الصحفية سالي أسامة

رجال مصر يفخرون بنسائها| سالي.. وحدها تعرف خبيئة الفردوس

منشور الأربعاء 9 مارس 2016

 

الأشياء عابرة.. الخلود وهم. الشهوة تصعد فتنطفيء. اللطف باق. كسريان الماء، والهواء. يكاد لا يُرى.. لا يُشم. اللطف هو الحياة، ولا شيء أزلي إلا ما ينزع عنه ثقله ويُعرف بخفته وتسلله. السريان حق. واللطف ينطفيء فيشتعل. وهج الدفء لا الحريق. ضوء الشمعة، لا طغيان الشمس. طيف أم كلثوم على الساوند كلاود، في المقاطع المفتتة، السحرية، المتسللة أفضل من السهرة الكاملة. ثم نكتشف فجأة أن محبة أم كلثوم كانت هنا طيلة الوقت، وأن ما أنكرناه كان حقيقيا جدا، حتى أننا بلا ادعاء سابق عن شكل المحبة، نجد أنفسنا فجأة نضغط على رابط السهرة الكاملة، ثم لا نرى سوى السحر.

كيف يمكن وصف المحبة الباقية إلا كأطياف تسري ببطء. تصير هي الدم في الشريان والأكسجين في الرئة، وشربة الماء المُنجية من شمس تقتل.

أكتب عنك؟ سبع سنوات (صديقان، أحبة، خطبة، زواج، إنجاب، كارثة، انبعاث المحبة). سبع سنوات وأنا أحاول يا سالي. حتى كدت أؤمن أن من الاستحالة أن نكتب عن ما نحب حقا، وأننا نكتب عن ما نرغب في أن نحبه أو عن ما نكرهه، لأن اختراع الحب أسهل من إمساك سريانه. فلأحاول. لن ينجح هذا إلا عبر الصدق. لا يمكن تزييف الماء، لا يمكن تزييف الهواء.

 

ياسالي..

عظمة على عظمة على عظمة على عظمة يا ست. الصوت المتسلل والمتفرد للمعجب اليتيم، القبض على طيفه وسط هدير الافتتان.. شيء يشبه الحب.. شيء يفلت من قبضة قطيع المحبة.. يفلت بخلوده في مواجهة الجبل الراسخ والشمس القابضة.

المحبة؟ كيف وجدتِها تحت عظام غير مرتبة، لسان مرتبك، جسد أناني حطمه قبل لقياك البحث عن حب صممه سلفًا في مخيلته، بينما الجنة أمامي طيلة الوقت، صديقة تسمع وترى المغفل الذي يخترع الحبيبة اختراعًا ثم يحاسبها على أنها لم تكن كما تخيلها، وحطمه بعد لقياك رغبة في الهروب من شبح الموت- بسفالة ترعبني أن لا مدى لقسوتي- لا يؤمن الغبي –مثلي- إلا بالوليمة وينكر الوجبة البسيطة الدافئة.

كيف عرفتِ الحب في عين لا ترى الحب الرائق. القراءة خطيئة، أمارسها يوميا فجعلت لي عينان غارقتان في العمى رغم أن إحداهما تبصر. أرى الكون بعين البصيرة، ولا أرى الحياة بالعين الخافتة. الموت، الصدمات، نهش الضباع التي انتظرت طويلا لتنقض على جسد المحبة بيننا. كان علينا أن نمر بكل هذا، كي تصحو العين الخافتة، لترى الحياة في التفاصيل التي تنسجينها يومًا بعد يوم بلطف السريان.

الغفران؟ لا أسامح نفسي أبدا، لأني تركت الطفيلي ينهش، لم أهش الذباب عن المائدة، لأني تلَفَّت عن المحبة. كنت أفضل الوليمة. وتفضلين من العراق، نصفك لأمك المجلوب من الفردوس، الأكلات الخفيفة التي لا تثقل البدن ولا تجعل الهضم عسيرا، بل تجعل الحياة تمر، كالنسيم، كالود، كأطياف لا ترى. لا تحبين أبدًا ولائم العراق القديمة.

العراق؟ فردوس مفقود ومحطم. مصر؟ جحيم قائم. في الجحيم، تنسجين الفردوس. في الفردوس أحتمي بك من الجحيم. كم عام احتجته لأفهم كيف تتجاور لطميات الحسين وكرنفالات الفرح في ساحات العراق المفقود. سبع سنوات، عندما عاد حبنا منبعثًا من موته كي يعرف الميلاد؛ بدأت في الاستماع. الزيف لا يصنع المحبة. الثقل لا يصنع المحبة. المحبة في الاستماع.


