تصميم: يوسف أيمن- المنصة.

"الهزّ المقدس": الرقص في توديع الحجاج وموالد آل البيت

منشور الأحد 9 أكتوبر 2022 - آخر تحديث الأحد 9 أكتوبر 2022

مُجسم صغير للكعبة تعلوه طائرة تحلق في السماء، تجاوره كلمات من أغنية "يا رايحين للنبي الغالي" للفنانة ليلى مراد مع عبارة "حج مبرور وذنب مغفور". تقليد شعبي يُميز به الأقارب والأصدقاء منزل الحاج كوسيلة وداع واحتفال لمن فاز بزيارة البيت الحرام.

تختلف العادات في توديع الحجاج من منطقة لأخرى في شمال مصر وجنوبها، بين الزغاريد، وحلقات الذكر، وإقامة الولائم والغناء، وغيرها، لكن عادة ما يتم إغفال الرقص البلدي كأحد مظاهر الاحتفاء بـ"الحاج" وتوديعه.

لم يكن وداع الحجاج المناسبة الدينية الوحيدة المرتبطة بالرقص بأشكاله المختلفة، فموالد آل البيت، واحتفالات الطُرق الصوفية أيضًا تشهد أنواعًا متباينةً من الرقص.

فرقة غوازي مصرية في احتفال شعبي

كان الرقص بعبارة مجازية أول صلاة عرفها الإنسان، "اللغة الأولى عند الإنسان البدائي الذي عبّر بحركات الجسد عما يشعر به ويدور في نفسه من انفعالات الفرح، الحزن، الضيق، وغيرها"، فكان التعبير بالحركة لغة المجتمع، وتأثر الرقص على مر العصور بعوامل عدّة منها الدين والمناخ و الموسيقى والعادات والتقاليد وغيرها.

يا أم شال قطيفة

منذ عقود طويلة شهدت بعض قرى الجيزة احتفالًا مختلفًا بتوديع الحجاج، لم نتمكن من معرفة نقطة بدايته الزمنية إلا أننا توصلنا إلى نقطة الاختفاء بالتواصل مع من أدركوه، فجرت العادة على أن يُقيم الحاج احتفالًا قبل سفره بعدة أيام يجمع فيه بين الإنشاد الديني والرقص البلدي.

يروي أحمد عبد الفتاح للمنصة​​​، وهو أحد سكان المنطقة، ما عايشه من احتفالات لتوديع الحجاج فيقول إن الاحتفالات تبدأ قبل الخروج بخمسة عشر يوما تعلق فيها أسرة الحاج ميكروفونات تنقل للجيران أغنيات مثل"رايحة فين يا حاجة يا أم شال قطيفة؟"، و"الحاج مشي ونسيت أقوله يجيب قطيفة للشارع كله"، ويستمر من الصباح حتى نهاية اليوم، على أن يتخلله ما يصفه بـ"حصة"، وهي وقت مستقطع تجتمع فيه النساء للطبل والرقص.

هنا يذكر الأكاديمي الراحل محمد رجب النجار في كتابه فولكلور الحج، ما عاينه عن الحصة، أو ما كان يُطلق عليها ليالي التحنين، وهي سهرات نسائية خاصة تبدأ قبل السفر إلى الحج بما يقارب ثلاثة أسابيع، ويجتمع في كل ليلة عدد من النساء والصبايا من أهل بيت الحاج أو الحاجة والأقارب والجيران والأصدقاء، من بعد صلاة المغرب وحتى وقت متأخر من الليل لإحياء الليالي، فيرددن كثيرًا من الأغاني الخاصة بالحج بمصاحبة بعض الآلات الموسيقية الشعبية، وتتوقف هذه الاحتفالات بعد خروج المسافر للحج وتعود مرة أخرى مع اقتراب عودته.

قبل الرحلة بثلاثة أيام تكون الليلة الكبيرة للاحتفال التي تشهد رقصة الحج، ويحضر فيها أحد المطربين تصاحبه فرقته الموسيقية وطاقم الراقصات. يذكر أحمد أنها تُشبه الليالي السابقة للأفراح والطهور وغيرها من الاحتفالات الشعبية، فالأصل فيها التعبير عن الفرح وإظهاره بغض النظر عن نوع المناسبة دينية أو اجتماعية، فهي الوسيلة التي يعرفها أهل القرية لإعلان احتفالهم، مضيفًا أن مطربين شعبيين يحيون هذه الليلة، رأى منهم الحاجة فراولة، بيومي المرجاوي، سعيدة عبدالعليم، وغيرهم.

تحطيب وتشكيل

غاب الرقص عن التوديع، أو لنقل غابت مظاهر التوديع إلى حدّ كبير، لكنَّ الرقص الديني في مصر لا يزال يحفر لنفسه طريقًا متحديًا محاولات التحريم والتجريم، الدينية والأخلاقية، إن لم يكن لتوديع زوار البيت، فليكن في رحاب آل البيت واﻷولياء.

