برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا
الرئيس الأسبق محمد نجيب

هل خطب رئيس مصري بلغة أهل النوبة؟

محاولة لجمع "نثار المحو"

منشور الأحد 21 أغسطس 2022

كان عمر أبي نحو عشر سنوات عندما رأى بأم عينيه الرئيس محمد نجيب ينزل من سفينته ليقضي بضع دقائق في قريتنا دهميت. أثناء ونساتنا الصباحية على المصطبة أمام المنزل، كثيرًا ما روى لي تفاصيل ذلك الحدث العالق بذاكرته، عندما ألقى الرئيس خطابًا باللغة النوبية (الكنزية) أمام أهل القرية.

سألته وقتها باندهاش شديد "وهل يجيد محمد نجيب النوبية؟" فردَّ "لا" وأضاف "ولكن يبدو أن أحدهم كتبها له بحروف عربية أو إنجليزية لأنه كان يقرأ من ورقة، ولم ينطق أي كلمة نوبية خارجها". كان سؤالي التالي حول تذكره لأي شيء من ذلك الخطاب؟ فأكد أنه يتذكر جملة واحدة "i go elrgogodo nesb ery" وهي تعني "وأنا لي نسب معكم". هذه العبارة التي تعبر عن رابط القرابة مع رئيس الجمهورية علقت بذهن أبي لعقود.

تكرر حديثنا ذلك أكثر من ثلاث مرات خلال السنوات الثلاث الأخيرة في زياراتي للبلاد، وظلت شهادته ثابتة. خلال تلك السنوات كنت أفكر في البحث عن الموضوع أو على أقل تقدير طرحه للنقاش العام، وقررت مؤخرًا أن أبدأ رحلة البحث.

كنت أفتش عن دليل لتلك الرواية. فالحدث جلل أن يتحدث رئيس مصري بلغة محلية في عام 1953 في أوج الهيمنة القومية العربية على حركات التحرر الوطني.

بدأت رحلة البحث من قريتي. تواصلت مع مؤرخ قريتنا الأستاذ مبارك عثمان لبيب، وسألته عن مدى معرفته بزيارة نجيب لدهميت، فأخبرني أن المصادر التاريخية النوبية وثقت زيارة نجيب لأبو هور بالصور والمقالات الصحفية، لكن ليست هناك مصادر مثيلة فى زيارته لدهميت، لأنها كانت زيارة خاطفة وسريعة وهو في طريقه لأبو هور.

يظهر في الصورة تجمع رجال ونساء قرية أبو هور أثناء خطاب الرئيس محمد نجيب ويظهر الزي المميز لنساء أبو هور المتزوجات (زي الشُقَّة).

أمدني مؤرخ قريتنا أيضًا ببعض صفحات كتاب أبو هور بلدنا للمهندس أبو بكر محجوب حسن، الصادر عن مركز الدراسات والتوثيق النوبي، الذي يؤرخ لزيارة أبو هور، وخطاب الرئيس أمام عُمد قرى الكنوز (دابود، دهميت، أمبركاب، كشتمنة، الدكة، كلابشة).

لا يشير البحث في المواقع والصفحات والمدونات النوبية إلى وقوف الرئيس أو نزوله في دهميت. عاودت الاتصال بأبي لأتأكد "يا حاج... الريس محمد نجيب مرحش دهميت راح أبو هور بس والعُمد قابلوه هناك ... يمكن لوحلكم بس من المركب وأنت ناسي". رد بحزم ويقين "لا، نزل دهميت. وهو راح بلاد كتيرة وخطب في دهميت بالنوبي".

بدأت بعد ذلك البحث في المصادر الرسمية، ورغم عدم تمكني من الحصول على معلومات من الأرشيفات الصحفية المتاحة على الإنترنت فإن موقع الرئيس محمد نجيب ضمن مشروعات مكتبة الإسكندرية للتوثيق أتاح لي استجلاء العديد من الجوانب لتلك الزيارة.

ضمن المادة الأرشيفية للموقع تقرير منشور في الأهرام بتاريخ 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1953 يوضح موعد وبرنامج الزيارة والمواقع التي سيزورها الرئيس. يصل أسوان يوم  17 نوفمبر 1953 ويفتتح بعض المشروعات بمدينة أسوان، وبعدها ينتقل في الباخرة المعدة لرحلته إلى بلاد النوبة.

وأوضح التقرير أن الرئيس سيزور قرى عنيبة وتومار والدر وأبو سمبل وأبريم والدكة والمالكي وبلانة، لافتتاح بعض المشروعات. كما أنه سينزل في شواطئ بعض القرى ليقابل الأهالي، وذلك في كل من دهميت وأبو هور والسيالة والعلاقي وتوشكى وأدندان.

لا يمكن إذن إنكار نزول الرئيس شاطئ دهميت ولقائه الناس هناك بعد ذلك التصريح الواضح لجدول الزيارة بالأهرام. أيضًا هناك صورة نشرتها صفحة نوبيان جيوغرافي على فيسبوك، تقول إنها تمثل استقبال الأهالي لمحمد نجيب عند قرية أبو هور.

