آلاء عبد الوهاب
مفكرات وأقلام.

مُفكرة العام الجديد: ذاكرتنا التي تبقى إلى الأبد

منشور الأحد 3 يناير 2021

تقف فتاة يُغطي شعرها الأسودٌ الطويل ظهرها أمام حوض المطبخ تُقطع وتَغسل لحمًا، خطأً تصيب إصبعها السكين، تُرافق دماؤها دماء اللحم في يدها، تغيب في أفكارها، يُخبرها عقلها: أنا أعاني سيولة الدم، يوقظها صوت والدة خطيبها: إنتي بتعملي إيه كل ده؟.

في منزلٍ يغلب عليه الترف، كانت تزور أمي منزل أهل خطيبها المسافر وزوجها المستقبلي، أبي. كانت جدتي كفيفة، ورغم وجود أيادٍ مُساعِدة في المنزل، إلا أنه كعادة كل أمهات الأزواج  يُرِدن مثلما يسمي أهل الشام، كِنة، كما نصفها في مصر "لهلوبة". سَخرت جدتي من أمي أنها تولي إصبعها النازف اهتمامًا، وعادت أمي إلى منزلها تبكي حبها الغائب الذي تتحمل لأجله التوبيخ والإهانة.

 أقلب الصفحة، أحاول فك الحروف المشوهة المموهة معًا، ثمة أثر قطرة ماءٍ هنا.

كانت هذه يوميات أمي في منتصف الثمانينيات.

حين وجدت مُفكرة أمي بعد وفاتها، تغيَّرت نظرتي لها، ولمنزل جدي وجدتي لوالدي إلى الأبد، ليس فقط من وجهة نظرٍ نسوية عن الموقف برمته، بل عن أمي التي وجدت في مذكراتها متنفسًا للتعبير عن الظلم وتوثيقه.

ربما الآن هو التوقيت الأمثل لتذكُّر تلك المُفكرة العتيقة، وها هي أجواء الميلاد والعام الجديد، وأزعم أن داخل أحد الصناديق المكومة أسفل الشجرة المُزينة، وفوق أرفف المتاجر، ثمة مُفكرة Planner، أو Note مثلما يسميها البعض، تنتظر مُدونًا وصاحبًا أبديًا.

فمتى بدأ الإنسان يَخُط تاريخ اليوم ويُتبعه مافعل فيه أو ما يريد فعله؟

مفكرة. صورة برخصة المشاع الإبداعي: Eric- فليكر

الإنسان والتدوين عبر التاريخ

في البدء كان التاريخ شفهيًا وظن البشر  ذلك أنه حسن، تُمَرَرُ الأحداث اليومية حزينها وسعيدها إلى  أنفسهم ومن حولهم والأجيال بعدهم عبر الحكايات، إلى أن طوَّر الإنسان الكتابة، ربما يخيَّل إلينا أن مفهوم حمل المفكرة وكتابة اليوميات والمهام جديدًا، لكن أسلافنا مارسوها وعرفوها جيدًا.

 قبل حوالي أربعة آلاف وستمائة عام دوَّن ميرير، مسؤول بناء مصري رفيع، يوميات قيادته طاقم مهمته نقل الحجارة  لبناء الهرم الأكبر، و في جداول يكتب ميرير التاريخ ويُتبعه ما أنجز وما فعل، ربما  فقط لمساعدته في نقل الأحداث بأمانة لمديريه، أو في اللحاق بما يريد فعله في يومه ومراقبة فريقه وإنجازه، مثلما نفعل نحن اليوم تمامًا، وهي أقدم بردية معروفة في عصرنا الحالي. 

ثمة نسخ أخرى لليوميات منذ حوالي ألفيّ عام  في حضارات شرق آسيا؛ الصينية واليابانية القديمة، وأشهرها كتاب الوسادة، المُدون عام ألف واثنين ميلادية، وهو ملاحظاتٌ وتأملات لـ سي شونجان، حول تجربتها ومعايشتها للبلاط الإمبراطوري في اليابان،  بسبب زوجها الذي يعمل مستشارًا رفيعًا للإمبراطور، وسُميت اليوميات بذلك، لأنها مذكراتٍ شخصية، ومكانها الأمثل يكون جوار سرير صاحبته، أو يُخبأ داخل الوسادة أو أسفلها. أما عربيًا، فتتصدر المشهد يوميات ابن البناء الحنبلي في بغداد والتي تعود  إلى القرن الحادي عشر الميلادي.

