فليكر برخصة المشاع الإبداعي
سلمان رشدي

سلمان رشدي وغبار "الفتوى" السحري

منشور الأحد 14 أغسطس 2022

تعتمد كوميديا المسلسل الأمريكي Curb your Enthusiasm على المواقف المحرجة التي يتعرض لها الكاتب والمنتج لاري ديفيد، المؤلف الحقيقي للعمل، الذي يظهر بشخصيته الحقيقة مثل غالبية الممثلين الرئيسيين. الحوار في الأغلب قائم على الارتجال، ويتعامل مع كافة التابوهات والقضايا المعاصرة بسخرية ثاقبة ونقد لاذع.

 حلقات المسلسل غير مترابطة بشكل أساسي عدا الموسم التاسع، الذي يدور حول تأليف لاري لعمل مسرحي عنوانه فتوى Fatwa يتناول قصة سلمان رشدي مع روايته آيات شيطانية، والتهديدات بالقتل التي تلقاها بعد فتوى الخميني في إيران، ثم التهديدات التي سيتلقاها ديفيد نفسه بعد ذلك.

في الحلقة الثالثة من ذلك الموسم (عُرضت في أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، يفكر ديفيد في مقابلة سلمان عسى أن يرشده الأخير إلى كيفية التعايش تحت وطأة التهديد بالقتل. يزوره ديفيد في بيت فخم فيكتوري الطراز، وتكون نصيحة رشدي الحاسمة التي يقول إنه توصل إليها بعد سنوات عديدة من الرعب والتخفي "لا تحاول الاختباء، كن رجلًا، الفتوى موجود لكن اللعنة عليها"، بالأدق قال (Fuck It).

ينزع رشدي الشعر المستعار من على رأس لاري ديفيد، ويذهبان إلى أحد المطاعم كي يثبت له صحة كلامه عن الجاذبية الجنسية لـ "غبار الفتوى السحري".

ورغم أن رشدي يسخر من ذاته ويحاول إبراز الجانب البرجماتي لا البطولي عند الحديث عن مزايا العيش وأنت مهدد بالقتل، وكيف يجعلك شخصا مثيرًا في عيون النساء، فإن الانطباع الأصدق الذي يتركه فيك هو أنه كاتب "شجاع".

 والغريب أن صفة "الشجاعة" تتوارى خلف سيل الادعاءات والاتهامات الموجهة ضد الكاتب البريطاني ذي الأصل الهندي. اتهامات بالسعي الرخيص إلى الشهرة، الوقاحة، التآمر، المرض النفسي وضيق الأفق، الابتذال، كذلك الإدعاء بأن كاتب آيات شيطانية، يشحذ قريحته من أجل تكريس الرؤى الغربية الاستشراقية عن "الشرق المتخلف".

مسرحية فتوى من المسلسل الأمريكي للاري ديفيد


قوة البلاغة

ما يثير التأمل أكثر في الحوار بين سلمان رشدي ولاري ديفيد أنهما ينطقان كلمة فتوى كما هي Fatwa صارت الكلمة بلا حاجة إلى ترجمة أو سياق. اكتسبت دلالة عالمية مثل بعض الكلمات التي أصبحت "كونية" رغم أصولها المختلفة. كلمات مثل كارما Karma من اللغة السنسكريتية، التي تشير إلى العاقبة الأخلاقية في البوذية والهندوسية، أو ماتشو Macho وتانجو Tango مثلًا من اللغة الإسبانية والثقافة اللاتينية.

الفارق بين فتوى والكلمات الأخرى يأتي من الدلالة السلبية لمعنى "الفتوى". وتكمن السلبية في ما تحمله الكلمة من ضرورة الإذعان أو الامتثال لرأي أو تصريح "القيادة" أو "السلطة" الدينية. أي أن تمتثل جموع المسلمين لمؤسسة أو جهة أو فرد.

