العنقاء وزجاجة البراندي.. معضلة الشيوعيين المتجددة

منشور الأحد 10 ديسمبر 2017

يعتبر لويس عوض من الأسماء المثيرة للجدل في الثقافة المصرية. خاض لويس معارك أدبية وفكرية، منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما أصدر ديوانه الشعري الأول "بلوتولاند"، متضمنًا ثورة على قواعد الشعر القديم، مما أدخله في صراع ومواجهة مع أبناء المدارس المحافظة في الشعر، ثم دعوته إلى الكتابة بالعامية المصرية، كمقدمة لهجومه الكبير على القومية العربية، والتي أيدها في مذكراته، ثم اعتبرها فيما بعد ضربًا من الأساطير، وفكرًا متعصبًا على حد وصفه، ليخوض بعد ذلك معركة كبيرة مع الأزهر، الذي صادر كتابه "فقه اللغة".

على المستوى السياسي، لم يكن لويس عوض أقل إثارة للجدل؛ أحب مصطفى النحاس وهتف ضده -كما يذكر حسن سليمان، في كتاب عن الحب والسجن والتسكع العاطفي- وكان أول من خلع الطربوش في الجامعة، في ثلاثينيات القرن الماضي. وانتمى إلى الاشتراكية الديمقراطية، التي دفع ثمنها بالسجن والفصل من الجامعة، وتعرضت أفكاره لانتقادات اليسار واليمين.

وصف غالي شكري، في فيلم أوراق العمر،  لويس عوض بأنه نموذج للتناقض. وهذا التناقض، في مسار لويس عوض الفكري والسياسي، سيوضح لماذا، وكيف كُتبت رواية "العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح"، التي تحاكم الحركة الشيوعية المصرية في الأربعينيات.

 

غلاف الرواية

طريق العنقاء الطويل

ظلت "العنقاء" حبيسة الأدراج طوال عشرين عامًا، لم تر النور بسبب رفض أبو بكر حمدي سيف النصر، صديق لويس، طباعتها، وكان لويس يعتبره أخًا، وأهدى الرواية له: "مادت بي الأرض يوم وفاته".

كان أبو بكر يرى أن الرواية تسيء للحركة الشيوعية المصرية. وحاول لويس عوض توضيح أنه لم يهدف إلى ذلك في الرواية، وذلك في مقدمته لها حين نشرها: "لم أقصد أن أندد بالشيوعية، ولا أن أنوه بانحلال الشيوعية، وإنما كنت أحاول أن أرسم نماذج بشرية على الطبيعة". وأضاف أن غرضه كان التنديد بالعنف.

ولكن وفقًا للويس عوض لم يكن إهداء الرواية الأصلي لأبي بكر حمدي، وإنما إلى اسماعيل صدقي: "إلى إسماعيل صدقي باشا، بطل 11 يوليو 1946، مع لعنات الأحرار".

كُتبت الرواية عام 1946، وينقل لويس عوض بعض شهادات من قرأها في هذا الوقت، فيقول عنها توفيق الحكيم "لو خرجت هذه الرواية إلى النور في عام كتابتها لغيرت وجه الرواية العربية". وأضاف دكتور حسين فوزي قائلًا: "إن الرواية سجل حافل ودقيق لحياة الشيوعيين من الداخل، واعتبرها وثيقة اجتماعية من طراز خطير".

بينما أدانها جموع الشيوعيين لتشويه صورتهم, ويذكر لويس عوض أن سكرتيرته -لم يذكر اسمها في مقدمة الرواية- وقد كانت تنتمي للحركة الشيوعية وقتها، رأت أن الرواية تجني على الشيوعية، وتحمل الكثير من المبالغات في رسم صورة الشيوعي المصري.

وأعطى لويس عوض مسودة الرواية لطه حسين، ولم يجد الأخير الوقت لقراءتها، وحرص عوض على أن يسترد المسودة منه عام 1951.

