يفتح بابًا جديدًا للتسامح