صورة معدّلة من قبل المنصة
المستشار الراحل أحمد الشاذلي.

المستشار أحمد الشاذلي: حارس الجزيرتين الأخير

منشور الأربعاء 27 أكتوبر 2021

"عيش، حرية، الجُزُر دي مصرية".. هتاف هزّ به العشرات أركان القاعة 12 بمجلس الدولة، حيث انعقدت جلسة لدائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا ظهر يوم الاثنين 16 يناير/ كانون أول 2017، لتزدحم شوارع وسط القاهرة بعدها بحشود سعيدة تردد الهتاف نفسه، احتفالًا بحكم أصدره المستشار الراحل أحمد الشاذلي يؤكد مصرية جزيرتي تيران وصنافير، بعد توقيع اتفاقية لترسيم الحدود منحت السيادة عليهما للسعودية.

قبل ذلك بقليل كانت تلك الحشود منقسمة بين قاعة المحكمة والرصيف المقابل لمقر مجلس الدولة، تتشارك مشاعر واحدة هي القلق على ما ستؤول إليه الأمور في هذه الجلسة التي كانت مُخصصة لنظر طعن مُقدم من الحكومة المصرية على حكم بطلان اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية.

النطق بحكم مصرية تيران وصنافير


وبين لحظات القلق تلك وما تلاها من ساعات احتفال، كانت دقائق الحسم بهذه العبارات "استقر في عقيدة المحكمة أن سيادة مصر على تيران وصنافير مقطوع بها، وأن دخول الجزيرتين ضمن الأراضي المصرية ما انفك راجحًا رجحانًا يسمو لليقين". عبارات ارتبطت بالجزيرتين، وصارت خالدة، ليس فقط في سجلات قضاء مصر، بل وفي ذاكرة شعبها التي ستحتفظ أيضًا باسم صاحبها المستشار أحمد الشاذلي، الذي غيبه الموت مساء أمس الثلاثاء، قبل أعوام قليلة من انتهاء رحلته القضائية، التي حفلت بأحكام فاصلة في قضايا مصيرية.

التزام بالعدالة

من نسل أسرة خلّد التاريخ اسم أحد أبنائها وهو الفريق سعد الشاذلي، أحد قادة حرب أكتوبر 1973، ولد أحمد محمد صالح الشاذلي عام 1955 في مركز بسيون بمحافظة الغربية.

وفي شبابه انتقل من دلتا مصر إلى عاصمتها، ليدرس الحقوق في جامعة القاهرة، ويتخرج فيها 1976 بتقدير جيد جدًا، ليبدأ رحلته مع القضاء ضمن دفعة تعيينات مجلس الدولة لتلك السنة، ويشغل منصب مندوب مساعد في المجلس في أبريل/ نيسان 1977.

بورتريه للمستشار أحمد الشاذلي. رسم: هشام عبد الحميد - المنصة 

الانتصار للعدالة الذي بدا في حكم جزيرتي تيران وصنافير، لم يكن استثناءً أو حالة فردية بالنسبة للشاذلي. فهو وإن كان الحُكم الأشهر، لكنه ليس الأوحد. وأربع عقود من اعتلاء منصّة القضاء والتنقل بين هيئاته المختلفة من هيئة مفوضين ومحكمة قضاء إداري أو محكمة إدارية عُليا، كانت كافية لأن يكون للرجل رأيه الراجح وقوله السديد في قضايا مختلفة، رئيسًا أو من قبلها عضوًا في هيئة محكمة أصدرته.

صدر حكم الشاذلي في قضية الجزيرتين بحيثيات في منتهى الموضوعية والدقة. وهذه هي السمة التي لازمت أحكام الرجل، القاضي الذي لم يحدث وأن خرج قوله متأثرًا برأي عام أو صعود وهبوط في بورصة السياسة.

فمن حكم بمصرية جزيرتين في 2017، هو من قضى قبلها بعام واحد برفض إسقاط الجنسية المصرية عن الرئيس الراحل محمد مرسي، وذلك في أوج فورة غضب عليه وجماعة الإخوان، لم يلتفت لها القاضي الذي استند ببساطة لأوراق وحيثيات تمثلت في "انتفاء المبرر القانوني"، ليكرر الأمر نفسه بحكم لصالح المدير الإقليمي لشركة جوجل وائل غنيم، كما رفض حرمان سياسي آخر هو أيمن نور من جواز سفره.

