تصميم: أحمد بلال، المنصة
الرئيس الأمريكي جو بايدن

قرن الأزمة الممتدة الذي بدأ متأخرًا

منشور الخميس 2 مايو 2024

سبعة أشهر من التطهير العرقي الحي في غزة، جرائم حرب مكتملة الأركان وفقًا للتعريف المنضبط للكلمة، نشاهدها على الهواء مباشرة، بدعمٍ سياسيٍّ وغطاءٍ عسكريٍّ وماليٍّ من دول، ادَّعت الوصول إلى أعلى مراتب العقلانية والرشد التاريخي، لدرجة زعمها أنَّ التاريخ انتهى باكتمال نموذجها السياسي والاقتصادي.

سنَّ الغرب مفهوم الأبد مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، ورأى في نفسه اكتمال الحضارة إلى الحد الذي لا يدعو للتفكير في أي مستقبل إلا انطلاقًا من الليبرالية الأمريكية ونظام السوق الرأسمالي في صورته الريجانية. وتأبَّد الأبدُ مع ظهور الإنترنت وحقبة بيل كلينتون ونائبه آل جور ومعهما توني بلير في بريطانيا؛ عولمة تفرضها التكنولوجيا فرضًا، ورأسمال لا مركزيّ من فرط سرعة دورانه، وقيم سياسية كونية تطمح أن تتسيد في قيرغيزستان ورواندا والعراق مثلما هي مستقرة في كيبيك الكندية وأوريجون الأمريكية.

كيف انتقل إذن هذا العالم الموقن في أبديته إلى مرحلة يطلق فيها اسم "جو إبادة جماعية" على جو بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المنتمي للحزب الديمقراطي؟ وإلى حيث تتحول ألمانيا إلى حالة عصاب بوليسي يحمل أطياف الأيام الخوالي لأطوارها الشمولية؟ وإلى حيث أصبحت الديمقراطية الغربية محلَّ شكٍّ في المجمل، مع صعود يمينيٍّ جارف ويساري يسابقه، باتا يشكِّلان تهديدًا للنُظم المستقرة التي تأسست مع نهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا الغربية، وبُعيَد انهيار الاتحاد السوفيتي في أوروبا الشرقية؟

سأحاول في هذا المقال مناقشة العملية الممتدة التي حولت اليوتوبيا الليبرالية الغربية التي اِدَّعت نهاية التاريخ إلى ديستوبيا محتملة تهدد العالم بالفناء النووي على أكثر من جبهة، وسأحاول قدر الإمكان تحقيب هذه العملية تاريخيًا، بما قد يساعد على الإمساك بتحولاتها ومحطاتها الأبرز.

متى بدأ القرن الحادي والعشرون؟

حاول المفكر الإيطالي الراحل جيوفاني أريجي تحقيب القرن العشرين بتسميته بالقرن الأمريكي الطويل والقرن الماركسي القصير. رأى أريجي أنَّ القرن العشرين بدأ أمريكيًا بشكل مبكر في تسعينيات القرن التاسع عشر، مع النهضة الاقتصادية والحداثية المتطورة التي اقتصرت على الولايات المتحدة دون سواها من دول العالم، مما جعلها أشبه بالكوكب المنفصل عن باقي المجموعة الشمسية.

لكنه رأى أيضًا في القرن العشرين قرنًا ماركسيًا قصيرًا. قرنٌ بدأ متأخرًا مع الثورة البلشفية في روسيا 1917 ثم تأسيس الاتحاد السوفيتي، وانتهى مطلع التسعينيات مع انهياره.

في ظني المتواضع، بدأ قرننا الحالي متأخرًا مع الأزمة المالية الممتدة آثارها منذ 2008، فالعالم الذي سبق هذه الأزمة كان انتقاليًا، ولم يحمل أساسًا متماسكًا يضمن استمراره.

إنَّ ادِّعاء نهاية التاريخ الذي صاحب التسعينيات لم يكن مجرد شطحة جريئة من فرانسيس فوكوياما، بل عَنوَن نفسه في جملة من تصورات وسياسات وممارسات، لم تحمل الحد الأدنى من إمكانية الاستدامة سوى اتكاء المنتصر على الجثة السوفيتية المهزومة، متصورًا أنَّ الحرب الباردة هي آخر الحروب الكبرى، وأن من سينتصر فيها سيؤسس دولة الألف عام، في تصور مسياني لا يختلف كثيرًا عن تصورات الرايخ الثالث النازي.

تحدثت المجلات الأمريكية الرصينة في منتصف التسعينيات عن نمو اقتصاديٍّ أبديٍّ، وأننا في عالم أجمل من أن يكون حقيقيًا. حقبة بيل كلينتون الذي حسم حربًا مع صربيا من دون خسائر بشرية تذكر باسم العدالة الدولية، حملت ملامح الغرور الذي اختلط فيه اليقين الديني الأبيض بالهيمنة العسكرية المطلقة، التي لم يؤرقها إلا عمل إرهابي جسور وقع في 2001 ليؤكد القاعدة، لا لينفيها.

