صفحة ويجز الرسمية - فيسبوك

ولا شيء مضمون

منشور الجمعة 21 أكتوبر 2022

 تقام في لندن بعد بضعة أيام حفلة لمغني التراب الشاب ويجز على أحد المسارح الكبيرة، ما أن تم الإعلان عنها حتى نفدت تذاكرها فورًا، حتى أن كثيرين وأنا منهم اضطررنا للبحث عن تذاكر في السوق السوداء.

أثبت ويجز، الذي تخطت شهرته المحلية في مصر، أنه أصبح رقمًا صعبًا في كل الحفلات التي أقامها خارجها. آلاف الشباب يحفظون أغانيه، ويرددونها معه، تلك الأغاني التي كانت عصية الفهم على معظمنا، بتركيباتها اللغوية والمعاني التي تحملها، إلى أن فككناها وعرفنا مقصد الشاب وما يريد قوله. 

كُتب الكثير عن ظاهرة ويجز، إذا جازت تسميتها بالظاهرة. الشاب السكندري الذي طوَّع لغة أقرانه في الشارع، وحولها إلى سردية تعبر عن ذلك التوجه الشبابي الجديد، لكن معظمنا من أبناء جيلي لا نعرف عنه الكثير.

وكالعادة التي درجت في أوساط من يعتبرون أنفسهم "النخب الثقافية"، أصبح الشاب وما يقوله محلَّ سخرية وتهكم، وأنه وغيره من المغنيين الشباب ليسوا أكثر من تعبير عن تردٍّ ما وصلت إليه أحوال الفنون والثقافة بشكل عام في منطقتنا. 

سيناريو ليس بالجديد؛ يتكرر مع ظهور أي لون فني مبتكر، من أيام حميد الشاعري والمغنيين الشباب، الذين تحولت أغانيهم اليوم إلى كنز معرفي يعبِّر عن أحلام الشباب وقت ظهورها، ورُدَّ الاعتبار لمكانتها والتأثير الذي تركته على جيل واسع من الشباب ولو بعد حين.

قلةٌ الذين يرحبون بالتجارب الجديدة ويشجعونها، ويدركون أن التغيير مهما كانت أشكاله لا يمكن منعه والوقوف أمام تقدمه لوقت طويل. والحال على ما هو عليه مع الشباب الذين يملؤون الساحة الفنية في الأوان الأخير من مغني التراب أو مغني المهرجانات الذين يتعرضون لحملات ممنهجة من الجهات الرسمية كنقابة الموسيقيين.

يحاول كل من أراد إثبات نفسه في منصبه إعلان الحرب عليهم، غافلًا عن أن المنع لن يوقف انتشار ما يقدمونه، بل على العكس يساهم في إثارة حماسة الجمهور لهم، على الأقل كأداة تمرد على كل ما تمثله المؤسسة الرسمية من نموذج لأدوات التحكم والسيطرة على كل ما تطاله يدها. 


قبل عشر سنوات تقريبًا، قدمت المخرجة الفرنسية التونسية هند مضب فيلم بعنوان إلكترو شعبي، ويحكي عن أغاني المهرجانات في بداية ظهورها مع أوكا وأورتيجا ومهرجان عم الحاج. لفت انتباه المخرجة ظاهرة موسيقى الشارع، الطالعة من الحواري الجوانية وأزقة مصر التي لا تلتفت إليها شاشات التليفزيون إلا حين يتعرض فقرائها لمآسي لا يمكن تجاهلها.

أما ما قد تبدعه وتنتجه الحواري من ثقافة تشبهها وتعبر عنها، فتواجَه بالنقد والذم والرفض، وتنبري الأقلام وجهابذة الإعلام في التحذير من خطورتها على "الذائقة العامة"، هذا التعبير المطاط المنفلت من أي تعريفات موضوعية تحدد ملامحه.

استشرفت المخرجة أنَّ هذا اللون الغنائي سيتطور ويحتل مكانة في الفضاء العام، وسيصبح انتشاره حتميًا بين الأوساط كافة، متخطيًا البيئة الشعبية التي ظهر فيها. وقارنت بينه وبين الراب الأمريكي، الذي ظهر في أوساط المغنينن الأفارقة الأمريكيين، أواخر القرن الماضي، ليصبح اليوم واحدًا من أكثر أشكال الفنون انتشارًا بين الشباب في العالم، وبكل اللغات.

بالعودة إلى ويجز، فلقد سعيت إلى فهم ما يقوله من خلال قراءة كلمات أغانيه؛ أولًا لأني أحببت الموسيقى وإيقاعها حتى قبل أن أفهم الكلمات، ولأني عاهدت نفسي منذ زمن طويل ألّا أتأثر بحملات الرفض والإدانة والتشويه، وأن أمنح نفسي فرصة الحكم على أغانيه من خلال فهمي الخاص لها، خوفًا من أن تتحول أفكاري إلى ديناصور في متحف للأنيتكات.