 

كيف يُعرف الحب إلا بالفقد. كان علي أن أمر بهذا. لم أشعر يوما أني قد أصحو فلا أجدك. ثم صار الرعب، عندما اخترت ذات مرة أن أتعامى عن الحب الساري. أنا أصحو يوميا على صراخ مفزع. يا رب اجعلها هنا. أتعرف يا رب؟ أنا بغيابها لاشيء. وفي حضورها أنا محض أنفاس مطمئنة. تخرج وتدخل ببساطة، بلا عائق. فلا تغيبها عني. تتأخرين قليلا عن موعد الحضور، فتنهش عقلي عقارب أني لم أفعل بعد ما يجعلني أستحق تلك المحبة الكاملة؟ تتأخرين قليلا في الرد على هاتفك؟ فأصرخ : يا رب.. أتعرف؟ اجعلها دائمة، وسأحسب هذا لصالحك وسأعده ضمن فضلك. أنت وهي ستمنحاني الغفران كاملا، غير مشروط، بلا بنود تملى بين منتصر ومهزوم، بل بين عاشقين. غفران سار كالماء، كالهواء.

سبع سنوات يا سالي؟ أتعرفين ماذا تعلمت؟ تعلمت الحب الذي يعيد ابتكار نفسه بنفسه دون تدخل مع كل شروق.

الحب؟ هو أن أخاف عندما أتحسس الفراش أن لا أجدك. كأن نصف جسدي قد هرب.

يقولون أن علي أن أكتب شيئا يتحدث عن الفخر بك أو ما شابه. للنسويات تصورات غريبة عن الفخر، اختراعات مسبقة عن المرأة القوية. أنا لا أفخر بك، أنا فقط أسير مطمئنًا، هادئًا، في حياة رائقة. أعرف أن النظريات -ابنة خطيئة القراءة- تنظر إليك وتفخر بك، وتحاول أن تسجن أسباب قوتك في تعريف يلائمها. هن من يحتجن للنظر إليك والفخر، أما أنا فلا حاجة لي إلا للنظر إليك والتنفس.

الحب؟ لا تعريف له. هو ما يحدث يوميا. من يقبض على الماء في تعريف؟ من يقبض على الهواء في تعريف؟ من يعبد التعريف يفقد التنفس وينهش حنجرته الظمأ.

أتعلمين ما القوة؟ لا أحد يمنح الغفران والمحبة غير المنقوصة إلا امرأة تسري القوة فيها بلا إعلان صارخ. الصراخ للأرواح الضعيفة كي تغطي ثقوب ضعفها. مثلك لا يصرخ، لأن القوة تسري في روحك كهبة لا شيء مخترع في الكتب.

 

الطفيلي وزوجته النمامة لهما رداء المثقفين، يعيش الباراسايت على فتات الأب الروحي، يغذيه كعائل ويضخمه. يحج إليه المثقفون سعيًا لاستكمال أخبار النميمة بين زوجين. ما الفارق بين الطفيلي ومن يحجون إليه، سوى أن الثقافة محض رداء، والرجعية قابضة على الصدور. ينكلون بي تمامًا، يشعلون الغضب كلما انطفأ ، يراسلون بهمة فردًا فردًا، يحولون الأزمة إلى فضيحة، والخطأ إلى عار. الضباع لا تعرف سوى النهش. الفشلة لا يعرفون سوى مهنة الجزارة.

أنا المسؤول في النهاية. لكن علي أن أتعجب من قدرة الطفيلي الباهرة على الذبح البارد، وإدارة حياتنا كتسليته الجديدة الخاصة. وكيف تخلص من حجُّوا إلى مسرح الأراجوز من رداء التحضر وتلحفوا بتوحش النهش.

أعود، فتسامحين ببساطة. يتهمك الطفيلي وزوجته بالضعف. ما تعريف القوة؟ يقولون: أن يُقتَل الشيطان للنهاية. الغفران يفضح هشاشة النميمة. المحبة تطرد أرواح الخراب.