انطلاقًا من تلك النقطة، يمكننا فهم طبيعة الصراع الذى خاضه أدب سلمان رشدي مع العالم، وأقصد العالم بمعناه الواسع لا العالم الإسلامي العربي فحسب.

 المواجهة بين بلاغة القوة، المتمثلة في بيانات التكفير والتهديدات بالقتل والاتهامات بالعمالة، وقوة البلاغة كما يتمثلها أسلوب رشدي وخطابه الروائي. المقولات السلطوية محتكرة الحقيقة تصارع التعبير الحر والخيال الخلاق المُنفلت من كل القيود.

وكما توارت "الشجاعة" خلف ضرورة "التخفي" من أجل البقاء على قيد الحياة، وعاش سلمان رشدي لسنوات متخفيًا وتحت حماية الشرطة، بهتت أهمية الحديث حول الأصالة الفنية لأعمال رشدي الروائية، أو مكانته المفترضة في التقليد الأدبي الغربي أي ما يُعرف بـ The Western Canon، لأن الأولوية تصير دائمًا، لدى المتضامنين مع قضية رشدي، مركزة على الدفاع عن حرية التعبير.

بالطبع لا يهتم القتلة والمتطرفون بالجودة أو الرداءة الفنية للعمل الأدبي. ولم تكن القوة الأسلوبية لرويات رشدي شفيعة له حين قام شاب أمريكي مسلم بمهاجمته وطعنه في نيويورك أثناء استعداده لإلقاء محاضرة في مؤسسة تشوتوكوا. سدد المُعتدي أكثر من طعنة، أصابت إحداها رقبة رشدي، بينما تشير بعض التقارير إلى تضرر الكبد.

لكن الحديث عن البراعة الفنية وطبيعة مقاربة سلمان رشدي الجمالية للمقدس، وأيضًا تنوع الأسئلة السياسية والاجتماعية التي يطرحها خطابه الروائي، لم يعد ترفًا. خاصة حين تصبح الأحكام المطلقة الخاصة بالرداءة والحقارة بمثابة الاغتيال المعنوي؛ توطئة للقتل المادي.

الرواية الملعونة

تتفاوت الإجراءات التي تتخذها الدول العربية حين تقرر منع الأدب، قد تحاكم العمل الأدبي، تبرئ الكاتب أو تسجنه، تعيد طبع الأعمال أو تصادرها فتُباع على الأرصفة. وقد تترك الكاتب فريسة للاغتيال المادي من قِبل حراس الدين والأخلاق، أو يصل الأمر إلى حكم قضائي بإعدامه.

لا تقتصر الرقابة على الإجراءات السلطوية للدولة درءًا لمزايدات الإسلاميين السياسية عليها، بل يمكن أن تستمد شرعيتها من صمت المثقفين، خصوصًا لو كان العمل الأدبي غير عربي. وقد يتعدى التواطؤ حدود الصمت إلى تدبيج المقالات ضد العمل الفني موضوع الرقابة أو الحظر.

 لذلك حين حاول العالم العربي تقديم مساهمته في القضية العالمية التي فجرتها آيات شيطانية نهاية الثمانينيات، لم يجد إلا المنع والمصادرة ودعاوى التكفير كوسائل أمام ما تثيره الرواية من جدل.

يتناول صادق جلال العظم في كتابه ذهنية التحريم، أدب سلمان رشدي وروايته المثيرة للجدل، عقب "الحكم العابر للقارات" الذي أصدره الخُميني بقتل مؤلفها، ويُفنِّد الأحكام والإدانات والكتابات العربية التي هاجمت الرواية بوصفها "عملًا استشراقيًّا وقحًا"، وكاتبها المولود في بومباي بوصفه "شيطان الغرب المارق"، ويبين أن أبرز المثقفين والصحفيين والنقاد العرب المهاجمين لم يقرؤوا الرواية، مثل أحمد البرقاوي وهادي العلوي.