نعي السياسي أيمن نور للمستشار الشاذلي. صورة من حسابه الرسمي على تويتر

ثلاث شخصيات، حدث وأن اختلفت سياسيًا وأيديولوجيًا، وتتعرض لوصم واتهامات من قبيل "الإرهابي"، و"المخرّب"، و"العميل"، لكنها أمام الشاذلي لم تجسّد سوى ثلاثة مواطنين مصريين لهم حقوق لا بد أن يضمنها لهم القضاء بأحكام مجردة من الهوى.

وهذه كانت عقيدة الشاذلي، حتى لو حدث وأن أغضب حكمه فئات بعينها، ربما تكون ذات سلطة. فأن تُصدر حكم رفض إسقاط الجنسية أيضًا بحق ضابط مفصول ومغضوب عليه من وزارة الداخلية اسمه عمر عفيفي، فهذا يعني أنك لا تلتفت في أحكامك سوى للأوراق، دون نظر لأي اعتبارات أخرى.

و"الداخلية"، هي الوزارة التي قضى الشاذلي بإلزامها بإدراج "الخطرين على الأمن العام" فقط بالفيش الجنائي، مشددًا في حكمه على أن "الأصل في الإنسان البراءة. وأن الوزارة ملزمة بالمواءمة بين حقها في الحفاظ على الأمن العام وبين الحفاظ على حريات المواطنين واحترام الأحكام القضائية الصادرة لصالحهم أو القواعد القانونية الحاكمة التي تمنح لهم حقًا".

انحياز للحقوق 

ذلك الحكم الصادر ضد الوزارة، هو الذي جاء من الشاذلي في قضية لصالح مواطنين اثنين بإلغاء إدراج اسمهما ضمن المسجلين جنائيًا رغم حصولهما على البراءة في القضايا المتهمين فيها. وآنذاك قال القاضي إن الحكم صدر "حرصًا على سمعتهما ومستقبل أبنائهما وأقاربهما وذويهما".

حرص الرجل في ذلك الحكم على سمعة ومستقبل مواطنين. وفي أحكام أخرى كان حريصًا على أمور أخرى لا تقل أهمية عن السُمعة، مثل حقهم في مال الدولة وخدماتها؛ ما جعله يصدر الحكم الفاصل عام 2008 برفض خصخصة الهيئة العامة للتأمين الصحي.

حكم التأمين الصحي، صدر في أوج سلطة وقوة رجال أعمال الحزب الوطني، وبعد عقد من تعيين الشاذلي نائبًا لرئيس مجلس الدولة عام 1998، لكنه وحتى قبل وصوله لهذا المنصب كان له نصيب في أحكام تاريخية، لم تقتصر فقط على حكم بطلان سحب جزيرة القرصاية من أهلها المقيمين عليها. فالشاذلي، ومن موقعه السابق كعضو في دائرة الفحص بالمحكمة الإدارية العليا، شارك في إصدار أحكام قضت ببطلان خصخصة شركات قطاع عام ضخمة، مثل عمر أفندي وطنطا للكتان.

هذه الهيئة هي التي يعول عليها آلاف المواطنين في الحصول على الرعاية الصحية، وتلك الشركات الحكومية، بجانب كونها مصدر قوت مئات الأسر، فهي أيضًا التي كان يعوّل عليها آلاف المصريين في الحصول على منتجات وسلع بأسعار تناسب دخولهم المنخفضة.

هكذا، حرص القاضي بأحكامه على صالح فئات مهمشة في مواجهة تطورات متسارعة في عالم المال والأعمال كان بعضها يلعب لصالح الأكبر، ليخرج هو مُعلنًا ضمان القضاء لحقوق الأضعف، بأحكام كان منها ما قضى من خلاله في يونيو/ حزيران عام 2016 بإحالة مواد من قانون النقابات العمالية 35 لسنة 1976 للمحكمة الدستورية العليا، للفصل فى مدى دستوريتها، بعد أن اشتبه في عدم دستوريها باعتبارها "تحرم الطبقة العاملة من الحريات النقابية والحق في التنظيم".

.. وانتصار للحريات 

في حيثيات ذلك الحُكم الخاص بالعمال والنقابات، كان أول ما ذكره الشاذلي قرار بشطب أي إساءة لثورة 25 يناير وردت في عريضة أو مرافعة اتحاد العمال الحكومي ومحاميه، وحينها قال نصًا إن هذا القرار بشطب أي مثلبة ضد الثورة ليس إلا  "انحناءً من منصة القضاء العالية لقول الشعب المسطّر في الوثيقة الدستورية".