ورغم الإشارة إلى أن الصورة من قرية أبو هور فإن النساء لا يرتدين الشُقَّة (الثوب الأبيض فوق الملابس السوداء للنساء المتزوجات ببعض قرى الكنوز) و يرتدين مثل نساء دهميت. وحين أرسلت الصورة لوالدي أكد وجهة نظري أن النساء في دهميت كن يلبسن هكذا. ونظرًا لأن شط دهميت كان منحسرًا، فإننا نرجح أن الصورة بالأسفل من دهميت.

 

نساء ورجال إحدى القرى النوبية يستقبلن الرئيس محمد نجيب علي شاطئ قريتهم

في كتابه الحقيقة عن ثورة يوليو، الصادر عن مكتبة الأسرة عام 2002، يشير عبد المحسن أبو النور قائد الحرس الجمهوري في ذلك الوقت، وأحد مرافقي الرئيس محمد نجيب خلال تلك الرحلة، بشكل واضح إلى استخدام نجيب اللغة النوبية إذ يروي..

"ومن الحكايات التي أذكرها أيضًا أنه أراد أن يتقرب أكثر  إلى أهل النوبة، وقد كان معنا ضابط نوبي ويسمى يعقوب حسن أحمد، لذلك طلب منه محمد نجيب أن يُعد له خطبة بلغة النوبة، وحيث إن محمد نجيب لا يعرفها فقد طلب كتابتها بالحروف العربية، وعند رسو السفينة في أول بلد من بلاد النوبة خلع الكاب ووضع الورقة التي فيها الخطبة داخل الكاب، ووقف أمام ميكرفون على سطح السفينة يتلو الخطاب باللغة النوبية".

أيضا في إحدى الصفحات النوبية صورة يبدو أنها نُشرت بواحدة من المجلات خلال التغطية الإعلامية للزيارة تشير إلى تحدث الرئيس باللغة الكنزية في زيارته للنوبة (للأسف لم يتسنَّ لي الوصول للمجلة).

هكذا يمكن لنا القول بشكل واضح إن الرئيس نزل إلى قرية دهميت وتحدث باللغة النوبية وفقًا لشهادة أبي التي أكدها تقرير الأهرام عن برنامج الزيارة وأيضًا الصورة المنشورة بإحدى المجلات في ذلك الوقت وشهادة قائد الحرس الجمهوري الذي رافقه خلال الزيارة.

لكن يبقى سؤال مهم عن مدى وجود هذا الخطاب في الأرشيف الوطني من عدمه. حاولنا التفتيش عن خطابات الرئيس خلال رحلته إلى النوبة لكننا لم نجد في أرشيف مكتبة الإسكندرية الإلكتروني إلا نص خطابه في منطقة مشروع الدكة وعنيبة، بتاريخ 21 نوفمبر 1953.

ولم يكن ذلك الخطاب هو الذي يشير إليه والدي، أولًا لأنه مكتوب بالعربية، وثانيًا لأنه لم يذكر اسم دهميت ضمن القرى التي اجتمعت لاستقبال الرئيس في ذلك المكان. 

ويوضح الأرشيف "وصلت الباخرة سودان المُقلة للسيد رئيس الجمهورية اللواء أركان حرب محمد نجيب، في الساعة الثامنة والنصف إلى منطقة مشروع الدكة، وقد استقبل فيها الرئيس بأعظم مظاهر الحفاوة والتكريم، حيث كان على الشاطئ لتحيته والترحيب بمقدمه أعيان وعمد وأهالي وتلاميذ المدارس الإعدادية وبلاد قرشه، وجرف حسين، وكشتمنه شرق، وكشتمنه غرب والدكة، والعلاقي وقورته".

ما يبقي الأمل حيًا حول وجود هذا التسجيل ووثائق أخرى غير منشورة ومتعلقة بتلك الزيارة؛ ما أشار إليه عبد المحسن أبو النور  في كتابه عن مرافقة وفد إعلامي للرئيس، وأيضًا قيام الفريق الإعلامي بتسجيل اللقاءات والخطب وإرسالها إلى وزارة الإرشاد التي لم تكن تذيعها كاملة.

منذ ذلك الحدث الاستثنائي وعلى مدار حوالي سبعين سنة، لم يسمع أبي أي رئيس آخر للجمهورية يتحدث بالنوبية ولم يأخذ هذا الحدث ما يستحق من البحث والتنقيب. هذه المحاولة ربما تفتح الباب للبحث عن الأرشيف الصوتي لرئاسة الجمهورية وأرشيف الإذاعة المصرية للوصول إلى ما تم حفظه من مواد صوتية لهذه الزيارة. ربما يسمع أبي وجيله مرة أخرى صوت الرئيس وهو يخطب بالنوبية، وقد نسمع نحن والأجيال الآتية لأول مرة رئيس مصري خطب بلغة محلية أصيلة.

ويبقي البحث مستمرًا عن ذلك الحدث، الذي علقَ بذاكرة أبي ولكنه مُحي من الذاكرة الوطنية.