حكاية العنقاء

كتب لويس عوض روايته الوحيدة "العنقاء" في الثانية والثلاثين من عمره، وذلك بعد تأزم الوضع في مصر بعد معاهدة 1936. ساعتها لم يعد المصريون يشعرون بجدوى الاعتماد على القصر والملك أو حتى حكومات الوفد المتعاقبة. بالتالي كان اليمين، الممثل في الأخوان المسلمين، واليسار المشتت في فرق عدة؛ هما الجاهزين لملئ هذا الفراغ. ما أقلق عوض هو عدم إيمان الفريقين بالديمقراطية وقبول الآخر، حيث بدأت تجتاح مصر نوبة من العنف المتبادل بين الفرق السياسية، وشهدت مصر تفجيرات وعمليات اغتيال لشخصيات سياسية وفكرية وقضائية.

شعر عوض بالقلق من هذا الفراغ السياسي، فحاول من خلال روايته، أن يناقش ويحاكم الشيوعية في مصر فلسفيًا، بطرح صراع الأضداد والتناحر بين الطبقات، ليبين خطورته على المجتمع، إذا دار هذا الصراع بدون ضوابط أخلاقية تحكمه. وبرع عوض في رسم خلفية الرواية، التي تقع في الأربعينيات؛ حيث تستطيع أن ترى دور السينما والنوادي والقنابل والاغتيالات السياسية، والصراع بين الشيوعيين المفتتين، والكتلة الصلبة للإخوان.

رسم عوض الشخصية الرئيسية للرواية، حسن مفتاح، سكرتير عام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، كسكير يرى العالم من خلال زجاجة البراندي، وعبر عن هشاشة فكره بميل الشخصية للخيانة، إذ خان حسن مفتاح رفيقه وعاشر زوجته الأرستقراطية.

وبشكل ساخر وصف عوض حسن مفتاح بأنه يقسم المجتمع تقسيمًا طبقيًا على أساس الجنس، فالبرجوازيون يمارسون الجنس بعد الثانية صباحًا، والطبقة المتوسطة بعد العاشرة مساء، والفقراء وحدهم قد يكتفون بالقبلات، ولكن بعد الثامنة مساء. يوحي عوض من هذه القسمة الطريفة أن الشيوعيين المصريين يعرفون عن عمال الاتحاد السوفييتي أو عمال مانشستر أكثر مما يعرفون عن العمال في مصر، كما أشار في مقدمته.

لم تحدث انقلابات كبرى في شخصية حسن مفتاح إلا بواسطة ميثولوجيا تناسخ الأرواح، والموت مرة بعد مرة، لعله يتمكن من بناء عالم أفضل لا تشوبه العيوب السياسية، التي رآها بين أبناء جيله. وللهرب من الهلوسات، فكر حسن مفتاح في الموت والعودة للبدء من جديد. وارتكن لويس إلى مناجاة العالم الآخر، ليبث شكواه السياسية من العنف والفساد السياسي، في عملية لتكثيف المناخ الديني في عقل بطله، والتي توحي ضمنيًا بانفصال حسن مفتاح عن العالم الفعلي والحقيقي، ويظل سجينًا لنظريات وأفكار ثورية يفشل في تنفيذها على أرض الواقع.

وبرع عوض في تقديم النزاعات النفسية داخل شخصياته، وكان الصراع بين تأدية الواجب أو الانخراط في الفساد المحيط، من أهم أسئلة الرواية، وتبدى في عدة شخوص فيها مثل شخصية ضابط الشرطة والخادمة. ورغم كل أخطاء حسن مفتاح، ظلت الشخصية تعبر عن حبها للشعب، حتى وإن لم يبارح خندقه. 

نلحظ في الرواية تمكن آفة الانقسام المدمر وروح الاستبداد من أغلب المنظمات الشيوعية، التي كانت ذات تأثير واضح وملموس في الحياة المصرية الاجتماعية والسياسية والثقافية، لهذا جاءت الرواية داكنة وحزينة رغم الحس الساخر فيها. وكذلك كانت نهاية حسن مفتاح، الذي شنق نفسه تخلصًا من الشعور بالذنب تجاه كل الخيبات في الحركة السياسية المصرية. 

كان  حسن مفتاح تجسیدًا لثقافة عصر بأكمله، وتظل الرواية انعكاسًا لهذا العصر، وما زالت شاهدة عليه حتى الآن. ربما لم تغير مسار الرواية العربية، لأنها لم تنشر في وقتها، ولكنها تظل من أجمل الروايات العربية حتى الآن.