نعي المحامي خالد علي للشاذلي- صورة ضوئية من حسابه الرسمي على فيسبوك

احترم القاضي الثورة الشعبية التي تبنت واحترمت الحقوق والحريات كما بدا في شعارها الشهير "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". هذه المبادئ والمطالب الثلاث ظهرت في أحكام الشاذلي انحيازات لها، سواء كانت في قضايا تتعلق بحقوق مواطنين وفئات بعينها أو هيئات وتجمعات.

فالشاذلي الذي انتصر لحقوق العُمال، هو نفسه من أصدر خلال توليه رئاسة الدائرة الثانية بمحكمة القضاء الإداري حُكمًا بأحقية الجمعيات الأهلية في تلقي التمويل الأجنبي المشروع المرسل إليها تحت إشراف وزارة التضامن الاجتماعي، دون أن يكون للوزارة حق في حجب التمويل عنها.

قبل هذا، وأثناء عضويته بالدائرة الأولى في المحكمة نفسها، كان ضمن المشاركين في إصدار أحكام تنطوي على ضمان حريات أخرى، ليست نقابية ولا مؤسسية، بل شخصية من قبيل السماح للمسيحيين بالزواج الثاني، ومنح البهائيين الحق في الإعلان عن ديانتهم وإصدار أوراق ثبوتية رسمية لهم لا تحمل الديانات الثلاث المعترف بها من الدولة، فيما عُرف آنذاك بحكم (علامة الشرطة).


اقرأ أيضًا: ما كان من يوم الحُكم: احتفالات "تيران وصنافير" تنعش قلب القاهرة

هتافات مصرية تيران وصنافير داخل مجلس الدولة. الصورة: صفاء سرور- المنصة

الحقوق والحريات التي انتصرت لها أحكام الشاذلي شملت أيضًا العلاقات الاجتماعية، فهو صاحب حكم إصدار أوراق ثبوتية للطفل ثمرة علاقة الزواج العرفي الثابتة في الأوراق دون أي اعتبار لنزاعات الأب والأم في محاكم الأسرة، بل وإلزام وزارة التربية والتعليم بقبول الطفل في المدارس التي تتناسب مع مرحلته العمرية، فصار الحكم استرشاديًا لقضايا أخرى منها ما شغل الرأي العام.

أحكام العلاقات الشخصية الصادرة عن الشاذلي لم تتسم بالإنسانية فقط، بل منها ما كان تقدميًا مقارنة بما هو سائد من أعراف وتقاليد، مثل حكم إلزام وزارة الداخلية بعدم تغيير أسماء الأطفال بسجلات الأحوال المدنية دون الرجوع للقضاء، في دعوى أقامتها سيدة تضررت من ارتكاب شريكها لهذا الأمر، وحكم آخر في دعوى أخرى يقضي بإلزام الوزراة بتغيير اسم طفلة لتتبع اسم والدها بالتبني، وكانت حيثياته في هذا الحكم هو "تحقيق مصلحة البنت ونشأتها فى بيئة صالحة"، وذلك دون أي نظر لما قد يردده بعض المتشددين من تحريم للأمر.. فالإنسانية أهم.

بالتقدمية نفسها، أصبح المصريون في مأمن من الانعزال عن العالم والحرمان من استخدام وسائل الاتصالات الحديثة، وذلك بحكم أصدره المستشار عام 2016، يقضي برفض دعوى أقامها أحد المحامين لغلق فيسبوك وتويتر، لتأتي حيثياته لهذا الحكم لا تتحدث سوى عن أهمية حرية تداول المعلومات، كحق أصيل للمواطن.

هذا المواطن، هو مَن حرص الشاذلي على مدار أربع عقود، منذ كان في القضاء الإداري مرورًا بالمحكمة الإدارية العُليا وانتهاءً برئاسة الدائرة الحادية عشر ضرائب، على تحقيق أهداف القضاء تجاهه، من ضمانة لحقوقه الاجتماعية والاقتصادية والشخصية، والحفاظ على ممتلكاته العامة، فصار اسمه جديرًا بالتخليد في ذاكرة هذا المواطن، رغم الرحيل.