لكن، عذرًا مدام سي، تكشف المفكرات الكثير عنّا، نحن فيها عرايا، حين يتلصص أحدٌ على مفكرتي فهو يَدُسُ أنفه في عقلي، فهل يكفي حقًا إخفاء المفكرات الشخصية تحت الوسادة؟

المُفكرة تبقى إلى الأبد

جَزع أبي حين علم أن مذكرات أمي وقعت في يدي وأخفاها بعيدًا عنّي، وأتفهم موقفه، فهما في المذكرات حبيبين؛ امرأة ورجل، وكان أبي مُتقمصًا روح الشاعر امرؤ القيس وغزله في  ذلك الحين، ولذا يخجل مني إثر هذا الكشف، واضطررت بناءً على ضغطه أن أسأل على إحدى مجموعات فيسبوك عن وسيلة التخلص المُثلى من الورق المُستعمل، وإخفاء أثر الحِبر. وافقت على مضض لحفظ أسرارهما، رغم يقيني أنها كانت لتصبح مصدرًا خصبًا لي لكتابة نصوصٍ، ومشاهد سينمائية عديدة.

نتيجةً لتلك المأساة العائلية، يأكلنا القلق أنا وأختي حول مُفكراتنا، ونوصي بعضنا إن أصاب إحدانا مكروه، ستحرص الأخرى أن تحرق مفكراتها، مع وعدٍ صادق بألا تختلس النظر إليها، وهكذا ستموت أسرارنا معنا، ولن نُكرر خطأ أمي أبدًا.

رغم هذا أُفكر؛ كانت أمي مريضة، وتتوقع موتها في أيةِ لحظة، فلمَ سوّفت التخلص من مفكراتها؟ هل تعمَّدت أمي مثل بقية أسلافنا الذين وصلت إلينا مُفكراتهم، أن تترك حكايتها لمن حولها؟

قائمة مشتروات قديمة يظهر فيها اسم نوع من الأدوية. صورة برخصة المشاع الإبداعي: Deluxx- فليكر

التدوين يجعلنا أحياء

ربما من الأولى أن نسأل، لِمَ نكتب يومياتنا بدلًا من أن نتركها خلفنا، إجابة السؤال الثاني هينة. إذ أن سرد حكايتنا للآخرين عبر الإبقاء على مُفكراتنا، التي قد تحتوي ما نريد فعله في اليوم لا ما حدث فقط، وميزانية المنزل، وتبادل تفاصيلنا معهم، يُخَلّدنا، مهما غابت أجسادنا، يؤَطِر وجهنا بالنور، ويُحيط رأسنا بالاكاليل وحلقات الضياء كأيقونات القديسين في عقولنا، هذا الإنسان أراد شيئًا، وحاول فعله، أي عاش، وهذا ما نريده لأنفسنا جميعًا.

بعيدًا عن المجاز، لنعد لسؤالنا الأول، لِمَ نكتب يومياتنا؟  وهُنا لا يقتصر الأمر على نصائح الأطباء النفسيين في سرد فوائد تدوين أحداث يومنا ومهامِنا على عقولنا ونفوسنا لجعل تلك الفوائد سببًا مُشجعًا لنا وممارسة التدوين.

 تشير المعالجة النفسية المتخصصة في العلاج بالكتابة، ومديرة معهد الكتابة العلاجية، كاثي آدمز، خلال تقديمها لكتاب تلميذتها عن الكتابة العلاجية أيضًا، أن ممارسي هذا النشاط يتمكنون رؤية أنفسهم بوضوح ويدركون موقعهم من الحياة. ببساطة، تُقوي كتابة يومياتهم بصيرتهم، وتُطور فهمهم لواقعهم وتاريخهم الشخصي، وبالتالي يعرفون مُشكلاتهم، ويَسهُل عليهم حلها.

بالإضافة إلى ذلك، يرى مختصون أن كتابة اليوميات وتَتَبعها، يقلل من حدة الاكتئاب، ويخفف من القلق، كما يجعل تقبلنا لمشاعرنا أكثر خِفة.

رغم تلك الفوائد العلمية، إلا أنني أعتقد أن تدوين ما يحدث في أيامنا، وربما الحرص على متابعتها واللحاق بها هو  ببساطة ما يجعلنا بشرًا. 

