بقايا اليوم: وقف الشريط في وضع ثابت

منشور الجمعة 1 ديسمبر 2017

 

عندما يدمرنا حب دورنا في الحياة.. هذا هو الاستنتاج الذي قد نصل إليه من فيلم "بقايا اليوم"، بطولة الممثل البريطاني أنتوني هوبكنز، وهو الفيلم المقتبس عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه، والفائزة بجائزة البوكر البريطانية، للأديب، الفائز مؤخرًا بنوبل للأدب، كازو إيشيجورو.

يتساءل كلٌ من الفيلم والرواية، "هل تستحق الكرامة أن نخسر ذواتنا، أم إن الخوف من شعور الملامة، والافتقار لضبط النفس، يجعل الحياة تتسرب من بين أيدينا؟"

وبعيدًا عن التساؤلات فالأكيد أن كلًا من إيشيجورو وهوبكنز، كانا متساويين، فكل ما قدمه الروائي كتابةً، أخرجه الممثل إلى الشاشة بعينيه. فنحن أمام تحفة من اليأس الهادئ بوجهين.

الرواية أولًا

 

الكاتب على غلاف روايته 

صدرت الرواية عام 1986، وهي ثالث رواية يكتبها إيشيجورو، ولم تختلف عن سابقتيها، حيث أبطال إيشيجورو دائمًا جانبين ومهمشين، وهنا بطل الأحداث، رئيس خدم وموظفين، والشخوص الجانبية هم اللوردات الإنجليز والأثرياء الأمريكان. تدور الرواية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث لا زالت ظلال النازية آخذة في التكون، بسبب سياسات خاطئة، (تحديدًا اتفاقية فيرساي).

الصراع النفسي لشخوص الرواية يعكس لحظة انتقال من الأرستقراطية وتقاليدها، إلى البرجوازية وحداثيتها، وما يحدثه هذا في النفس من قلق واضطراب لتغيّر المعتاد. وهذا الصراع النفسي يمثله بطل الرواية العجوز (رئيس الخدم - ستيفنز)، الذي، كما وصفه الكاتب سمير عطا الله، "لا يجد نفسه إلا في دور العبد، ويخشى أن يفسر سيده الاستقلال على أنه خروج على الخنوع وعبث في درجة الولاء. ليس السيد هو من يشك في ولائه، بل هو من يشك في ولاء نفسه ."

ويجسد هذا العجوز أيضًا "الغرب"، كما يقول الكاتب عنه، أنه يتملكه شعور بفقد العمق والتاريخ والتواصل. والرواية عمومًا تُكثف فكرة "الافتقار"، ويظهر هذا جليًا في العلاقة بين "ستيفنز" ووالده، وكيف دمرها هذا الافتقار إلى المشاعر، التي تتقلص أمام فكرة العمل، وربطها بالكرامة وضبط النفس -كما يشير سلمان رشدي.

يعمل ستيفنز بكل إخلاص، يخدم بكل جد، لكن يخدم من؟ هل يخدم سيده أم القصر؟ هو في نفسه يشعر بالقلق على وجوده. يرى أن العمل كرئيس خدم يعني التفاني؛ فالأمر مسألة كرامة. ويضيف الكاتب سمير عطا الله، "لكن نفسيته تقتضي منه أن يكون عبدًا. إنه في خدمة البيت لا في خدمة صاحبه. وفي النهاية، في النهاية، هو في خدمة نفسه، في خدمة وظيفته."

يدفع إيشيجورو شخوصه لولاء أعمى، يجعلهم يسقطون فيما يظنون أنه طريق النجاة. وذلك يخدمه لغة إيشيجورو المقتصدة والهادئة، حتى في المشاعر والحب أو تجاه أي أمر في الحياة. فبطله يلغي فكرة الزواج من أجل الإخلاص في عمله، يواري جثة أبيه سريعًا، من أجل العودة لاستعدادات الحفل، فالمتناقضات لدى إيشيجورو صادقة ومعبرة عن الحياة، فبدأت باللورد الذي تحالف مع الألمان، لتجنب الحرب إلا أنه سقط في العار حتى موته،  ومشهد موت والد ستيفنز، حيث الدور الاعلى (موت)، وفي الأسفل (حفلة) عشاء.

كتب إيشيجورو هذه الرواية في أربعة أسابيع. متحدثًا عن تجربته يقول، "لم أفعل شيئًا سوى الكتابة، من التاسعة صباحًا إلى العاشرة والنصف مساء من الاثنين إلى السبت، كنت أتوقف لمدة ساعة لتناول الغداء، وساعتين لتناول العشاء، كنت لا أقابل أحدًا، ناهيك عن الرد على البريد، ولا أقترب من الهاتف، ولا أستقبل أحدًا في المنزل."

وجاءت الرواية حاشدة للعديد من التساؤلات الأخرى، التي يوضحها سلمان رشدي في قراءته مثل،  "ما هي علاقتنا الحقيقية بالسلطة؟ هل نحن عبيدها أم حائزيها؟ وما هي اللغة الإنجليزية؟ ما هي العظمة؟ ما هي الكرامة؟" لهذا حقًا يعجبني وصف كتابة إيشيجورو بأنها قالب من الثلج المحافظ والمنضبط المكوَّن من ثقافتي اليابان وانجلترا.