يذكر العظم ما فعله الناقد المصري غالي شكري، من رصد لما أسماه "ثلاث عشرة عينة مصرية من الكُتاب والمثقفين ورجال الدين" ممن تناولوا رواية رشدي بالاستنكار والتجريح والهجوم، فتبين له أن "عدد الذين قرؤوا الرواية لا يتعدى الشخصين فقط لا غير". والعجيب أن قافلة إطلاق الأحكام الاعتباطية ضمت كُتابًا مرموقين، مثل رجاء النقاش وأحمد بهاء الدين.

رشدي وذاكرة "التقليد"

يعيد رشدي إرث الهرطقة ومعارضة المقدس، ويزيد على أجداده ابن المقفع وابن الراوندي والمتنبي أنه يوظفه في عمل روائي خيالي من الفانتازيا الساخرة. هكذا يبين العظم طبيعة التقليد الأدبي الذي ينتمي إليه رشدي وينحدر منه، ويقصد تقليد أدب المعارضة الهجائي الساخر في الثقافة العربية.

أما في سياق الأدب الأوروبي الحديث، يؤكد المفكر السوري التشابه بين رشدي الكاتب الفرنسي فرانسوا ورابليه من جهة، حيث الهجاء الأدبي الملحمي والخصائص التنويرية لأدب كل منهما. ومن أخرى، يرى العظم منجز رشدي الروائي يطاول مكانة جيمس جويس، القمة الشاهقة في الأدب الإنجليزي.

وتتمثل نقاط التشابه في القدرة على التعقيد اللغوي، واتخاذ كل منهما شخصيته محورًا لعمله، شخصية ستيفن ديدالوس في رواية جويس صورة الفنان في شبابه، وشخصية سليم سيناء في رواية رشدي أطفال منتصف الليل، ومركزًا لمجموعة من الدوائر المتقاطعة وهي العائلة والدين والوطن والامبراطورية. إضافة إلى رفض كل منهما خضوع بلديهما، إيرلندا والهند-باكستان، للإمبراطورية البريطانية.

لا يجب أن يثير الهجوم على عمل أدبي دون قراءته دهشتنا. فلنتذكر أنه حين نفذت الجريمة الإرهابية ضد المجلة الفرنسية شارلي إبدو في يناير 2015، انبرى البعض للحديث عن ضرورة عدم المساس بالمعتقدات الدينية. وصفت الرسومات وقتها بأنها مسيئة للرسول ربما دون رؤيتها. في الوقت الذي كانت الرسومات تصور دموية تنظيم الدولة الإسلامية حد إقدامها على ذبح النبي محمد لو قدر له أن يبعث بينهم من جديد. هل مثل هذا الكاريكاتير يسيء للرسول أم للتنظيم؟ أم أن الاعتراض على تجسيد النبي بشكل عام بغض النظر عن السياق؟

ربما بات من المعروف أن رواية آيات شيطانية تمثل إعادة صياغة لرواية الطبري عن حديث الغرانيق (حديث نسب للرسول عن قيام الشيطان بتحريف الوحي)، حسب التسمية الشائعة في الأدبيات التراثية والدينية. ويمزج الكاتب فيها بين المعقول واللا معقول، وينقد كذلك الأنساق المعرفية الهندوسية والإسلامية وما تضفيه من أوهام الروحانية والقناعة.

 لكن ما الذي يمكن أن يقدمه السياق لذهنية التحريم والمؤامرة؟ إن طغيان القداسة وصل في أيامنا هذه إلى محاكمة من يُقلد المذيعين في إذاعة القرآن الكريم.

لكن الهجوم على سلمان رشدي وقتها لم يكن شرقيًا فقط. إذ تعددت جبهات الهجوم الغربي وتنوعت.

