جييجي إبراهيم- فليكر برخصة المشاع الإبداعي
جرافيتي لثورة يناير

من مينا دانيال إلي أبو الغيط.. جيل يناير يصنع أيقوناته

منشور الثلاثاء 20 ديسمبر 2022

قبل أسابيع قليلة، وأثناء حوار مع الصديق الكاتب ياسر عبد اللطيف عن الهزائم، قال إننا لم نُهزم كجيل، فلم يُتَح لنا أساسًا الدخول في معارك كبرى مفتوحة على الهزيمة أو النصر. وفي إشارة إلى ما أسميه في هذا المقال بجيل يناير، قال ياسر إن هؤلاء نعم، هُزموا، وهزيمتهم أكبر من هزيمة 1967.

ننتمي أنا وياسر إلى الجيل نفسه، هذا الذي بدأ يُشكل وعيه السياسي والثقافي والفني أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، وإن كان ياسر سبقني بعامين أو ثلاثة. والمقصود هنا تحديدًا بالجيل أولئك الشباب والشابات في مطلع العشرينيات، المشتبكين مع النضال السياسي، أو العمل العام، أو الفن والأدب والثقافة.

***

تفرض الظروف التاريخية على كل جيل مهامه، وتمنح لكل جيل سماته في علاقتها بتلك المهام نفسها، وبمدى إخفاقه أو قدرته على إنجازها. الإحالة لهزيمة 1967 تستدعي بالضرورة جيل السبعينيات في الحركة الطلابية والشبابية المصرية بتنويعاتها المختلفة. فنحن لا نتحدث عن ذلك الجيل أبدًا دون أن نتحدث عن عبد الناصر وموته وذلك المشروع التنموي القومي الاستقلالي الذي انهار في ستة أيام. ولا نتحدث عن الهزيمة العسكرية والسياسية وانهيار الحلم دون استدعاء ما أنتجته من جيل جديد كان الصرخة الأبرز في مواجهتها.

دون أن نضع جيل يناير 2011 في مواجهة جيل السبعينيات، الذي كانت مظاهرات الاحتجاج على أحكام ضباط الطيران 1968 أول بوادر ظهوره، ربما يكون من المُجدي أن نتساءل عن مهام الجيلين والأجيال التي أتت بينهما.

بكثير من التجريد سنجد أن جيل السبعينيات كانت مهمته الأساسية، التي وضعتها أمامه اللحظة التاريخية، هي إيقاف الانحدار الشامل، ومنع مصر من الانزلاق تمامًا في المشروع الليبرالي بالمعني الاقتصادي، والأمريكي/الإسرائيلي بالمعني السياسي. ومع هزيمة انتفاضة الخبز 18 و19 يناير 1977، واتفاقية السلام مع إسرائيل، تتجلي هزيمة الجيل، أو إخفاقه في إنجاز مهمته، بالرغم من تأسيسه لأكبر حركة احتجاجية منذ الأربعينيات، دون الدخول في مصائر أفراده المتنوعة والمختلفة.

جيل يناير 2011، كان الجيل الذي منحته اللحظة التاريخية الاستثنائية المهمة الأكبر والأكثر خطورة، ربما منذ جيل الشباب من ثورة 1919

أُلقيتْ مهام أصغر علي كل جيل جديد من الأجيال التالية، أصغر من تلك المهمة الكبري لجيل السبعينيات. فجيلا الثمانينيات والتسعينيات تشابهت مهمتهما لدرجة كبيرة؛ مجرد الاستمرار في الوجود، أو البقاء، ولو عبر إشارات رمزية، كمظاهرة تضم عشرات، أو كتاب أو ديوان شعر أو مجلة ثقافية يقرؤها القليلون. حتى جيل الثمانينيات في السينما، المسمي في تقديري خطأ بتيار الواقعية الجديدة، الذي تشكل وعيه في أواخر الستينيات وأول السبعينيات، كان دوره مع دخول رواده مجال السينما الروائية الطويلة، هو تلك الاستمرارية نفسها، أن يقدموا أفلامًا خارجة عن نغمة الابتذال الساداتي/ المباركي في الثقافة والفن والسينما، وأن تكون أفلامهم إعلانًا عن أن السينما المصرية لها همومها الجادة، وليست مجرد وسيط للتسلية والتغييب.

أعتقد أن جيل مطلع الألفية الجديدة، هذا الجيل الذي مهد لثورة يناير، لم تُلقَ عليه مهام كبرى، ربما كانت مهمته المختلفة عن الجيلين الذين سبقوه، هي تمهيد أرض الاحتجاج، وكسر تابو الخروج إلى الشارع، وأن يكون هناك عشرات أو مئات قليلة قادرين على إعلان رفض النظام والتوريث والدولة الأمنية، وافتتاح مرحلة الاستفادة من تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في الاحتجاج والتعبير عن الرأي.

