عوض محمد - تصوير: هاجر هشام

عوض محمد: وداعًا يا "شقا العمر"

منشور الأحد 29 مايو 2016

 

 

خمسة وثلاثين عامًا كدّ فيها عوض محمد، قبل خروجه للمعاش في سن الستين، خلف عجلة القيادة لنقل انتاج شركة حلوان للحديد والصلب. ابتنى خلالها بيتًا، كان حلمه أن يجمعه بأبنائه بعد زواجهم، ويرتاح فيه بعد الوصول لسن المعاش.

لكن توقفه عن العمل كان له تبعات أخرى، حين أجبره أبناؤه على ترك البيت بعد معركة بينه وبين زوجته، والدتهم، انتهت بطرد الأبناء لأبيهم خارج البيت.

يحكي عوض: "أربعة طوابق بنيتها بكل جنيه كسبته من العمل سائقًا في مصنع الحديد والصلب لوقت طويل. كنت أحلم أن أعيش فيه مستورًا، لكني الآن بعيد عمّا بنيت".

انتقل عوض حاملاً المرض الوافد لجسده، سرطان الكبد، ليعيش وحيدًا في شقة بمنطقة 15 مايو، يتنقل بين مستشفيات التأمين الصحي طالبًا علاجًا لكبده يعينه على انتظار اليوم الذي يعود فيه إلى بيته، واضطر للعودة للعمل سائقًا بتعاقد جديد مع الشركة التي أحيل فيها على المعاش، حتى يكسب ما يعينه على دفع تكاليف شقته الجديدة. يقول عوض: "قالوا لي إنهم يريدون خبرتي، أنا لا اتأخر على مكاني ومصنعي أبدًا، لهذا عدت للعمل في مصنع الحديد".

منذ العام 2009، بدأت شركة حلوان للحديد والصلب، تعاني خسائر فادحة ومتوالية وصلت إلى ضعفي ميزانيتها، لأسباب متعددة أهمها قدم المعدات وقلة الصيانة، عوض كان شاهدًا على هذه القصة.

يقول عوض: "كنت موجودًا في وقت كانت هذه الشركة تورد أرباحًا لخزينة البلد كقناة السويس، كانت كنز. ورأيتها الآن وهي تعطي الأرباح لعمّالها من منحة الحكومة". يضيف عوض: "أنا بنيت منها منزلي البعيد عنّي ومازلت أعيش من خيرها، إذ أتقاضى منها معاشي".

جاء عوض من المنصورة في سبعينات القرن الماضي والتحق بالعمل بالشركة سائقًا: "كنت ومازلت فخورًا أنني جزء من هذا المكان، هناك عملت وصنعت، ومنه بنيت بيتي في المشروع الأمريكي، طابقين، من مرتبي والأرباح التي كنت أجنيها من المكان".

بعد عدة سنوات ابتاع عوض قطعة أرض فريبة من محطة مترو حلوان بعدما باع بيته القديم وبنى منزلاً من أربع طوابق، طابقًا فطابق، من حصيلة عمله في المصنع .

استغرق الأمر سنوات طويلة حتى استوى البيت مكتملاً، وكان الطابق الأخير الذي أكمل البناء من حصيلة مكافأة نهاية الخدمة التي حصل عليها عوض من الشركة. لكن أشهر قليلة كانت تفصله عن مغادرة البناء الذي ادخر فيه حصيلة عمل أربعة عقود تقريبًا.

لم يعد عوض إلى المنصورة منذ تركها، أصبحت حلوان محل عمله ومكان منزله: "لكنهم طردوني منه، لم أعد قادرًا على دخول بيتي".

 كما انقطعت علاقة عوض بالبيت إلا من حلم العودة إليه يومًا، غادر مكانه في شركة حلوان للحديد والصلب، بعد أكثر من 4 عقود من العمل به. يقول: "أرى ما يعانيه العمّال والسائقين الصغار من ضوائق مالية، وخروج كثيرين على المعاش المبكر من السائقين الصغار، شعرت كأني أصبحت عبئًا على المكان فقررت الرحيل".

تفاصيل عمله في المصنع مازالت حاضرة في ذهنه كتفاصيل منزله المحروم منه، يحكي العامل عن تفاصيل العمل وزملائه، الورديات المتتابعة التي كان يعمل بها حتى يستطيع توفير الأموال اللازمة لبناء البيت :"طننت أني أتمتت مهمّتي عندما انتهى البناء، لكن ماحدث غيّر كل شيء".

يقلب الرجل بين صفحات أوراق ملفه الطبي قائلاً: "أخبرتهم ] أبنائي[ عن مرضي لكنهم لا يزورونني، ولا يسمحون لي بالعودة إلى منزلي، حتى الولد، الذي تمنيته من الدنيا فضّل والدته عليّ". يأخذ الرجل دقيقة صمت ليعود بعدها ويقول: "كل ما أريده هو غرفة صغيرة في منزلي أموت فيها، هذا المكان هو الإرث الوحيد الذي تركته في الحياة، أريد أن أضمن موتي في مكاني".