وجدت أغانيه تعبر عن غضب حقيقي لجيل حمل ألم الهزيمة وانكسار طموح التغيير باكرًا. غضب شبابي لكنه يشبهني، ويشبه ما أشعر به من رغبة في تحطيم كل الأصنام الفكرية المعدة سلفًا التي تُفرض علينا جميعًا بمختلف أعمارنا. كما أنه يعبر عن مفاهيم جديدة تبيِّن الفرق الواسع بين الأجيال. 


"كبرت على ولا شيء مضمون" جملة يقولها ويجز في أغنية البخت. استمعت إليها مرارًا دون أن تستوفقني بشكل خاص، إلى أن تنبهت، في لحظة ممارسة دور أحبه وهو تقريع الذات ولومها واتهامها بالفشل والتقصير، إلى أنَّ الفرق يكمن في تلك العبارة، بغض النظر عن كيفية توظفيها في الأغنية لتخدم موضوعها.

هي ليست مجرد تعبير بلاغي، بل دلالة على فجوة كبيرة بين الأجيال؛ جيل لُقَّن أنْ لا شيء مستحيل، وأنَّ الإنسان قادر على اجتراح المعجزات وتغيير مجرى الحياة بقراراته وإصراره وتصميمه كي يصبح ما يشاء، وجيل آخر أدرك أنْ لا ضمانات في هذه الحياة، وأنَّ كل جهد تبذله وأي مسعىً جاد تقوم به لن يقودك بالضرورة إلى ما كنت تطمح إليه. 

لا أريد أن أنفي عن المثابرة والإصرار منافعهما لمن آمن بهما، ولكنَّ المشكلة تكمن في ذلك اليقين الذي يتولد لدينا نتيجة المفاهيم التي تجعلنا نرى أنفسنا كشخصيات الأبطال الخارقين في أفلام مارڤل. كيف لا ونحن نمتلك قراراتنا؟ 

تلك النظرة إلى الحياة لا تمت إلى الواقعية بصلة. وأذكر مقالًا قرأته مرة عن العنصر الثالث في الحياة، أنك تستطيع ضمان أفعالك ونتائجها وما يترتب عليها، لكنك لن تتمكن من السيطرة على "العنصر الثالث".

ويشرح المقال الفكرة بأنك حين تنوي الذهاب في رحلة طويلة بسيارتك، ستتأكد من أنك ملأت خزان الوقود بما يكفي لها، واتخذت كل الإجراءات التي تضمن وصولك سالمًا إلى وجهتك؛ أكلت وشربت ونمت بما يكفي كي تتابع القيادة. لكن لا حيلة لك إذا ما سقطت سيارة من فوق الجسر على الطريق السريع وحطت على سيارتك، فأنت تفعل ما عليك، ومع ذلك لا شيء مضمون أمام ما هو خارج عن سيطرتنا. وهذا ما أدركه الشباب، ويجز وجمهوره. 

"الكفر بالضمانات والمضمون" هو بداية التعافي من وهم الاستحقاق، ومن حبال تنظيرات التنمية البشرية، وكتب تطوير الذات التي تلتف حول أعناقنا وتحكم الخناق. أردد ساخرة عبارة استمرارية السعي لا تعني حتمية الوصول.

وعلى العكس، تقبلنا لتلك الحقيقة قد يعفينا من لوم أنفسنا ويحررنا من سجن الخوف من الفشل، ذلك الخوف الذي يمنعنا في مرات كثيرة حتى من الأقدام على أي فعل كان. وللمفارقة، لا يقودنا خوفنا من الفشل إلا إلى المزيد منه، بالإضافة إلى الخيبة.

يلخص هذا التعبير البسيط مفهومًا مركبًا في معانيه ودلالاته، فيه اعتراف بالمستحيل، وأنك لست قادرًا بالضرورة على هزيمته، وأنك لا بأس أن تسعى إلى تحقيقه، ولكن لا تنسى أن تحذَر من سقف توقعاتك كي لا تجد نفسك تحت سابع أرض.

هذه ليست دعوة للتسليم بالقدرية وترك أمور حياتنا في مهب الريح تأخذها كيفما راحت. لكنها دعوة للتفكُّر في كيفية إدارتنا لتوقعاتنا وأحلامنا.

المهم، أخيرًا سأحضر حفلة للشاب ويجز. ربما سأكون الأكبر سنًا بين جمهوره الفتيِّ، لكني مدينة له بتعلم أمرًا جديدًا، وأكتسبت نظرة مغايرة في الحكم على الحياة وأحداثها، وقدرة التمرد على المفاهيم السائدة.

وأنه أنقذني من التحول إلى ديناصورة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.