قطي شوشو، إن سَلَمنا أن السنوريات لا تُخطط لغزو العالم في العام الجديد، لا يعرف تاريخ اليوم وهو غير مُكترثٍ بما حدث في السابع من نوفمبر/ تشرين الأول الماضي، لكن ها أنا أبحث عن تاريخ اليوم في مُفكرتي. ورغم أنه كان يومًا عاديًا، ولم أتم فيه حتى قائمة مهامي، إلا أنني عرفت ذلك، لا بالمُقاربة والتخمين، بل بالورقة والقلم، والأرشيف المادي في يدي.

يَمر ببالي أنه لهذا يصيبنا نحنُ البشر الغرور، أنا أعرفُ وأتذكرُ وأتأكدُ من مرور الأيام عليّ، لذا من الطبيعي أن يُعنوِن نيتشه في كتابه، هذا هو الإنسان، أربعة فصول بعناوين يزهو فيها بعقله وأفكاره، أحدها "لمَ أنا على هذا القدر من الحكمة؟".

بالطبع القطط أكثر غرورًا، لكن لنعد إلى نيتشه الذي يُصيبُه ذلك، وهو المُفكر، والفيلسوفُ، والمُجدد، فماذا عنّا نحن؟ ما أهمية تدوين يومنا وأفكارنا البسيطة في مفكرةٍ علينا وعلى ما حولنا؟

التعافي من الماضي بالكتابة عن الحاضر

في كل عام أحاول ترميم الماضي المُهترئ، وأزعم أن هذا ما ينويه الجميع. ليست المُفكرات، واليوميات، وقوائم المهام للمستقبل؛ بل هي للماضي، وعنه، ولتجاوزه بكل تأكيد، وهنا تكمن أهميتها لنا. 

أيضًا، أظن أننا نُقدِّرُ كتابة اليوميات لتقاطعها قليلًا مع الكتب المقدسة، أو ليس الهدف من التوراة،  والقرآن، والإنجيل، هو ممارسة يومياتٍ متطابقة في طقوس العبادات مثلًا بين أبناء الدين الواحد؟

كذلك في الكتب المُقدسة، بالإضافة إلى كِتابِ السُنة في الدين الإسلامي، ثمة مقتطفات ليوميات الأنبياء بشكلٍ ما، رغم أن أصحاب اليوميات هنا لم يُدونوا أحداث يومهم بنفسهم، لكن بالتبعية يتشبه الإنسان بالنبي الذي يؤمن به، وتُصيب اليوميات كفِكرة بعضُ الجلالة، تُصبح مُفكرة الإنسان لنفسه في وقتٍ ما من حياته توراته وإنجيله وقرآنه، ففي مفكرتي أُمثل أنني أُحكم قبضتي على يومي، وعلى جسدي، وما أمثله وأتبناه في عقلي عن نفسي وعن العالم.

أُحبُ القرطاسية، وأقدر التَخطيط بالورقة والقلم منذ صغري وأستعملها على الدوام، لكن لم أُحقق النسبة التي أريدها في  الإنجاز والبوح، لذا ينصحني معالجي أن أَكتُب بدقة ما أريد فعله في يومي كي لا تَمرّ الأيام وأنا أُحدق بالسقف. أفعل هذا بالفعل وأستعمل الأقلام المُلونة أيضًا، لكنّه أَراد مني، أن أُدون مَهامي زمنيًا على التوالي، مثلًا سيكون صباحي في السابعة والنصف، والقهوة والدواء في الثامنة، وتصفّح البريد الإلكتروني في الساعة كذا، وهكذا حتى نهاية اليوم.

كانت مُحاولة الانضباط في الوقت غريبة، لشخصٍ مِثلي له عائلةٌ يُحب الثرثرةَ معها، ويعتني باثنين من الحيوانات الأليفة، ينتظرانه في تفانٍ، حتى أمام دورة المياه، ويحب البكاء على اللبن المسكوب مثلما يحب عينيه.

