اخدم نفسك: انسحبت الحكومة من الكنائس فتدخل عاطف وأصدقاؤه

منشور الاثنين 6 أغسطس 2018

يعيش عاطف غطّاس في قرية الكنائس بمحافظة البحيرة منذ أربع سنوات، استقر وتزوّج وأنجب توأمين يريد لهما مكانا يتمتع بالخدمات الأساسيّة من مياه نظيفة وصرف صحّي وإنارة ومواصلات، وهو ما لايوجد في الكنائس.

تأثرًا بوالدته التي لم تتأخر يومًا عن مساعدة غيرها بما تستطيع رغم ضيق الحال؛ يحاول عاطف مع أصدقائه العمل على جعل قريتهم العطشى للخدمات مكانًا أفضل، بالضغط على المسؤولين تارّة، وبالجهود الذاتيّة تارة أخرى. "أمي كانت ممكن تشوف حد تعبان تدي له كوباية عصير، حد تديله عشرة جنيه"، يستدرك سريعًا "أياميها كانت العشرة جنيه عشرة جنيه" يقول عاطف عن والدته.

 

عاطف غطّاس ومصطفى ابراهيم أمام الجزء المردوم من المصرف

في الصّحافة نستخدم أحيانًا لمساعدتنا على اقتناص القصص، ما نسمّيهم بالـ local fixers. هم أكثر خبرة بقراهم وحال أهلها ونحن في مكاتبنا التي عادة ما تكون في القاهرة. عاطف غطاس هو واحد من هؤلاء، يعمل سمسارًا بالأسكندرية في أشهر الصيف، ويقضي بقيّة أشهر العام باحثًا عن صحفي يضع قريته أمام عدسة الكاميرا كضغط إضافي على مجلس مدينة  كفر الدوّار، لإمداد قريتهم بالخدمات التي يحتاجونها.

الكنائس مثال على ماتعانيه قرى مصر من نقص في الخدمات، بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن القرى المصريّة الذي صدر عام 2016، فإن 74.3% من أصل 4 آلاف و655 قرية يعيش أهلها بلا صرف صحّي، و15% منهم يعانون انقطاع المياه يوميًا، و79.1% من القرى محرومة من الغاز الطبيعي وتعتمد على أنابيب البوتاجاز التي يزيد سعرها يومًا بعد يوم إثر تخلّي الحكومة عن دعم الطاقة، في وقت تزيد فيه نسبة من يقعون تحت خط الفقر بحسب المعلومات التي يصدرها الجهاز سنويا. كلها أرقام تجسد صورًا للمعاناة في قرية الكنائس التي يسكنها أكثر من 13 ألف نسمة بحسب آخر تعداد أظهر بيانات تفصيليّة عن سكّان القرى في العام 2006. تضاعَف هذا الرقم بعد مرور أكثر من 10 سنوات، لكن إحصاء 2017 لا يفصّل عدد سكان القرى كسابقه.

 

معلومات أساسية عن محافظة البحيرة

يقول عاطف إنه يذهب للمسؤولين بشكواه، لكنهم يردون عليه بالسلب دائما "كل أما أروح لمسؤول يقول لي أعمل إيه؟ هات لي حل. طيب أنا كمواطن أعمل إيه.. أنا مش مسؤول"، على أرض الواقع يبدو أن "غير المسؤولين" هم مَن يجدون الحلول، على الأقل هكذا تحدث الأمور في الكنائس.

 

سائق عربة كارو يملئ جراكن مياه من أحد مصادر المياه المتوفّرة

مجموعة ضغط

أراد غطّاس إحياء ذكرى والدته بعد استقراره في القرية بتحسين المكان الذي عاشت فيه، بدأ بمساعدات وأعمال خيرية لمساعدة الفقراء "يعني لو في حاجة تتكلف 4 أو 5 آلاف جنيه، ممكن نلم من الناس ألفين جنيه، وألمّ مع أصحابي ألفين تانيين".

تتنوّع مآلات هذه الأموال بين مساعدة لتجهيز عروسة أو مساعدة شخص على إقامة مشروع صغير بهدف الإعاشة، تطور الأمر ليصبح شبكة من الأشخاص تعمل على الضغط من أجل توصيل الخدمات الأساسية لقريتهم.

لا يجعل غطّاس مشاكله الشخصيّة عائقًا أو سببًا يمنعه من الضّغط من أجل حل مشاكل قريته. الأب لتوأمين الذي يسكن مع والده في بيت يطل على مصرف زراعيّ، ولا يملك عملاً ثابتًا يمّكنه، على حد قوله، من توفير حياة كريمة لهما، يجوب القرية محمّلاً بتساؤلات أهالي القرية عن المياه التي انقطعت ولم تعد منذ 6 أشهر، ومشكلة القمامة، وموعد الانتهاء من ردم المصرف الزراعي كاملاً. أربع ساعات من التجوال.. يعرفه الجميع، ويسأله الجميع عن موعد حل مشكلات طال أمدها.

 

أطفال يجرّون عربة كارّو بجراكن مياه

مياه معدنية vs فشل كلوي

تعاني الكنائس من مشكلة انقطاع مياه الشرب. تنتشر عربات الكارو والتروسيكلات على مدّ البصر محمّلة بـ"جراكن" وزجاجات بلاستيكيّة كبيرة بحثًا عن الماء. يقول الأهالي أنهم يؤجرون هذه العربات بأسعار تصل إلى 50 جنيهًا للنقلة الواحدة، مقابل أن يجوب السائق القرية والقرى المحيطة حتى يجد مصدرًا للمياه ثم يعيد بيعها للأهالي، وهي مياه غير صالحة للشرب في أغلب الأحيان، كما يؤكدّون.