لكن جيل يناير 2011، كان الجيل الذي منحته اللحظة التاريخية الاستثنائية المهمة الأكبر والأكثر خطورة، ربما منذ جيل الشباب من ثورة 1919، مهمة التغيير الكامل لمجتمع ونظام وأنماط حياتية، وصولًا للمشاركة في محاولة تغيير شكل منطقتنا. ولأن المهمة كانت على ذلك المستوى من الحجم والخطورة كانت هزيمته أكبر من هزيمة 1967، علي حسب استعارة ياسر عبد اللطيف.

***

تصنع كل الأجيال أيقوناتها، أيا كانت درجة نقدنا أو رفضنا لفكرة الأيقونة، أو تحفظنا عليها لكل ما تحمله من تقديس وتطهر ومبالغة واختزالات. فالأيقونات جزء من عملية بناء السرديات والثقافة والوعي المشترك لكل جيل، وبناء الحشد المعنوي لمعاركه، وأن تكون هناك رموز يتشبث بها كأنها إشارات ضوئية، موجودة هناك كدليل في نقطة ما على طريق طويل مقفر ومظلم، لا نرى أحيانًا ملامح الطريق، بل بقعة الضوء الصغيرة، فتساعدنا على تحديد الاتجاه.

صنع جيل السبعينيات أيقوناته من عناصر أساسية؛ درجة الثبات الانفعالي والوجداني في مواجهة السادات، ودرجة الصلابة السياسية وعدد مرات الاعتقال خلال حقبة السبعينيات، والدور القيادي في تأسيس الجمعيات واللجان والمنظمات. وربما يكون من ضمن تلك العناصر أغاني الثنائي الأيقونة الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم، وأسماء الطلبة التي ترددت فيها.

فنجد أسماء "أيقونية" لهذا الجيل، لا تخرج عن ذلك السياق من الصلابة والوضوح، والاعتقال المتكرر في القلعة أو في سجون أخرى، والدور القيادي؛ أحمد عبد الله رزة، بهاء شعبان، سهام صبري، الكردي، زين.. وغيرهم. دون إغفال عملية تجميد اللحظة المشهدية المبهرة لأولئك الطلاب المحتلين لميدان التحرير في يناير 1972، المُفسِّرة بدورها لاستعارات ذلك الجيل الأدبية نفسها. فعلى سبيل المثال، ليست صدفة أن تكون قصيدة الكعكة الحجرية، هي أكثر القصائد انتشارًا لأمل دنقل بين عناصره، وتليها لاحقًا قصيدة لا تصالح. وكأنهما تعبران عن المراوحة بين لحظتي الأمل والهزيمة؛ احتلال الميدان/ الكعكة الحجرية وصرخة "اصحي يا مصر" فجرًا، والثانية الصلح مع إسرائيل.

جيلنا من التسعينيين ومن سبقونا من الثمانيين ليس لديه أيقونات، لأننا أصلًا لم نخض تلك المعارك الكبرى. ولم يملك جيل بداية الألفين بدوره أيقونات، لم يمهله الزمن كي يصنعها، وصل سريعًا جيل الينايريين، فأمده الجيل السابق عليه مباشرة ببعض الرموز، ربما يكون من أبرزها علاء عبد الفتاح، أو أحمد دومة، أو محمد عادل، أو زياد العليمي، وغيرهم.

فرضت المعارك الكبرى والتاريخية، التي لم يشهدها مجتمعنا خلال تسعين سنة سابقة، ومنذ اللحظة الأولى وحتى الآن، على جيل يناير أن يقدم رموزه وأيقوناته. فاستدعى الأسماء السابق الإشارة إليها وغيرها، وحولها لأيقونات قياسًا على درجة المعاناة والألم. وكان اعترافه بنا، نحن من سبقوه، واعترافه بانتمائنا إليه ولمشروعه، ولو من موقع نقدي، مشروطًا بأن نكون صادقين في محاولة فهمه والتعاطي معه مثلما هو، بملامحه الحقيقية، وليس بناء على خيالاتنا أو رغباتنا.

جيل مينا دانيال ومحمد أبو الغيط تحولت الثورة لمجمل حياته

***

المدخل الذي ييسر لنا فهم الاحتفاء البالغ بالراحل حديثًا، الكاتب والصحفي محمد أبو الغيط، لا نجده فقط في كتاباته أو محطاته خلال السنوات العشر الماضية. بل نجده أيضًا في لحظة يناير 2011 نفسها، وفي مصائر من انتموا إليها وهم في مطلع عقدهم الثالث من الحياة، وفي حجم الألم.

لابد أننا تشاركنا، نحن المنتمين لأجيال أقدم من جيل يناير، في ذلك الشعور "بالحقد اللطيف" تجاههم خلال الثمانية عشر يومًا الأولى من الثورة، تمنينا لو كنا عشنا تلك اللحظة في سن أصغر، دون أن نكون مقيدين بقيود الجسد الذي قلت طاقته، وقيود الظروف الأسرية كآباء وأمهات، وقيود التاريخ الشخصي والسياسي والثقافي السابق، وكل ما هو اجتماعي ومهني، أن نكون متحررين من ثقل الحقيبة التي تنبهنا في كل لحظة لحقيقة أننا عشنا كثيرًا قبل يناير. حقدنا عليهم لأن الثورة اندلعت بينما هم في بدايات العشرينيات من العمر، ولهم من الطاقة والحرية ما يجعلهم يعيشونها بخفة مطلقة، وأن يعيشونها كاملة، وأن تتغير مصائرهم تمامًا داخل ثورة يناير وعبرها.