لكن بدا الأمر مُحفزًا، ما ضير السير في مُفكرتي وفق جدول زمني مَرِن، بدلًا من قائمة مهام صارمة، وغير مجدية لزيادة الإنتاجية؟ وفي محاولة لتنفيذ الخطة الجديدة، والالتزام بها، بدأت عُروض بائعي المُفكرات غير المنطقية تتسلل إلى عقلي، ولوهلةٍ ظننت أن ثمة ورقٌ سحريٌ ما يُمكنني شراؤه للنجاح في المَهمَة المستحيلة، وهنا أتسائل بصدق هل ينحصر نجاح تدويننا، والالتزام بمواعيد تسليمنا، وترتيب أفكارنا، فقط عبر استعمال مُفكرةٍ مُلونة، إلى جوارها قلمٌ من عالم ديزني، ومٌلصقات لطيفة تملأ علبة كرتونية يتجاوز ثمنها أربعمائة جنيه؟

مُفكرةٌ بسيطة وقلم، هما كلُ ما تحتاج لتبدأ ال BuJo الصورة: Flickr برخصة المشاع الإبداعي

 الرأسمالية تتحكم في عقولنا

نمط الحياة السريع  الحديث، يتطلب منّا عقلًا يقظًا، ولمواكبة هذا النمط قد تكتب قائمة بمهام يومك، ومشتروات البقالة، وشعورٌ ما ألمَّ بك، وربما تدوِّن أيضًا تلك الأشياء على هاتفك الذكي، والهدفُ واضح، أن تَضع كُلُ ما في عقلك أمامك، لعلك تُفكر الآن أن أية ورقة وقلم ستفي بالغرض لكن للرأسمالية رأيٌ آخر.

 تنتشر المُفكرات والبلانرز  على اختلاف أحجامها وألوانها خاصةً في هذا الوقت من العام، و يَبتَزُكُ عاطفيًا بائعو الأدوات المكتبية والقرطاسية، بأنك مُقصِر في حق نَفسك وأحلامك، و هذه المُفكرة وملحقاتها بالتحديد، سَتُغير مُستقبَلُك غائب الملامح، لا بتغيير نفسك وعاداتك مثلما يقول المعالج النفسي، بل بتغيير مفكرتك القديمة إلى مفكرتهم. نعم، هي ذاتها التي تُكلف حوالي أربعمائة جنيه، يمكن أن تشتري ذات المائتي جُنيه لكنها، بحسب قولهم، سيغادرها غلافها الجذاب بفعل الزمن في منتصف العام، وستضيع أحلامك وإنجازاتك هباءً، وهو ما لا نتمناه بالتأكيد. 

ربما بسبب خِدع الرأسمالية وابتزازها  فقط، ازدهرت تجارة بيع المُفكرات، وكعادتها تحاول الرأسمالية، جعل  التخطيط والإنتاجية، والنظرة المُحبة للذات، بسبب الحالة المزاجية الأفضل نتيجة التدوين مثلما ذكرنا سابقًا، حِكرًا على الأغنياء الأكثر حظًا، وهو ما يثير السخرية، فالفقراء هم من يكدحون بالفعل من أجل لقمة العيش، لا أدَّعي هنا أن الأغنياء لا يعملون بالطبع، لكنني أقصد أن ثمة أناس يمكنهم التغيب عن العمل اليوم وغدًا وسيتمكنون من سداد إيجار مَنزلهم في الموعد المحدد، أما الفقراء فهم الذين قد يُطردون من مساكنهم للتغيب عن موعد السداد، لذا ربما لا يتمكنوا مُقاربة دخلهم ومُحاولة تكييفه لشراء الرزنامة والمُفكرة الرائعة.

تعود الرأسمالية، لتتحكم حتى في مفهومنا عن الزمن، لن تمكّنك الحياة دحض مرور أيامها عليك دون تغيير إلا بمُفكرة فاتنة، وإلا فكيف سترتب أفكارك وتعيش؟

دعوني أصارح بائعي تلك المُفكرات بالحقيقة؛ إن من يستطيعون شراء مٌنتجكم الأثير، دون حساباتٍ طويلة هم لا يحتاجونه من الأساس، وربما تسير حياتهم وفق نَمطٍ ثابت، ومستقر ماديًا على الأقل دونه، ما ضير مُفكرتي "الغلبانة" ذات الثلاثين جنيهًا، تقرضها كلبتي بأسنانها وتترك علاماتٍ مميزة إثرها؟ لكن خسرت الرأسمالية أمامنا، وأنا وكلبتي سعيدتين بالفوز.

ما يجعل الأمر مضحكًا أيضًا، هو استغلال الرأسمالية كفكرة، ومناهضتها على حدٍ سواء في الترويج لبيع المفكرات الثمينة، عبر استخدام صور وجمل تحتفي بالرأسمالية، أو تُنكرها، لتكون غلافًا مُتألقًا، وكأن أموالنا وحدها لا تكفي، بل يفضل أن ننفذ التجربة الاقتصادية الخاسرة ونخوضها مغَيبين حتى نهايتها بشكل ما، الفكرة، وتطبيقها، علينا في آن.