الفيلم في ضباب الرواية

 

الفيلم بطولة أنتوني هوبكنز، وإيما تومسون، أو بمعنى أصح بطولة (عيني) هوبكنز، وخطابية تومسون أو مس كنتون (مدبرة القصر). فالشخصية الروائية لستيفنز ميتة من الداخل، لا يمكن لعينيها أن تعطي أي انطباع لتعاطف أو حب. فقط فراغ، واغتراب. 

فعندما مات والده، ألقى على جثته غطاء، وقال، بشيء من التململ: "هل كان من الضروري أن يموت في هذا الوقت.. ساعة الشاي والضيوف؟" ولا أظن أحدًا قادر على التعبير عن هذا الشعور النفسي الداخلي أفضل من هوبكنز، ابن البيئة الانجليزية أيضًا، وهذا قد يكون سهل عليه الأمر. فالحياة فقط داخل القصر لا شيء خارجه. مادام كل شئ بخير داخل القصر، ويسير وفق النظام، لا داعي للأهتمام بأي أمر آخر.

أستطاع هوبكنز أن يشعرك، كيف ترتهن هويته بهوية القصر، وهوية الآخر في ثنائية (السيد - العبد)، حتى وإن كانت وهمية، ولم يطلبها صاحب القصر. لكن، قضي الأمر! فرئيس الخدم، "عبد"، حتى وإن لم يُطلب منه. وأن حصوله على العمل في حد ذاته يعني له الكرامة، التي يخشى أن يفقدها، فهو يرى أن "الكرامة شيء قد يمتلكه الفرد أو لايمتلكه، نتيجة مصادفة من الطبيعة، وإذا كان لايمتلكها، فإن السعي وراءها يكون بلا طائل، مثل المرأة التي تحاول أن تجعل نفسها جميلة بينما هي ليست كذلك."

إلا أن الصدمة التي يُصاب بها القارئ أو المشاهد، هي نفسها صدمة ستيفنز في أفكاره، واعتقاده العميق، أن سيده يعمل من أجل خير الإنسانية، وأن مجده الخاص يكمن في خدمته. وقد برع هوبكنز في إيصال شعور الصدمة الذي يبرره الكاتب بأن "خداع الذات عبر هذه المآسي، يمنح البشر الشجاعة لإستكمال الحياة، وإستعادة كلمتهم؛ خصوصًا أن الناس دائمًا ما يبحثون عن العزاء والسلوى، وهذا لا وجود له."

تلعب مس كنتون دور الضمير، الذي فقده ستيفنز، فهي كانت تحاول أن تُخرج ستيفنز من سجنه النفسي، ليكتشف إنسانيته المهدورة تحت عجلة العمل، والتي اختارها هو بنفسه، ولم تُفرض عليه. حتى في ابتعادها ويأسها منه صرخت: "لماذا؟ لماذا؟ لماذا عليك دائما أن تتظاهر، خلف قناع من الكذب؟" ورحلت إلى أحضان رجل آخر. يمثل هذا صدى في عقل ستيفنز، وخصوصًا أن الأمور كلها تسير في ضبابية حلم، أو محسورة في كادر من الذكريات.

ليس ثمة قصة حب عاصفة هنا، لكن يوجد طرفا حبل كلٌ منهما يمسك به. وهذا ما يدفع التناقض في الاستمرار، والصراع بين إلحاح ميس كنتون، ورغبتها في العودة إلى القصر، وشكواها من حياتها الزوجية. وهل يخرج ستيفنز من قصره ليعيدها؟ ولماذا؟ فالأمور تسير بخير داخل القصر. أم أن صوت الإنسان الخافت بداخله مازال له تأثير؟

 

كادر تصويري عظيم من الفيلم 

استطاع المخرج، جيمس إيفوري، بهدوء كالرواية تمامًا، أن يقدم رؤية الكاتب، ويبين الانعزالية والأجواء الساكنة المحيطة بالرواية، فجأت معظم المشاهد لفردين، مكثفة وهادئة. وضيّق كادر التصوير على هوبكنز  كانعكاس لحياة ستيفنز الضيقة المحدودة. واستعمل الإضاءة الخافتة، كدلالة موفقة، يمكن تأويلها ما بين احتضار ستيفنز، والظلام الذي سيحل على أوروبا قريبًا، بسبب الحرب العالمية الثانية.

ربما حاولت الرواية والفيلم أن يجعلا عيوننا بلا دموع، بقدر المستطاع، لكن ليس بالقدر الكافي، فنحن أمام حياة ميؤوس منها. 

"بقايا اليوم" فيلم ورواية، عن حياة أحبطت.

روابط إضافية

THE REMAINS OF THE DAY

The Remains of the Day by Kazuo Ishiguro – a subtle masterpiece of quiet desperation

بقايا النهار

كازو إيشيجورو: لا أكتب روايات تاريخية