أخبرك: سأترك كل شيء، عملي، حياتي، سأغلق على نفسي بعيدًا عن الجميع. أنا أرضى بانكساري مقابل غفرانك، سأنزوي. ترفضين انكساري، تخبريني أن علي أن أواصل عملي، حياتي، ظهوري. تخبرينني أن الجميع لا شيء. وأن البهجة في الحفل لا تحتاج أكثر من فردين. فأواصل عملي وحياتي دون أن أشعر من ناحيتك أني أدين لك بشيء. تنهريني كلما عرفتِ أني لم أغفر لنفسي بعد.

لولاك لانكسرت، لسحقت. أخطط معك للهروب من جحيم عمل زائف يتنفس الخسة، صداقات زائفة تتنفس النميمة. ستة أشهر وننجو بفردوسنا معنا، نعرف أصدقائِنا الحقيقين، من لم يمارسوا النهش، ودافعوا عن جسد المحبة. نصنع معًا حضانة لأبناء الصحفيات مما ادخرناه من جحيم العمل الزائف، تغنينا الحضانة والكتابة المستقلة عن سؤال العمل في صحافة لا نقيمها بشروطنا. أبعث موقعي المستقل من الرماد، ونعيش بشروطنا أخيرا. نتنفس معا الحب من جديد. أتعرفين لما نجحت حضانتك؟ عملك، لأنك تسقينها من وهج المحبة. ترى السيدات أنفسهن فيك. تقيمين للعاملات المجهدات، الزوجات الدائخات، المطلقات الوحيدات فردوسًا صغيرًا لإراحتهن. تخبريني أن خطتك أن لا نرهقهن ماديًا فتختارين اشتراكات يسهل دفعها. تخبريني سنجعلها لمنتصف الليل، كي يجد الزوجان فرصة للتنفس وابتكار المحبة، وأطفالهم في مكان آمن يتعلمون اللعب والاستقلال.

أجد الوقت لكتابة روايتين ولخطيئة القراءة وأستعين بعينك المبصرة على ضعف عيني الخافتة. أستعيد الحياة عبرك من جديد، أقف على قدمين ثقتهما قدت من تنفس محبتك. تتألقين في حياتك، فأتنسم فرودسنا الصغير. يكبر مازن يوما بعد يوم. جسد محبتنا يلهو ويكبر ويتمرد. نضحك كثيرًا ويذوي الشجار فور أن يندلع. نجد الوقت والبال الكافي لإزالة المشاحنات والأوراق العالقة في بحيرة المحبة.

الأشياء عابرة..الخلود وهم. الشهوة تصعد فتنطفيء فنعيد اختراعها رويدًا رويدًا فتصعد من جديد نارًا تدفئ القلب، ماءً يلطف الحرارة فيهزم الجسدان شيخوخة الزواج. عرفنا السر فأحييناه. لذتنا ابنة الطيف. ابنة البقاء. تنمو من جديد. كشجيرة وارفة. تسقط أوراق، لتتجدد أوراق.. عاشقان محظوظان تنبت لذتهما في الجسد والروح مع كل خطوة للقدم. عرفا موت الحب فعرفا ميلاده. لا يولد شيء إلا بعد أن يرى الموت. أرى انبعاثنا معًا من ديد أكثر قوة وأكثر رحابة، وأدق في تعريفنا للفردوس: أن نعيش بلطف. عشاق لا يمكن فصلهم من جديد.

نعيد تعريف الأهداف كما كانت في لقاءنا الأول، هذا كل مانحتاجه: الحياة الجيدة لا الثراء، الوجبة الهادئة لا الوليمة. حياة لائقة بمازن لا رصيد في البنك. نتعلم معًا كيف نجعل الجذوة متقدة، ولا يلتهمنا الحريق. هذا ليس زواجًا؛ بل محبة تفضي لعشق وعشق يفضي إلى المحبة. نتعلم أن الصورة ليس عليها أبدًا أن تكون ممتازة. الحب مليء بالتصدع والخسارات والشقوق والأخطاء والشرور. المحبة، هي ابنة النقص لا ادعاء الكمال. المحبة ليست في الصورة، بل في ماء يسري بين الشقوق.

هل نجونا بمحبتنا؟ فعلناها..لأنك أنتِ، لا لأني أنا. تقولين: أنا أنتِ. وأقول: أنتِ كل شيء.

 

أنت أيضًا مدعو للكتابة عن صاحبة انجاز مهني أو حقوقي أو إنساني. انشئ حسابًا على المنصة وسجل فخرك بامرأة ملهمة.