مؤخرًا أحاول تطبيق الـ BuJo، هي اختصار كلمتي Bullet Journal، وترمز إلى مفهوم مرادف للتدوين اليومي أكثر بساطة من التدوين في مفكرات مُقسّمة بحسب هوى صانعيها، وتحمل نمطًا من الرسوم هو ما يجعلها باهظة. مخترع المفهوم الجديد، رايدر كارول، يرى أن الاقتصاد والبساطة في التنفيذ هما المفهوم الأساس للـ BuJo. اختر أي مفكرة بيضاء، واكتب ما تريد فعله وما تحب بأبسط وأسهل وأسرع صورة ممكنة، وقَسمها مثلما يناسبك، أسبوعيًا مثلًا فقط، ويمكنك أن تُبدع فيها ما استطعت بألوانك وزخارفك المفضلة إن أحببت.

في الحقيقة لا أنفي عن نفسي الرضوخ للابتزاز، أقع أنا أيضًا في الفخ ذاته، اشتريت العديد من المفكرات الثمينة سابقًا واليوم الذي أمر به في مكتبةٍ تبيع المُفكرات، أَعُدُه "خروجه معتبرة"، وتًصبح الرأسمالية المتوحشة وأفعالها على قلبي بردًا وسلامًا، لكن لأكن صريحة لم تغير تلك المُفكرة الثمينة في عاداتي وإنجازاتي بل ما غير فيها حقًا هو ببساطة عقار مضاد للاكتئاب.

"ذروة الاغتراب الرأسمالي تأتي عندما يصير الإنسان نفسه سلعة"، في كتابه؛ الخروج من الرأسمالية، يمهد هيرفي كيمف؛ بهذه الجملة فصلًا  يتطرق فيه إلى تجارة الجسد بكل أنواعها وعلاقتها بالرأسمالية، بدءًا من عاملات الجنس، وتجارة الأعضاء، وتأجير الأرحام، وبيع السائل المنوي، وكي لا نغرق في الحديث عن كل هذا نسويًا وتاريخيًا، ونبتعد عن موضوعنا، أعتقد أن يومياتنا وتدويننا المستقبلي، نِتاج عقلنا داخل جسدنا، أضحى سلعةً أيضًا يبيعها لنا بائعي المُفكرات باهظة الثمن، لكن لتمام السرقة نحن من ندفع ثمنها. 

لنكن واقعيين، سيتمكن بعض الناس من شراء تلك المُفكرات، وإن كانت باهظة، ولن يبغضوا الرأسمالية وأشباحها، وربما أفعل أنا مثلهم إن صادفت مُفكرة يَحطُ على غلافها عصفورٌ أزرق، لذا أي الفريقين كُنت، الأكثر نفعًا الآن هو أن نُفكر كيف يتفاعل عقلنا مع مُحتوى المُفكرة؟ هل يتَغيرُ عليه حال اليوم الذي عاشه بعد كتابته؟

مفكرة مقسمة يدويًا، طبقًا لمفهوم الـBuJo- صورة برخصة المشاع الإبداعي: Amanda Hawkins- فليكر

نحن في عجلة الزمن

يُحفز التدوين والتخطيط اليومي الشِق العَدّاء داخل عقلي، وأظن أنني لستُ وحدي، فتلك هي ضريبته الطبيعية، أُفكر في اللحاق بما فاتني أو سيفوتني، أركض ولا أتأمل، لكنّي أُحاول ألا تجرفني تلك القوة معها، أُذكر نفسي أن لا فائدة من هذا الماراثون، سابِقي نَفسكِ القديمة فقط، وأُكرر على مسامعي قول الرافعي؛ "مقامك حيث أقمت نفسك، لا حيث أقامك الناس، فالناس لا تعدل ولا تزن".