غامر بعضنا بالارتباط بالثورة بدرجات متفاوتة، وخرجنا مجروحين بخسائر وهزائم. لكن أغلبنا امتلك ميزة أن تكويننا النفسي والثقافي والوجداني كان تشكل بدرجة كبيرة قبلها، وهو ما منحنا ولو حاجزًا رقيقًا يحمي أرواحنا نسبيًا من الانكسار. كبرت الخسائر أو صغرت، في النهاية امتلك أغلبنا ممرًا صغيرًا للعودة لبعض من حياته السابقة على يناير.

لكن جيل مينا دانيال ومحمد أبو الغيط لم يمتلك هذه الميزة، تحولت الثورة لمجمل حياته. وبتعدد المواقع وأنواع الاشتباك، ودرجاته، كان على كل منهم أن يبني حياته كاملة بناء على مفردة أساسية: الثورة. أو أن الثورة تتسبب في إنهاء حياته.

كنا جميعًا نعلم، نحن وهم، أن درجة وعيهم وثقافتهم وامتلاكهم لأدوات الصراع السياسي محدودة. لكنه لم يكن كذلك إخفاقهم بمفردهم، كان الوعي المحدود نتيجة لتجريف مبارك للحياة الثقافية والسياسية والتعليمية، وإخفاق الأجيال الأقدم في التواصل معهم. لكننا كنا واعون بدرجة إبداعهم وشجاعتهم الفارقة، وتطويرهم لوعيهم عبر التجربة، وعبر الألم. وهو ما يفسر بدوره كيف اختاروا أيقوناتهم، فمينا امتاز بالشجاعة والإقدام، ليس فقط في مواجهة الشرطة والعسكريين، بل أيضًا في كسر الحاجز الطائفي المسيحي. ويبدو أن سالي زهران رفضت السلطة الذكورية التي تفرض عليها البقاء في البيت.

أما علاء عبد الفتاح ومحمد عادل ودومة وغيرهم، ورغم أنهم كانوا أكبر سنًا، لكن جيل يناير استدعاهم لصفوفه كي ينتموا إليه تمامًا، وطلب منهم الصلابة وعدم التراجع عن الرأي أو القول، ورفع الرأس في مواجهة الحاكم وأجهزته. وكان على محمد أبو الغيط وغيره أن يقدموا لجيلهم تعويضًا وتجاوزًا عن نقطة ضعفه الأكبر؛ الثقافة والوعي والأفكار وكيف يتم تطويرها، وأن يصيغوا سردياته ومروياته.

الألم هو العنوان، وهو العامل المشترك بين الجميع. فلا يمكنك أن تكون ناجحًا وسعيدًا ومتحققًا، وفي الوقت نفسه أيقونة لجيل تحدد مساره بالدم. ولا يمكن فهم جيل يناير سوي باسترجاع بعضًا مما عاشوه، ربما يساعدنا في تخيل بعض ملامح تكويناتهم النفسية والوجدانية التي تشكلت خلال عشرة أعوام؛ ثورة كبرى وهزيمة كبرى، وبينهما، وبعد الهزيمة، اعتقالات لسنين طويلة، ومنافي، ومذابح، واختفاءات قسرية، وخيانات، وانتحارات، وحالات من التعب النفسي الشديد، ورموز سياسية تتصدر مشهدًا وتقود أحزابًا وحركات وهي عاجزة عن فهم المشهد أو التعامل معه، وربما أبسط الأشياء في سياق الكارثة، أن تكتشف أن زميلك أو صديقك في الميدان وفي الفاعليات المختلفة، يعمل لصالح أحد الأجهزة، أو أنه غيَّر موقعه كي يهلل لمن يدمر حياتك. وأخيرًا، وكخاتمة، وضع بائس علي كل المستويات لم تعش مصر مثله منذ عقود طويلة، وضع يحرمهم من أي أمل في أي مستقبل أيًا كانت ملامحه.

مواهب تلمع كضوء على طريق طويل، أصحابها مهزومون، لكنهم واعون بأنهم موهوبين، يطورون إمكانياتهم ومواهبهم على قدر استطاعتهم، يعلمون أن مهمتهم من ضمن الجيل هي تخليد رحلته، لكن الألم والموت يحصدهم في النهاية. يحاولون فهم ما عاشوه وما يعيشونه، ويتسابقون مع الموت، يكتبون عن الموت، لكنهم خلال السباق، حتى ولو كانوا مهزومين سلفًا، يتركون علامات لجيل جديد قادم، لا نعلم توقيت وصوله.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.