هذه الحقبة لم تتصور إمكانية أن يتأزم العالم اقتصاديًا مرة أخرى. ومن داخل يقينها المطلق هذا، لم تكن جاهزة لحدوث أزمة كبرى ولا لمواجهة تبعاتها. ربما كانت لديها في الأدراج خطط فنية عاجلة، كما تصرفت في خريف 2008، لكنها كانت خططًا تستند إلى نفس الذهنية الأبدية في التعامل مع التاريخ الجديد. وبالتالي، لم تكن مستعدة بالمرة للتبعات السياسية والاجتماعية الممتدة للحدث الذي لم يتنبأ به أحد.

من لحظتها، أصبح الركض خلف نواتج الأزمة والتعامل مع تبعاتها يومًا بيوم هو سمة السنوات اللاحقة، دون حساب إمكانية استئناف الأزمة عند أول منعطفٍ جدِّي. إلى أن جاءت جائحة كورونا وما تلاها من حروب، لا تزال في بداياتها.

خريف الانهيار الممتد

بدأت الأزمة تكشف عن كارثيتها مع إعلان إفلاس بنك ليمان براذرز الاستثماري الأمريكي، الذي تأسس عام 1850، وهو رابع أكبر بنك في الولايات المتحدة بعد جولدمان ساكس، ومورجان ستانلي، وميرل لينش. 

طُعِنت النيوليبرالية في منطقها المؤسس وبدلًا من أن تنظف السوق نفسها بنفسها راحت تنهل من الأموال العامة

أتذكر في هذا الوقت من خريف عام 2008 أنني أجريت نقاشًا مع مدير تنفيذي كبير في شركة أسترالية كبيرة كنت أعمل بها، عن الأزمة وتداعياتها المحتملة، وكان رده الواثق الموغل في يقين النيوليبرالية أنَّ السوق أكبر من بنك ليمان براذرز أو غيره، وأنها ستنظف نفسها بنفسها بدون أيِّ تدخل، وأنَّ الدم الجديد سيطرد القديم.

لم يصمد يقين الرجل كثيرًا، لأنني حين تحدثت إليه مرة أخرى بعدها بأسابيع كان شديد القلق إلى حدود الهلع من تطورات الأزمة وانعكاساتها على منصبه هو شخصيًا، وكان في الوقت نفسه مرحبًا بسياسات "التأميم" التي أطلقها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، تحت مسمى "حزمة الإنقاذ"، والتي جاءت على هيئة تريليونات الدولارات من القروض، وشراء الأصول، والضمانات، والإنفاق المباشر. بدأت بالأساس من أجل إنقاذ شركة AIG الأمريكية للتأمين، التي كان انهيارها يعني انهيار السوق كلها في تتابع الدومينو.

رافقت عملية إنقاذ AIG وغيرها من شركات كبرى وبنوك حالة من الجدل، حيث أنفقت بعض البنوك بعض أموال التحفيز في مجالات أكثر ربحية، مثل الاستثمار في الأسواق الناشئة والعملات الأجنبية، بدلًا من تمويل القروض المحلية وتنشيط الاقتصاد الحقيقي.

فجأة طُعِنت النيوليبرالية الريجانية في منطقها المؤسس وقَبِل الجميع بذلك، وبدلًا من أن تنظف السوق نفسها بنفسها، راحت تنهل من الأموال العامة لإنقاذ شركاتها في عمليات تميزت بالعشوائية والتسرع والفساد الرهيب.

انقلبت الأمور رأسًا على عقب في شهور قليلة، وأصدر جورج بوش، النيوليبرالي وصقر المحافظين الجدد، قرارات كينزية السمات ولكنها إجرامية المصالح. لقد دخلت النيوليبرالية في منعطف جديد، وهو النهب العام من أجل الاستمرار. لم يعد الأمر مجرد سوق مفتوحة يفترس فيها الجوارح فرائسهم، بل إطار لحماية رؤوس الأموال الاحتكارية إذا ما تصرفت بشكل غير رشيد أدى إلى تطايرها.

في 2008 كان كابوس الكساد الكبير الذي ضرب العالم عام 1929 محلقًا فوق الرؤوس. وكان تباطؤ وتردد الكونجرس والرئيس الجمهوري اليميني هربرت هوفر في التعامل الأزمة حاضرًا في الأذهان. وكيف أنَّ تأخُّر الإجراءات الحمائية حتى أواخر 1930 كان سببًا في تعاظم الأزمة إلى حدود جعلتها ممتدة وطويلة. كان من ضمنها إنجاب الأزمة من رحمها حكم أدولف هتلر في ألمانيا، وتُسبِّب اضطرابات اجتماعية غير مسبوقة في الولايات المتحدة، أسست عالمًا لم يستطع إنقاذ نفسه إلا عبر المخاطرة بوجوده في حرب عظمى، امتدت من 1939 حتى 1945.

فأيُّ عالم إذن أنتجته أزمة 2008 التي تم تسكينها بسرعة ومهارة، لتمتد بدون اضطرابات كبرى عالميًا، لا سيما في دول المراكز الرأسمالية؟ وهل نفعت المسكنات أم أنتجت عالمًا جديدًا في ملامحه، يهددك بالانهيار في أيِّ لحظة وهو في رحلة وهن غير مسبوق، وصلت إلى حد العجز عن التعاطي مع إبادة جماعية نشاهدها جميعًا ويوميًا على الهواء مباشرة من فلسطين؟

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.