لكن ليست هذه القضية الوحيدة التي تواجه المدونين، فالمشكلة الأبرز، هي مُحاولة إلصاق ما ليس بيومنا فيه، عبر تحليل موقفٍ ما وتأويله إلى غير محله، كأن نَخُط محادثة عادية مع شريكنا على الورق، لكننا نُحملها رومانسيةً بعد قراءتها أكثر مما هي عليه الواقع، بسبب تأويلنا المفرط لحديثه، وهو ما تَرفُضُهُ سوزان سونتاج، في كتابها ضد التأويل، وبما أن كتابة اليوميات والتخطيط تعبيرٌ عن الذات فهي فن أيضًا، ويجري عليهما ما يجري على الفن بأنواعه، وهو ألا يُأول ويُحَلل من قِبلِ عقولنا، هدفنا هو إدراكه، والاستمتاع به وتفجير مشاعرنا خلاله. يغير التأويل من الفن وصورته، ويَحدُ من سطوته على نُفوسنا، وغير مُجدٍ أيضًا، لأن يومنا رحل بالفعل، وبتأويل ما حدث فيه إلى غير محله سنعيش أيامًا تملؤها ضلالاتٍ لم توجد من الأساس.


اقرأ أيضًا: هوس اقتناء الكتب: من مكتبة إيكو إلى متلازمة دانينج-كروجر


يَتحكم الخوف على عقولنا من الأوهام والضلالات، في رؤيتنا نحن البشر إلى إنجازاتنا، وفي نظرتنا للزمن، ولا إراديًا يجعلنا نتواصل مع  أحداثٍ عديدة نعيشها وتأخذ حيزًا ضخمًا في يومنا لكننا نُفضل تجاهلها، ربما لهذا يُخيل إليّ دومًا أنني خارج نفسي، كأن ذكرياتي تَمسُ شخصًا آخر غيري، أغوص قليلًا داخل البلورة السحرية، أرى كُل شيء عَداي، لكنه ضَبابي، ومُشوش، كأنني نسيت ارتداء نظارتي، نظرة أرسطو للزمن ربما تُسعف عقلي في حل العقدة، لا يسير الزمن في خط مستقيم،  وهو أبدي، لا نعرف تحديدًا نقطة بدايته ونهايته، يتجدد بالحركة الدائمة للموجودات لكنّه لا ينتهي، واللحظة الراهنة هي مركز الزمن.

فيزيائيًا ثمة خطوط عدة للزمن بعيدًا عن فهمنا القاصر للماضي والحاضر، في الوقت ذاته، ثمة حواضر عديدة، وبالتالي مُستقبلٌ مُتعدد، أكوانٌ وليس كَونًا واحدًا. بشكلٍ ما، يحاول فلاسفة عدة وعلماء فيزياء الوصول بنا لنقطة،ألا تمييز بين نقاط الزمن، الماضي والمستقبل، لا فرق بينهما، كلاهما عائمان، لا يمكن الجزم بأسبقية فعلٍ ما على الآخر، كُل حدث له أبعاد قد تصنفه لأحد قريبًا ولآخر بعيدًا.

تبعًا لذلك، تذكرت أن وفاة أمي أثرت على حياتي، وما تزال تؤثر رجعيًا، لكن بشكلٍ ما، لم يعد هذا الحدث موجودًا في مفكرتي، ولا أتطرق له، لم يعد متصلًا بي مباشرةً، وأفكر هل هذا الحدث الغائب فقط من مُفكرتي، أم ثمة الكثير أتجاهله وأنكره، في لحظةٍ ما الآن بعيدةٍ عني، أمي حية، وقرارت حياتي ونمطها الذي اخترته إثر وفاتها عليّ، تبدو غيرُ مُبررة، لأنه في بُعدٍ ما لم يتغير شيء.

تٌنكرني ذاكرتي وتُنكر عليّ تغيري، لهذا ترحل عني، لست أنا الفتاة ذاتها التي رحلت أمها عنها في العشرين، وربما لم ترحل أمي بعد، تتنصلُ مني ذاكرتي وأعودُ جديدة، لذا أحملُ مُفكرتي في جيبي لُتَذكِرني ليس فقط بمهَامي، بل بنفسي وكَينونتي.

 يتراءى لي أن مُحاولة خلقِ فن من ما عشناه في يومنا خطوةٌ مثالية لمقاومة الحياة وضغوطها، أتذكر هنا قولًا مُريبًا لجدتي لأمي، حين يتمكن شخص من إنتاج شيءٍ لطيف من رحم شيءٍ بغيض، "يِعمل من الفسيخ شربات"، مذكراتنا، وكتابتنا، ومحاولة تطويع يومنا الذي قد يكون مأساويًا ليصبح جُملًا وإشاراتٍ منظومة، هو الشربات.