يضطر الأهالي إلى شراء مياه معدنيّة لحمية أبنائهم من شرب مياه مختلطة بالمجاري، كما يفعل عاطف الذي يكلّفه الأمر نحو 100 جنيه في اليوم "بجيب لهم ميّه عشان أعمل أكلهم وحاجاتهم، وأنا مش مهم أشرب من الترعة".

 

رجل يقف بجانب مخرونه من المياه، والتي تكفيه ليوم واحد فقط

على الرّغم من كل الصعوبات، استطاع غطّاس وأصدقاؤه مثل مصطفى إبراهيم، صاحب كابينة هاتف في القرية، الضغط على عضو مجلش الشعب عن المركز والحصول على اعتماد قيمته 600 ألف جنيه لردم المصرف الزراعي. 

يقول عاطف "كان المفروض نردم بيهم المصرف كله بس في كذا جهة حكوميّة حطّوا كذا معيار للردم والمواسير اللي المفروض تتحط، الفلوس ماكّفتش غير 40 متر بس"، تقع كابينة إبراهيم في المساحة المردومة تقع بين مدرسة الكنائس الإعداديّة والمستوصف الحكومي الوحيد الموجود بالقرية، وهو مازال يعمل على حل هذه المشكلة نهائيًا.

يقول إبراهيم "رحت لرئيس مجلس المدينة عشان ولادنا وهم بيطلعوا من المدرسة بيتعرّضوا للمصرف والزبالة"، من الصعب تبيّن المياه فيما تبقى من المصرف الزراعي، فهو مطمور بأكوام من القمامة.

 

يقول إبراهيم "إحنا أشخاص عاديين بنحاول نوصل صوتنا للمسؤولين عشان يحلوا المشكلة. إحنا 100 ألف يا جماعة"، يضيف "آه إحنا بننظّم نفسنا، ما احنا هنعمل إيه، بنعاني من مشكلة ومش عارفين نحلّها، فبنسعى. دي مش مشكلة يوم ولا وليدة الصدفة، أباهاتنا كانوا بيشتكوا من نفس المشاكل دي".

إضافة إلى ردم جزء من المصرف، استطاعت هذه المجموعة من الشباب، ومنهم غطّاس وابراهيم، الضغط لرصف طريقين في القرية، وشراء أرض لإدراجها ضمن مشاريع الصرف الصحّي في مصر، ليبنى عليها محطة رفع صرف صحّي، وإقامة مشاريع خدميّة بجهود ذاتيّة، بالتعاون مع جمعية علي بن أبي طالب، كمركز بريد ومستوصف خيري وحضانة أطفال.

يحكي أحمد عبد السّلام، مدير إداري الجمعيّة، أنهم يعملون حاليًا على مركز لحضانات الأطفال ومركز للغسيل الكلوي "في حد اتبرّع بثلاث ماكينات غسيل كلوي للمركز، بس إحنا واقفين على صب السّقف فمحدش هايتبرع بالماكينات غير ما تشطّبي على الأقل".

 

يافطة محطة الصرف التي سيتم بناؤها، تصوير: هاجر هشام

لا أحد يسلم

مركز الغسيل الكلوي من المنشآت الخدميّة الأساسية التي يقول الأهالي أنهم يحتاجونها بشدّة نظرًا لتلوث المياه غير الصالحة للشرب، والتي تسبب لهم أمراضًا تبدأ بالحصوات وتنتهي عند الفشل الكلوي، كما يقول علي السيّد، طبيب صيدلي ومالك أحد صيدليات القرية، وواحد من العاملين على دعم الأهالي في القرية "بتعدّي عليّ حالات مرضيّة كثير كلها بسبب الميّه"، علي نفسه يعاني من انقطاع المياه لأشهر في منزله وصيدليته "لما بنرخص صيدليّة بيشترطوا لها عداد مياه خاص، إزاي صيدليّة ومافيهاش ميّه".

 

التراب على علب الدواء في صيدليّة الدكتور علي، تصوير: هاجر هشام

أرفف صيدليّة تغطيها الأتربة، وهو ما يقول إنه مصدر أساسي للجراثيم والتي لا يحمي منها سوى النظافة التي تصير صعبة مع عدم توفّر  المياه لأشهر "هنمسح إزاي وهنطهّر إزاي، طيب المريض اللي جاي وعايز يشرب؛ ده يشرب إزاي؟"، السيّد نفسه لم يستطع حماية نفسه وعائلته من التوث المحيط به "أنا شخص عندي الوعي الكافي بأسباب الوقاية لكن فيه حد في عائلتي جاله فشل كلوي بسبب الميّة، ومحتاجين نزرع له كلى".

حاليًا، يشكّل انقطاع المياه في الكنائس الأزمة الأساسية التي يحاول غطّاس وأصدقاؤه من الشباب حلّها، عبر الضغط والشكاوى لمسؤولين بداية من رئيس المجلس المحلّي وحتى مجلس الوزراء. يطول أمد المشكلة ما يصيب غطّاس بالإحباط، لكنه يقول إن رؤيته معاناة الناس؛ هو ما يدفعه للاستمرار "لما تشوفي ست كبيرة شايلة جركن ميّه مسافة طويلة عشان تشرب؛ بتصعب عليكي وبتخللي الواحد يستحمل ويكمّل في مشوار مساعدة الناس".