أدينت الراوية وكاتبها من الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش، ونائبه ووزير خارجيته وكذلك الكاردينال أسقف نيويورك الكاثوليكي، والرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، ومارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا ووزير خارجيتها، ورئيس حزب المحافظين البريطاني، والناطق باسم كارتيل المصالح التجارية البريطانية اللورد هارتلي شوكروس، وأسقف كانتربري، والرئيس الفرنسي جاك شيراك، والفاتيكان نفسه، ومجالس الكنائس المسيحية بأصنافها وأنواعها، ومجالس الحاخاميات اليهودية، وأيضًا إدانة رسمية من دولة إسرائيل (رغم إصرار البعض على وصف الرواية بأنها مؤامرة صهيوينة).

يكشف الموقف الغربي عن التحالف مع القوى المحافظة والرجعية في البلدان العربية والشرقية، والحرص على استمالة تلك القوى. وتعتبر تلك "النظرة" الغربية بعض رؤى التحديث و التحرر والرؤى الناقدة للميتافيزيقا والأساطير حول أسرار الشرق الروحية "تزييفًا للأصالة المحلية وخيانة للخصوصية الشرقية العريقة".

 ويمكننا الآن فهم الموقف الغربي بشكل أوضح بعد تجليه الإيديولوجي الراهن فيما يعرف بـ "سياسات الهوية" المتفاقمة في الثقافة الأمريكية والبريطانية.

يعتمد التمثيل الثقافي في معظم الأعمال الفنية الأمريكية والبريطانية الحديثة على منطق هوياتي، ورؤية إكزوتيكية للجماعات الإثنية والعرقية. وفق هذا المنطق، قد يرى البعض أن رشدي يجب أن يكون أكثر إخلاصًا لجذوره الثقافية، وأن عليه البحث عن وسيلة ﻟ"تسكين" الصراع بدلًا من التعبير عنه. وربما تتمادى بعض الأصوات الليبرالية حد اعتبار حرية الرأي والتعبير قيمة أوروبية لا كونية، وليست ضمن حقوق الإنسان العالمية. ويجب أن تحظى مقدسات الطائفة أو الجماعة بالأسبقية بدلًا من حرية الفرد، خوفًا من الاتهام بازدراء "الآخر" أو فرض معايير "خارجية" عليه.

رغم ذلك لا يخلو عمل سلمان رشدي من "الخيانة"، لكنها ليست خيانة للخصوصية الثقافية وإنما "خيانة الكاتب" بالمعنى المجازي، "لجنسه ولطبقته ولأغلبيته" كما يراها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز.

يكتب رشدي الأقلية ويعبر عنها، الأقلية المسلمة في بومباي والأقلية الهندية في بريطانيا، لكنه ينتقد كذلك بعض رؤاها وأفكارها، ولا يقدم الأقلية في صورة ملائكية ترضيها. إنها خيانة القوى والأفكار السائدة الحاكمة لعقل الأقلية.

ويضفر رشدي مع تلك "الخيانة" تمثيله للصراعات الطبقية في المجتمع الهندي، وفساد النخب الحاكمة التابعة لقوى الاستعمار كما في روايته الرائعة الحائزة على جائزة البوكر أطفال منتصف الليل، أما في العار كان النقد الساخر المرير موجهًا إلى الديكتاتوريات العسكرية الحاكمة في الباكستان، واستخدامها الشريعة الإسلامية كمجرد أداة للقمع.

دعابة الأبد

قبل نهاية حديثه مع لاري ديفيد، يخبره سلمان رشدي أن الممثل الذي يراه مناسبًا لتأدية دوره، لو قدر للمسرحية أن تنفذ، هو النجم هيو جاكمان.

يلقي رشدي الدعابة بينما ملامح وجهه شديدة الجدية والتصميم. مما يزيد من قوة الإفيه. الآن نطالع الأخبار عن استقرار حالته وعدم الحاجة إلى جهاز التنفس الاصطناعي. وحسب وكيله الأدبي وأحد أصدقائه، فإن رشدي تمكن من التحدث و"المزاح".

أتخيل النكتة التي يمكن أن يقولها في مثل هذا الموقف. ربما قال إن الغبار السحري للفتوى قد نفد. ربما لن أعرف أبدًا. فقط، أتمنى ألا تكون دعابته الأخيرة.