في أغلب الأعمال الدرامية، حين يحضر البطل مولدًا، يمر بخيمة الرقص التي تجاور خيمة المدح والإنشاد، لتخرج الغازية تتمايل على نغمات الفرقة الموسيقية، وهو ليس محض خيال المؤلفين وصناع الدراما، فخيمة الرقص جزء لا يتجزأ من الاحتفالات الشعبية بالموالد، وإن قلتْ تدريجيًا منذ السبعينيات تزامنا مع الصحوة الإسلامية، وبعثات المصريين للخليج، لتبدأ رحلة التحايل المصري ويظهر الرقص بأشكال مختلفة ومُتعددة في الاحتفالات ذاتها في السنوات الأخيرة.

مجموعات التشكيل بالموالد

في مولد السيدة زينب، يجتمع المريدون قبل الليلة الكبيرة بعدة أيام تُقام خلالها حلقات الذكر في الشوارع المُحيطة بالمسجد، وتشهد الشوارع حلقات رقص تتنوع بين التحطيب بالعصا والرقص، وأخيرًا التشكيل.

الرقصة اﻷخيرة لون مُستحدث على احتفالات المولد، إذ يرقص بعض الشباب على أغاني المهرجانات، وتعتمد الرقصة على حركات سريعة وحادة تختلط فيها الأيدي، وقفزات سريعة في المكان.

لم يكن المشهد قديمًا مماثلًا لما نراه الآن، فخيمة الرقص، والقائمة في أغلب الأوقات على الغجر، كانت ثابتة في فترة السبعينيات حتى في الموالد الصغيرة. تتذكر أم محمد، المرأة الستينية، في طفولتها موالد "سيدي عتمان" و"علي النفيلي" و"شنديد"، في مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة.

تقول أم محمد للمنصة "يوم المولد عيد"، وتسترجع كيف كانت ترتدي مع بنات أعمامها ملابس العيد، وتنقلهم سيارة بصحبة والدتها وعمتها من المنزل إلى القرية محل المولد، و"في المولد خيمة الغجر، ورقص الغوزاي، وتنطيط، وكل ليلة غير التانية، ونقفلوا الليلة الكبيرة بحلقة الذكر".

فرقة غوازي مصرية مطلع القرن العشرين

لم تختف خيمة الرقص تمامًا، حسبما يرى الباحث في الانثروبولوجيا الثقافية محمد أمين عبد الصمد في حديثه للمنصة "لا تزال في بعض المناطق بالصعيد والدلتا، وإن قلتْ". ويوضح أن الموالد "لم تعد السياق الحاضن للفنون التي ضمتها في الفترات السابقة مثل الحواة، والقرداتي، والشاعر القصصي"، مرجعًا اندثار هذه اﻷنواع إلى التغيير الاجتماعي وتأثير الأفكار السلفية أو الفقهية على تعامل الناس معها أو قبولهم لها.

الرقص بالثعابين

على الجانب اﻵخر من السلفية، تُعد مواكب الطُرق الصوفية طريقة مُميزة للاحتفال بآل البيت والأولياء والمناسبات الدينية مثل رأس السنة الهجرية والمولد النبوي الشريف. تمتد المسيرة التي تضم مئات الأشخاص يتقدمها حامل "علم" الطريقة، ولكل طريقة علم يُميزها عن غيرها.

وقد يضم الموكب حملة الطبول والمزمار، وهو ما يدفع النساء المرافقات للمسيرة إلى الرقص والتمايل إعلانًا عن سعادتهن وحبهن لآل البيت، وشاهدتُ ذلك في مولد أبي العباس المرسي بالإسكندرية، فيما يظهر الحصان كبطل أساسي في احتفالات الصعيد.

ياسر الكومي مصور حُر، اعتاد التجول في الموالد وتسجيل لحظاتها. كان المشهد الأبرز في ذاكرته ما رآه في مولد سيدي شبل في محافظة المنوفية حيث تخرج مسيرة من المسجد وتعود إليه مرة أخرى بعد جولة قصيرة في محيط المقام.

يقول الكومي للمنصة إن مشهد المسيرة غالبًا ما يضم الدفوف وسيارة نصف نقل تحمل مكبرات صوت تصدر أغاني الذكر والتواشيح، بينما تشهد فترة المساء حلقات الذكر التي يجتمع فيها صوت المنشد مع رقصات السيدات بين تمايل الرؤوس والأجساد.

الرقص بالثعابين في الموالد

الرقص بالثعابين، أو الرفاعية، كان المشهد الأغرب حسب وصف الكومي، الذي رآه في موالد عدّة. يحمل أحد أفراد الطريقة أكياس قماشية يستخرج منها ثعابين يقدم بها ما يُشبه العرض الراقص. يضع طرف الثعبان في فمه ويمسك الآخر بيديه وهو يتمايل على نغمات الذكر، أو يحمل طرفيها بين يديه ويحركها يمينًا ويسارًا عكس اتجاه الجسد.

ربما يتعرض الرقص لمزيد من المضايقات، خاصة في اﻷماكن الدينية، أو يكسب أرضًا جديدة يبسط فيها نفوذه وينتشر كأداة تعبير إنساني، اﻷمر يتوقف على مدى المرونة المعرفية والفكرية التي يتلقى بها الناس "أول طرائقهم للصلاة".